28/09/2011

السرد ومتعة القراءة


 Ibn Batouta ابن بطوطة


توطئة

هذا المقال يروم التوجه إلى الناشئة من أطفالنا وشبابنا لكي نعودهم على القراءة  والتعلم الذاتين، عن طريق المطالعة الحرة، للقصص والمسرحيات ولا سيما الروايات..
بداية سأنطلق من فكرة قرأتها في غير ما من موضع، مفادها أن القصة القصيرة جدا هي النوع السردي الذي سيسود في المستقبل، وهي التي ستحتل مكانة الصدارة، لأن الإنسان الذي يعيش في هذا العصر ليس له الوقت الكافي لقراءة رواية لطولها أولا، وثانيا ليس له النفسُ والوقت لقراءة مثل هذه النصوص الطويلة، كالملاحم والحكايات الشعبية والسير.. والرد على هذه الفكرة، هو أن الغربيين عموما أكثر تقدما وأكثر حضارة منا في الوقت الراهن، فهم ما يزالون يطبعون آلاف الروايات والقصص..؟؟ وما يزالون يقرؤون، ويتابعون كل جديد، وهذا دليل على بطلان هذه الفكرة.

1 ـ القراءة وفوائدها

 إن مسألة القراءة هي تَعلُّم وتعوُد منذ الصغر، وهي تساهم في تثقيف القارئ وإثراء عقله وعاطفته، وُتكسبه دفعات قوية إلى الإبداع والنجاح في حياته العملية. وتظل القراءة منبر إشعاع بشري. فهي تعود الطفل /القارئ على الصبر والتروي، فيبدأ هاويا، ومع الزمن يصبح مدمنا عليها..
   ومن المؤكد أن ذلك يحتاج إلى تدريب هذا القارئ المحتمل / الطفل ، حتى تتحول القراءة عنده إلى حب، ثم إلى عشق لهذا المعشوق الحيوي الموجود في  القصص والروايات.. هذا السحر الذي يكمن بين السطور والكلمات، ومن ثم تأتي الفوائد الهامة التي يحصل عليها القارئ في ما بعد. وعلى النقيض من ذلك، العلوم والمواضيع الأخرى التي تكون نتائجها في حينها أوعلى المدى القصير، كالشعر والفكاهة والعلوم الإنسانية التي تكون فوائدها أثناء تطبيقها .بينما الفائدة من القصص والروايات تأتي غالباً مع استمرار تجاربنا في الحياة.. لأننا نتعلم من حياة الآخرين، ومن التاريخ والمعرفة وعلم النفس والجغرافيا المنبثة فيها.

2 ـ تدني مستوى القراءة

 تدني مستوى التعليم في بلادنا وفي العالم العربي أصبح غير خاف على أحد، وذلك راجع إلى ضعف القراءة والنفور من التعلم الذاتي في المقام الأول، ووراء ذلك طبعا نسبة الأمية وأمور أخرى.. وفي مقدمة هذه الأمور أننا لم نعود أبناءنا، كآباء ومدرسين.. وبالأحرى كنقاد، قراءة الأنواع السردية الطويلة والمتوسطة.. ولا أظن أن تشجيع الناشئة على قراءة (.. جملة أو نصف صفحة ) هي التي تعوّد الأطفال على القراءة الجادة، وتلبي حاجتهم لهذا النشاط الذهني المهم.
 بل ينبغي أن لا نحدد لهم الكمية التي يقرؤون، ولا ما يقرؤون.. بل نترك لهم حرية الاختيار: قصة كانت أم رواية، أم مسرحية.. ونحن إذا شجعنا أطفالنا على القراءة الحرة، سنعلمهم مسؤولية الاختيار، ونربيهم على حرية ما يختارون كمقروء، ونجنبهم الكسل القرائي، بل يجب تشجيعهم على القراءة بكل أنواعها: سردية أم معرفية حتى نخلق قارئ الغد، إن كنا نؤمن بفعل القراءة في تغيير العقول والنفوس والوصول إلى الغد منشود.

