24/04/2013

تريفة



بين السهول والجبال
سالت الدماءُ
طال السجال
وما صُفّد الخيال

تريفةُ يا مولدي ومثوايْ
آتٍ
  كلهفة الحُباحبِ
في الهشيمِ
  لنجمٍ في السماء
كفرحة التراب بالرذاذ

تريفةُ يا مولدي ومثوايْ
آتٍ
 إلى تلّةٍ
حلا لأسلافيَ فيها الرقاد
إلى وادٍ 
جلا عنه الضّباب
حصاه عندي جُمان

تريفةُ يا مولدي ومثوايْ
آتٍ
أزاهير البرّ قطيعي
واليراع عصايْ
آتٍ 
إلى سقفٍ من قصبٍ
خبّأ الحكايا
حمى الأحلامَ 
سجّل الآلام
آتٍ 
إلى شذا البنّ الحنّاءِ
إيقاع المهراس

تريفةُ يا مولدي ومثوايْ
آتٍ
كالخطّاف الحامل الطينْ
كصدى بئر الأسرارِ
كأناشيد الجِرار

تريفةُ يا مولدي ومثوايْ
زهري الذي في هاتيك المروج
ما ضنّ بالأريج
وبيدري فيه لي
سنبلةٌ ساقُها نايْ

جمال الخلاّدي

بركان : 29.03.2013 
  

21/04/2013

د. محمد دخيسي يوقّع مقارباته النقدية، عن إبداع الجهة الشرقية


نظم المقهى الأدبي، مساء السبت 20 أبريل 2013،  بمقهى لاميرابيل، في مدينة وجدة، أمسية ثقافية لتقديم كتاب د. محمد دخيسي المعنون ب : مقاربات نقدية، قراءة في إبداع المنطقة الشرقية؛ شارك فيها د. مصطفى سلوي، والشاعر عبد السلام بوحجر، وسيّرها ذ. مولاي الحسن بن سيدي علي 

فهنيئاً للناقد والمبدع محمد دخيسي بهذا العمل الجاد، وشكراً للإخوان في المقهى الأدبي على سعيهم الدؤوب من أجل إقامة أمسيات ثقافية تسودها البهجة والحميمية،  إسهاماً منهم  بذلك في دعم الحراك الثقافي بالجهة الشرقية

مقاربات نقدية، قراءة في إبداع المنطقة الشرقية
د. محمد دخيسي
مطبعة نجمة الشرق ـ بركان
ط1 ـ 2012

د. محمد دخيسي
   مقهى لاميرابيل  -  وجدة
20.04.2013


19/04/2013

المبدع محمد العتروس في ضيافة البستان الشرقي



ترحّب مدوّنة البستان الشرقي بالمبدع محمد العتروس في فضائها، راجية لزوّارها الكرام أن يجدوا  في قراءة هذا الحوار المتعة والفائدة 

المبدع محمد العتروس


 1 حدّثنا، من فضلك، عن بداياتك الإبداعية!

 -  البدايات دائما صعبة لكنها بالمقابل ممتعة لها طعم اللذة الأبدية.. البدايات أيضا تأتي مغلفة بالدهشة والفرحة والاستكشاف، استكشاف الجديد والممتع. أنا ما زلت أعيش البدايات بكل الألق والدهشة والفرحة والمتعة الأولى. في سنة 1986 كنت طفلا (هل قلت جديدا) أحبو على درب الخربشات، أرسلت ما أسميه تجاوزا نصا إلى مجلة مشرقية للأطفال ونشر على صفحاتها.. الفرحة كانت عارمة والدهشة كانت أكبر وأنا أتوجه إلى مكتبة "عدلي" لأبتاع منه نسختي ثم فيما بعد ابتعت نسخة ثانية فثالثة بعد أن تدبرت أمر النقود ووزعتهما على الأهل. في 1988 نشرت قصة في جريدة "أنوال الثقافي" إلى جانب أدباء مغاربة وعرب مرموقين. من يذكر "أنوال الثقافي" الجريدة المتخصصة الوازنة؟ لم أصدق ذلك.. ابتعت العديد من النسخ ووزعتها. بعد ذلك أصبحت أنشر في عدد كبير من المنابر الوطنية والعربية والمهجرية. وشاركت في ملتقيات أدبية كبرى وأذيعت لي بالمغرب والجزائر العديد من القصص والأشعار والمسرحيات كما سجلت بالتلفزة المغربية مسرحية للطفل بعنوان "الصرخة". وفي 1994 وقعت شهادة ميلاد المجموعة القصصية الأولى "هذا القادم.." والبقية تعرفها أخي جمال.