3 ـ الأشكال السردية والمتعة والتشويق

الأشكال السردية من قصة قصيرة، ورواية، وقصة شعبية.. بطبيعة مميزاتها تحتوي على جملة عناصر أساسية أهمها: الحكاية، والتكثيف، والوحدة، والمفارقة، والتركيز على الجملة الفعلية.. وبعضها يستخدم الرمز والإيماء والتلميح والإيهام.. وهذه كلها تحتوي على مجموعة من الحوادث المتخيلة في حياة أناس متخيَّلين، ولكن الخيال فيها مستمد من الحياة الواقعية بأحداثها وأشخاصها، وهذا ما يجعل الأطفال يتعاطفون مع شخصيات هذه الأعمال الإبداعية، لأنها تفسر تجربة قد وقعت، أو ستقع لهم أو لغيرهم من الناس الآخرين، وهذه الأشكال السردية تساعدهم على فهم إدراكهم وأحاسيسهم ومعاناتهم..
  كما أنهم يميلون إليها تحت عامل الجذب والتشويق، وهو أساس المتعة الفنية، لذا يجب أن يكون الكاتب عارفاً بهذه المهارات التي تشد إليه القراء كانوا كبارا أم صغارا، وأن تستفيد منها أكبر شريحة من القرّاء..
ولا يمكن أن نقول بأن هذا الشكل أصعب من ذاك، أي القصة القصير جدا أصعب من الرواية مثلا، لأن الكتاب يتفاوتون من حيث القدرات، وكل واحد يبدع في المجال الذي يحبه، ويهواه ويتعاطى له، ويراه أصعب من النصوص الأخرى. ومن الممكن أن يحول قصة قصيرة جدا إلى رواية. 

4 ـ فوائد الأشكال السردية 
     
الأنواع السردية، ومن ضمنها الرواية الأدبية نوع من أنواع الفنون إذا تعاطاها الطفل لمدة زمنية تنمي أسلوبه الأدبي، وتجعل لديه ملكة الفهم السريع، وتزيد من حصيلته اللغوية، كما أنها تنمي الجانب التخيلي لديه، فهناك فرق بين من يقرأ ومن لا يقرأ، وبين أن تقرأ رواية وأن تشاهد نفس الرواية فيلما، فالأولى أن الطفل يتخيل الرواية بعقله، ويتسع مجال رؤيته ووجدانه، والثانية أن المخرج يريه ما يراه هو، ويفرض عليه ما يريد. فإذا قرأ رواية من روايات الأدباء الكبار 
سيجدهم يصفون الشخصيات والأمكنة وصفا دقيقا كأنه يشاهد الشخصية والمكان أمامه من روعة  الوصف وهنا يكمن الفن.
 ومداومة قراءة الروايات الأدبية ورديفاتها سيجد الطفل/ القارئ نفسه يستطيع الكتابة بسهولة دون تفكير  في كيفية الصياغة، وما هي الكلمات التي يفترض استخدامها، وتقوي  عنده القدرة على التعبير عن نفس الفكرة، بأكثر من أسلوب، وبكلمات متعددة.. وأقصد بتلك الروايات التي يقرأها أكثر من مرة ويشعر في كل مرة أنها مختلفة عن المرة السابقة.
   والمهم من كل هذا، هو أن على الكاتب أن يكون متمرسا بصناعته، واصلا إلى هندستها بالطرق الفنية، وهذه الطرق تستلزم عدداً من الإجراءات كمبدأ الوحدة، وتشمل وحدة الدافع، ووحدة الهدف.. وحدة الانطباع.. حتى يأتي عمله الروائي الفني مؤثرا رائقا جذابا. وليس المعوّل في هذا طول العمل الإبداعي أو قصره، وإنما المعوّل على ما يحتويه من إبداع وإنجاز جمالي وتذوق فني.
 ومن المسلمات أن ما يميز الرواية عن الأقصوصة هو أن هذه الأخيرة صغيرة الحجم، وأن من طبيعتها التركيز: فهي تدور حول حادثة أو شخصية أو عاطفة مفردة، أو مجموعة من العواطف يثيرها موقف مفرد، لذلك فهي لا تزدحم بالأحداث والشخصيات التي ترتبط بالأحداث، وتتفاعل معها كالرواية التي تعيش وتتحرك وتحتك وتتصارع فيها حيوات كثيرة، ويلتقي فيها الطفل بتجارب وأحاسيس متنوعة تغني تجاربه، وتفسر له الكثير من أسرار الحياة

5 ـ الحكاية وفعل التشويق

والحكاية تكون مهمة في الرواية والقصة، وهي من العناصر التي تشد إليها الطفل بأحداثها المنسقة، ومن المفروض أن تكون ذات ترتيب خاص، تشوق القارئ وتجذبه إليها، فيتتبعها في شغف.
ويجد الطفل في الحكاية تفصيلات وأحداثا واستطرادات، وأوصافا تغني ثروته اللغوية، وتحسن  أسلوبه، وتنمي خياله الذي يمكنه من إنماء ملكة التخيل المبدع الإيجابي. وهي لب الرواية، ولاسيما تلك التي لها طابع أدبي وفني.
 ومن العناصر الرئيسية التي تؤدي إلى رواية فنية جيدة هي:
أـ الوحدة الموضوعية، وهي الخيط الذي يشد إليه كل الأحداث بطريقة منطقية، والشخصيات المتنامية الايجابية، والصراع غير المفتعل المنطقي..

6 ـ الشخصية الروائية والتأثير في المتلقي

من المعلوم أن هناك أنواع من الروايات، الرواية الواقعية والسياسية والتاريخية والاجتماعية.. وهي جميعها تتوفر على عدد كبير من الشخصيات المتباينة من حيث الأهمية من رئيسية وثانوية، وأثناء علاقتها ينشأ بينها صراع يؤدي غالبا إلى انتصار الخير على الشر.. وفي هذه الروايات تسري الحركة والصراع جنبا إلى جنب، ويتم فيها التركيز على الجانب الاجتماعي والنفسي والجسماني لإعطائها البعد الواقعي..
وإذا كان الكاتب في الرواية الاجتماعية يكشف عن المتناقضات والسلبيات التي يعاني منها المجتمع،   وذلك بهدف نقده، وإبراز سلبياته التي تعوق تقدمه.
 أما الرواية النفسية، والتي تقل فيها الشخصيات والأحداث، فيعمد الكاتب إلى التركيز على نفسية شخصيته، ويغوص في أعماقها ليكتشف المؤثرات التي  دمغت طفولتها الأولى. وللقيام بهذه المهمة لا بُدّ للكاتب أن يتوفر على ثقافة عالية، وفهم ودراية عميقة بالنفس البشرية، ويحيط بكل شخصية من شخصياته، ويكشفها للقارئ من خلال الأحداث، ويخلع عليها الأفكار الحيوية، لأنها تجسم المعاني التي يريد الكاتب أن ينقلها إلينا. والشخصيات وهي تخوض صراعات في ما بينها، تؤدي إلى الحركة الدرامية بمفهومها الشامل، والتي تؤسس التوتر والإثارة والمفاجأة، لتنتهي في الأخير إلى مصير البطل.