 2  منجزك الإبداعي متمحور حول السرد : قصة قصيرة ورواية ... لمَ اختيار السرد للتعبير عن رؤيتك للعالم والوجود؟

- لم أختر السرد للتعبير عن رؤيتي للكون والعالم والوجود والإنسان، ربما كان هناك دافع خفي في جيناتي العميقة يدفعني إلى السرد. ربما لأنني سارد رغم أني كنت قليل الكلام وأنا صبي، ربما لأنني كنت أتقن الاستماع للآخرين والاستمتاع بحديثهم وهم يسردون قصصهم ومغامراتهم بل وأكاذيبهم و"فيوشهم" وكان لي موهبة كشف الحقيقي من الزيف في أخبارهم. وربما لأنني كنت كثير الاستماع إلى والدتي وهي تقص علي الحكايا وإلى جدتي وهي تتحدث عن الأشباح بكل تلك الثقة وعن "عمارة الدار" التي كانت "تخاويها" والتي كانت تترك لها حقها من الكسكس كل جمعة تلك المرأة ذات الشال الأحمر. وربما لأنني كنت كثير التردد على السوق الأسبوعي و"الحلايقية"، وربما لأنني كنت كثير القراءة وربما... ربما فقط لأنني كنت حكاء بالفطرة في وجود آخر.. لا أدركه لكني نتيجة له الآن فأصبحت ساردا. لكن هذا لم يمنع من أنني كنت أقترف الشعر وأقترف المسرحية وأقترف النقد.. أنا بدأت شاعرا رثائيا وملتزما وعاطفيا ثم انتهيت قاصا روائيا. فهل يعني هذا أنني اليوم سارد فحسب؟ لا.. أنا أشتغل على وبالأجناس الأخرى من أجل رفد وإغناء تجربتي السردية.

  3  أقدمت على مغامرة إصدار مجلة ثقافية، فصلية ورقية : مجلّة ديهيا، متبوعة بسلسلة منشورات تحمل الاسم نفسه ... هلاّ تفضّلت بتوضيح أهداف هذا المشروع الجريىء؟

- كما وضحت في مناسبة سابقة ف"ديهيا" هي مشروع ثقافي وحضاري محلي وجهوي ووطني طامح لخدمة الثقافة والأدب يأتي في سياق ما تتطلبه المرحلة من انخراط في التنمية البشرية والمجتمعية الوطنية والجهوية والتي يجب ألا يستثنى منها الشق الثقافي. وهي منبر حر فاعل ومنتج ومنفتح يطرح الأسئلة الراهنة ويعيد صياغتها وتشكيلها ويبحث في إمكانيات الإجابة عنها أو على الأقل يساهم في ذلك. وتسعى أن تكون إضافة نوعية وكمية لمثيلاتها في الصحافة الثقافية كما تهدف إلى تشجيع التلاقح بين الأجيال والتعريف بالأدباء المحلين .