7 ـ سرد الأحداث والتشويق إلى القراءة

 السرد مكون أساسي في الرواية، وهو أن يتكفل السارد بنقل الأحداث مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، أي يرويها بضمير المتكلم أو بضمير الغائب. وهو عنصر من عناصرها البنائية، لذا ينبغي أن يلائمها من حيث بقية العناصر الأخرى جميعا، وعدم تنافره معها أو إعاقته لنموها. وقد أصبح السرد من المآخذ التي يمكن أن تطلق على أي نص روائي إذا نظر إليه بعين السخط التي تبدي المساوئ دون غيرها، مع أن الرواية لا تخلو من السرد دون أن يكون سمة بارزة فيها، فالكاتب يلجأ إليه عندما تقتضي الضرورة الفنية ذلك.
و هو يشكل طريقة لعرض الأحداث وتسلسلها. وقد  يحكيها الكاتب على لسان سارد، قد يكون بطلا وقد لا يكون، وهذه الطريقة تسمى السرد أو الحكي  بأسلوب ضمير المتكلم، كما أسلفنا القول، وعيبها أن جميع الأحداث، وما ترتبط بها من شخصيات، تُحكى من وجهة نظر السارد/ الشخصية التي تسرد الرواية، وأن بعض المواقف المهمة، أو أحاسيس الشخصيات الأخرى لا يمكن تسجيلها لبعدها عن التأثير في شخصية السارد. وكثيراً ما نعتقد أن الرواية التي تروى بهذه الطريقة هي ترجمة ذاتية لكاتبها. وكلما صدقت الأحداث مع الواقع جعلتها مقنعة ومؤثرة تأثيرا فعالا.
كما أن عامل التشويق هو أساس المتعة الفنية، لذا يجب أن يكون الكاتب مسلحاً بهذه المهارة التي تشد إلى روايته أكبر شريحة من القرّاء ..

8 ـ الحبكة الجيدة:

وهو ما يسمى ببناء الرواية، وهو المجرى الذي تندفع فيه الشخصيات والحوادث حتى تبلغ الحكاية نهايتها في تسلسل طبيعي منطقي، لا يحس فيه الطفل افتعالا لحدث
أو إقحاما لشخصية.
وهناك أنواع من الحبكة: الأول يعتمد على تسلسل الحوادث تسلسلاً مرنا أخاذا،ً يشد القارئ إليه، كما نجد في روايات المغامرات ..
والثاني يعتمد على الشخصيات وما يصدر عنها من أفعال وآراء وحوارات. وتكون الأحداث في هذا النوع غير مقصودة لذاتها، بل المقصود منها تحليل هذه الشخصيات وفهمها.
 والنوع الثالث نجده في الروايات التي فيها افتعال في الموقف أو في تصميم الحبكة، ويكون الحدث فيها غير نابع من طبيعة الموقف، بقدر ما يكون ناتجا عن تدخل السارد، وهذا النوع يُعد من أسوئ الحبكات، ويؤثر ذلك سلبا على الطفل/ القارئ.

9 ـ الزمان والمكان

الزمن هو الحيز الذي تتحرك فيه الشخصيات والأحداث  وهو يتسع ويضيق تبعاً لطبيعة الأحداث وهدف الكاتب من ورائها. والزمن في الرواية الجيدة هو الذي يكون واضحا ومؤطرا للأحداث والوقائع ..  
أما المكان فهو الحيز المصاحب للزمن، وهو يشمل منطقة، أو بيئة معينة بكل ما فيها من حياة وأحياء.
وكل حادثة لا بد أن تقع في زمان ومكان محددين، ومن ثمّ ينبغي أن ترتبط بظروف وعادات خاصة بالزمان والمكان اللذين حدثت فيهما.
 فالرواية تتسع لأماكن عدة وقد تنتقل من قارة لأخرى، وتنقل معها القارئ من بيئته إلى بيئات أخرى بعيدة، يؤثثها الطفل بخياله ومشاعره.
 والرواية تمثل بالضرورة بيئة، أي مكانا، وعصرا أي زمناً; وهذان البعدان، الزمكان، قد يتسعان البعد الزمني ويستغرق عمر البطل، أو أعمار أجيال متتابعة مثلما نرى في الكثير من الروايات، مدن الملح للروائي لعبد الرحمان منيف، ورواية الحرب والسلم لتولستوي، وروايات حنا مينا وغيرها..

10 ـ الوصف و الحوار

 أما الوصف فيعد تكسيرا لرتابة السرد وإغناء وتمطيطا له أيضا، كما أنه يريح السارد من عبء الحكي، ويريح القارئ كذلك من رتابة السرد الممل، ويكفيه عناء تتبع الأحداث.
والوصف إما خارجي أم داخلي. ويختلف في الروايات حسب وجهة نظر السارد إلى شخصياته، والأزمنة والأمكنة التي يتابع منها سير الأحداث.
ولا شك أن الحوار له نفس الدور، فهو يقوم أيضا بتكسير رتابة السرد، والكشف عن مكامن الشخصيات،  وتركها تعبر عن نفسها بأسلوبها الخاص، ويقوم بدور الإيهام بواقعية الرواية أيضا. ولهذا ينبغي أن يكون مركزاً، قوي الدلالة على الشخصية، زاخراً بالانفعال المناسب للأفعال والمشاهد المختلفة، حتى تأتي المواقف مقنعة ومؤثرة.

11 ـ الفكرة بين المتعة والمعرفة

إن الروايات الجيدة هي التي تحتوي على أفكار وأحاسيس وخيال يرتفع بالطفل والقارئ عموما إلى الرقي بوجوده وكينونته، ويفتح بصيرته بالواقع من حوله وبالعالم، ويوعيه بماضيه وحاضره. وهي التي تحتوي على منظومة من القيم الإيجابية السامية، يقدمها الكاتب للأطفال/ لقرائه كوجهات نظر دون أن يفرضها عليه فرضا، وهي التي تقدم معلومات عن الطبيعة البشرية بحس عميق، وبأسلوب أدبي جميل، يكون على شكل حكاية مثيرة للاهتمام وليست مجرد أحداث عادية بدون إثارة أو تشويق أو متعة.
وما من حكاية تَروي أحداثاً إلا لتقرر فكرة يقوم عليها البناء الهندسي في العمل الإبداعي. والروائي البارع هو الذي يوصل إلينا فكرته عن طريق غير مباشر، ومن خلال سرده للأحداث، وعرضه للأفكار، وبثه للأحاسيس الإيجابية . فالأفكار لا يعلن عنها الكاتب، بل تتسرب إلى عقول الأطفال/ القراء مع تيار الأحداث.
والكاتب يقدم كل ذلك من خلال مخزونه الذي تكون من تجاربه، واحتكاكه بالناس وبالعالم، وملاحظاته العديدة التي يُجمّعُها في نفسه.. وكل ذلك يحتاج إلى موهبة تجعل من العمل الروائي عملا فنيا له قيمته الجمالية والفنية.
وعلى من يكتب للنشئ عملا أدبيا، نهمس في أذنه بأن لا يكتب إلا عما يشعر أنه قادرٌ على التعبير عنه بيسر،  ويجيد الكتابة فيه بتَمكُّن، ويحسُّ أنَّه مفتون به بشكل كبير. أما عن الشخصيات التي يبدعها ويزرع فيها الروح، فينبغي أن تتفاعل أمامنا كشخصيات حقيقة من لحم ودم، حتى إذا انتهينا من الرواية أحسسنا بتغير فينا، وأننا خرجنا من هذه القراءة على غير ما دخلناها، وبدأ إدراكنا يتسع وآفاقنا تكبر وأحلامنا تطير في الأعالي.

12 ـ خاتمة

 يستفيد الطفل من خلال قراءة الروايات لغويا وأسلوبيا كما سبق القول، ولاسيما تلك الروايات التي تتمتع بجودة عالية. ففيها يعمد الكاتب إلى التنوع في الطبقات اللغوية، ويترك لشخصياته فرصة التعبير عن نفسها بأسلوبها الخاص، مستغلا تنوع الحوار وأساليب التهجين والتنضيد، وغيرهما من الأساليب التي تتعدد في الطبقات اللغوية في النصوص الروائية والحكائية.   الأمر الذي يشرك معه القارئ/ الطفل ويثيره ويشوقه إلى المزيد من القراءة، بما أوتي من إمكانات إبداعية تؤثر فيه تأثيرا إيجابيا مفيدا، ليصبح قارئا شغوفا، يحب القراءة ويعطيها الأولوية قبل الاهتمامات لأخرى، وبذلك نحصل على جيل جديد يعشق القراءة ويحقق التغيير المنشود.


                                                    د. معمر بختاوي

17/09/2011

أوطو- سطوب

 مهداة إلى نساء ورجال التعليم الأشاوس

"لابد من صنعاء وإن طال السفر" الإمام أحمد بن حنبل


 
كعادته، يجد نفسه مجبرا على الوقوف في نفس المكان الذي نزل فيه صبيحة الاثنين المنقرض. أحيانا يخيل إليه ولمن اعتاد رؤيته متسمرا هناك، أنه لم يبرح مكانه قط. سيان هو والشجرة العارية المتجذرة على حافة الطريق، التي استأنس بجوارها متخذا منها مثله الأعلى في الصبر والتجلد، كلاهما صامد في وجه الزمان العاتي، وصروفه المتغطرسة، لا يتزحزح عن موضعه إلا قهرا.لم يكن يعبأ بما يدور حوله، منذ أن قذف به هناك والصمت يلفه من كل جانب، ويثقل كاهله. لا يسمع سوى خشخشة الكيس البلاستيكي الأسود، الذي تتناوب عن حمله يداه، وقد حشاه ببعض القوت، والجرائد التي قد يلتهمها قبل نهاية الأسبوع. بجوارها تقبع أكياس أخرى من نفس الحجم، والنوع واللون، له فيها مآرب شتى. بفعل التكرار الذي بفضله يتعلم الحمار، ألف نظرات المارة المبطنة بالشفقة والاستغراب إزاء هذا الكائن الغريب، الذي ألقت به الأقدار في هذا المكان البئيس من أرض الله الواسعة. مما لا شك فيه أنه أضحى مثلا سائرا، تلوكه ألسنتهم في غير ما مناسبة، فهو رمز للإنسان الصبور، القنوع، الذي لا حول ولا قوة له، والذي تكفيه كسرة من الخبز اليابس، وحبيبات من الزيتون "المرقد"، ليحافظ على بقائه في الوجود تحت زمهرير الشتاء، وحر الصيف. منذ ساعتين أو يزيد وهو ينتظر في صبر جميل، كصبر أيوب، مرور سيارة أو شاحنة، تقله نحو وجهته المعلومة الملعونة.

ها هو يتمتم بشفتين ذابلتين" بسم الله الرحمن الرحيم يس والقرآن الحكيم... جعلنا من بينهم سدا ومن خلفهم سدا.... " لعل وعسى، سائق السيارة القادمة، يلين قلبه فيتوقف لنجدته. يلوح له بيده نظير غريق يتحسس حبل النجاة، لكن السيارة تمر بسرعة كالرصاصة، فتصفعه بغبارها، ينكس أعلامه، مطأطئا، رأسه متحاشيا عيني صاحب الدكان المجاور، الذي ما فتئ يمدد عنقه كالزرافة ليتعرف نوع السيارة المارقة، فلم يلمح شيئا، عدا زوبعة من الغبار المتطاير، تلف شبحا يحاول عبثا بث الروح في جسده المتفسخ. تمر اللحظات بطيئة، رتيبة، عسيرة، ملفعة بالضجر، تثقل كاهل الشبح الحالم بعودة الحياة لجسده المتحلل. مع مرور الوقت، بدأت همومه تكبر، وتزداد غورا، وتعاسته تزداد تشعبا واتساعا. عند سماعه لأزيز شاحنة آتية من بعيد شرع يتلو ما تيسر من آيات الذكر الحكيم. "بسم الله الرحمن الرحيم. طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى..." تمتزج الآيات بالأدعية والتوسلات بالآهات: يا حنان، يا منان، هون على عبدك الغلبان، يرفع ذراعه عاليا، يلوح بها يمنة ويسرة دون أن يتوقف لسانه عن القراءة، " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود وطلح منضود. يقف متضرعا مبتهلا، يتمطط كبطل الجمباز، مرددا يا ربي يا ربي ... ثم يعقب ذلك ب" أخ خ خ .. ع ع ع ت ت ت ف ووو، كمارة الجوع، ما ينفع ما يشفع كحليب الحمارة. الله يعطيك شي بروصي أكحل". تمر الشاحنة كسابقتها، ليبقى هو وحده، يعوم في بحيرة من غبار ودخان خانق. يبصق على وجه الأرض. يلعن حظه العاثر المتعثر. يلعن اللعنة التي ما انفكت تطارده بمخالبها المحمومة، وأنيابها المسمومة، منذ أول صرخة له في هذا الوجود، أو بالأحرى العدم الموجود. يسب هذا وذاك، وكل من كان سببا في تعينه هذه المنطقة النائية المنسية، وسط ركام من التخلف والركود والحرمان. في حسرة ما بعدها حسرة، ويأس وقنوط، يسأل نفسه إلى متى سيظل نابتا كجلمود صخر تأكله عوامل التعرية، في هذه الطريق العاقرة، الشحيحة، العابسة، المسمومة، الكثيرة المنعرجات، والمتمددة كثعبان، لا تجود إلا بالويل والثبور، والغم والغبار.؟

قبل أن يستشير عقله وقلبه، لملم شتات أفكاره، ونظر نظرة رحمة واستعطاف لقدميه المتورمتين، فقرر أن يعلق أشجانه وخيبة أمله في "الأطو-سطوب" على مشجب اللامبالاة، ليطلق العنان لساقيه كي تعانقا الريح والطريق. لقد أضناه المكوث لساعات طوال، في ذات المكان، تحت رحمة قرص الشمس الملتهب، حيث لا ظل إلا ظله. التفت وراءه عسى أن يرمق من بعيد سيارة تائهة، قد ساقتها الأقدار لنجدته، أو شاحنة دواب تزحف نحوه لتنتشله من براثن هذا الجحيم، فلم ير سوى السراب يتلألأ مستفزا عينيه بقسوة وإلحاح. حتى صاحب الدكان اليتيم في هذه المنطقة العجفاء، والقابع بين أكياس الدقيق والسكر، كتمثال أبي دعبل، سئم التفرج عليه طيلة هذه المدة. أخيرا انفتحت أبواب السماء، ها هو قد أوتي سؤله

هو ذا يركب سفينة الشرود. ها هو قد أصبح واحدا من أبطال العدو الريفي لا يشق له غبار. إنه يعدو بسرعة، لم يعد يبالي برتابة الزمن المتعفن، مع كل خطوة يخطوها، تزداد دقات قلبه شدة وحدة، وجسده يتفصد عرقا. ليس مهما أن يتبلل عرقا، المهم أن يحطم الرقم القياسي. تصفيقات المشجعين المحتشدين على جنبات الطريق تذكي النخوة الخامدة في كيانه، وتلهب مشاعره، ليرفع لواء التحدي بإصرار، ويقتحم خط الوصول في أسرع وقت ممكن. شيئا فشيئا، بدأ ينفلت عن الكوكبة التي بدت ككلاب صيد تلهث وراء فريسة. أحس بنشوة الفوز تدغدغ وجدانه، وهو يقتحم خط الوصول، عدسات المصورين تترصده حيثما التفت، تلتقط له الصورة تلو الصورة. أسئلة الصحفيين تتساقط عليه أفقيا وعموديا، زخات زخات... فتيات جميلات، يرشقنه بالورد والقبلات. اقتداء بسنة زملائه الأبطال، يريد أن يجثو على ركبتيه، ويخر ساجدا لبارئه، شاكرا إياه على جلائل نعمه، وعلى النصر الذي حققه بفضله وجوده. لكن السجدة تحولت إلى غفوة، والغفوة إلى غيبوبة، والغيبوبة إلى سكرات الموت. فتحول البطل إلى مجرد إنسان، والإنسان إلى علامة استفهام

- من هذا؟
- إنه سي فلان الفلاني .. معلم بدوار أولاد فلان.
- ماذا حدث له؟
- لقد عثر عليه أحد الرعاة مسجى على قارعة الطريق كما ترى.
- يا لطيف.
- إنه في حالة غيبوبة عميقة.
- لا...قل مات.
- إنا لله وإنا إليه راجعون.
- من فضلكم يا ناس، أفسحوا للفقيه ليقرأ على روحه ما تيسر من الذكر الحكيم.
- أين سيتم الدفن يا جماعة؟
- يستحسن أن يوارى جثمانه في القسم الذي يزاول به عمله.
- نعم الرأي والصواب، ذاك هو المكان الأليق والأنسب لرجل تعليم.
- هيا أسرعوا، قبل أن تجنح الشمس نحو المغيب، فيدركنا الظلام
- أجل.. ولا تنسوا تثبيت الشاهد جهة الرأس.
- ليكن الشاهد محفظته.
- حسنا فعلتم
بعد مراسيم الدفن التي تمت في جو مفعم بالأسى والخشوع، تفرقت جموع المشيعين. لينام المعلم قرير العين في مثواه الأخير.. و قد ارتدت السبورة ثوب الحداد، وبكته كراساته، وجرائده، وأقلامه تلك الليلة الليلاء.
 
في صباح اليوم التالي، حضر مدير المجموعة ذو السحنة المترهلة، والذي يشبه إنسان سلالة منقرضة من حضارة بائدة، ممتطيا صهوة دراجته النارية، لما اقترب من القسم الضريح لفت نظره الباب والنوافذ المغلقة، نزل من على الدراجة بعد أن أسكت محركها، وأسندها على الحائط- كونها معطوبة الرجلين-. قرع الباب ثلاثا، ولما يئس من انفتاحه كما يئس الكفار من أصحاب القبور، أخرج مفتاحا كان يدخره لوقت الشدة والأزمات، ففتح الباب. أثار انتباهه قبر البطل الهالك، تريث هنيهة، وعقد ما بين حاجبيه، واتجه بهدوء نحو الشاهد، حيث فتح محفظته الجلدية الحبلى بالأوراق والخواتم، واستل منها ورقتين، فتمتم ثم وقع وختم، فغمغم. انحنى على الشاهد بخشوع، مثلما ينحني واضع إكليل الزهور على قبر الجندي المجهول ليثبت الورقتين عليه. بعد ذلك حدج في أعلى السبورة، ثم نظر إلى ساعة معصمه ثلاثا، قبل أن يخرج من جيب معطفه الرث مذكرة شبيهة بالتي يستعملها صاحب الدكان السالف الذكر، ليكتب فيها ما شاء الله أن يكتب وهو يغمغم ويبتسم.

لما خرج أوصد الباب بإحكام، وما كاد يغادر القسم حتى سقطت الورقتان، الأولى تحمل في طيها استفسارا عن تغيب بدون مبرر قانوني، أما الثانية فكانت عبارة عن إشعار بانقطاع عن العمل. غادر المكان وعلامة الارتياح بادية على وجهه، ذلك ما أوحت به فرحة مقموعة تلألأت في عينيه كما البرق في ليل بهيم
...

أحمد بلكاسم

 من المجموعة القصصية لعنة باخوس