 4  تعدّ من مؤسسي جمعية أبركان للثقافة والتراث، التي أصبحت، بفضل عملها الجاد، أبرز جمعية ثقافية في مدينة بركان، كما تحمّلت، مشكوراً، رئاسة مكتبها الثاني ... إذا كنت بصدد تقويم تجربتك الجمعويّة هذه، فماذا تستخلص منها؟

- كما قلت في أحد الحوارات السابقة، أنا كائن جمعوي بطبعي، ولدت جمعويا وسأموت جمعويا، انخرطت في الجمعيات صغيرا جدا لهذا لن أستطيع أن أكون غير جمعوي. أما إذا أردت تقويم تجربتي في جمعية "أبركان للثقافة والتراث" فأظن أن هذه التجربة كانت متميزة وغنية لأنها كانت فعلا مُؤَسِسا لعمل جمعوي وثقافي راق يتميز بالاحترافية والتنوع والفاعلية استفاد مما تراكم من تجارب وخبرات ومعرفة وعلاقات وطرق اشتغال جديدة على العمل الجمعوي المحلي. والنتيجة أننا أسسنا إطارا قويا وفعلا ثقافيا جادا لا يمكن القفز عليه أو إنكاره. لكن مع ذلك يجب أن نشير إلى مجموعة من الأعطاب التي كان لي – شخصيا - الوعي بمكامنها ولكن نظرا لأنني لم أكن الوحيد في تسيير الجمعية لم أستطع أن أعالجها بالطريقة المثلى: 1 عطب الخلف والانفتاح على الشباب وجعلهم ينخرطون في الفعل الثقافي والإبداعي. 2 عطب المحلية، بحيث أنني والأستاذ عبد الحميد عواج الرئيس الأسبق للجمعية كنا أول من نادى بها وشجع الأدباء والطاقات المحلية على إبراز مواهبهم لكن للأسف الشديد تم فهم هذه المحلية فهما خاطئا مما أدى ببعض الإخوة إلى اتخاذها مطية للانغلاق على الذات وإقصاء الآخر. 3 عطب ما يسمى النخبة، وأقصد أنه يجب أولا خلق هذه النخبة وتأهيلها ثانيا ودفعها لتحمل مسؤولياتها ثالثا. بمعنى أن تكون لهذه النخبة قابلية لتأهيل نفسها.

  5  ما جديدك الإبداعي؟

- هناك مجموعة من المشاريع الإبداعية المؤجلة.. من عادتي ألا أكتب تحت الطلب، ربما الإبداع يأتيني دفقة واحدة ثم يختفي، لهذا أنا مقل في الكتابة.. حاليا لدي مجموعة قصصية جاهزة للنشر لم أعطها عنوانا محددا بعد وفي ذات الوقت أشتغل على رواية جديدة.

  6  نرغب في أن تذكر خمسة أعمال أدبية تفضّلها، وتحرص على الاحتفاظ بها في مكتبتك.

- خمسة أعمال أدبية؟ هي أكثر بكثير، لكن إن أردت أن أحصرها في خمس أذكر لك فروسية المجاطي وسندباد بوزفور ومتاهات بورخيص وديوان المتنبي واسم وردة إيكو.

  ما هواياتك غير الإبداع الأدبي؟

- كنت أمارس العديد من الهوايات لكن مع الوقت للأسف لم أعد أمارسها بانتظام كالفن التشكيلي والرياضة كرة السلة واليد والسباحة والرحلات والسفر...

أعدّ الحوار : ج. الخلاّدي

من إبداعات محمد العتروس


مجلّة ديهيا الصادرة من بركان


16/04/2013

رواية "الموريسكي": تنفس التاريخ من ثنايا النص



تأتي الرواية التاريخية لتملأ الفراغات التي تتخلل سيرورة الأحداث، وهذا ما جعلها جنسا أدبيا ذا حساسية مفرطة، لا من حيث الكتابة ولا من حيث التلقي. لأنها قراءة جديدة للمعطيات التاريخية.
في هذا السياق تأتي رواية " الموريسكي" للمؤرخ المغربي والناطق الرسمي باسم القصر الملكي سابقا حسن أوريد الصادرة عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر بترجمة عبد الكريم الجويطي. وقد اعتمد الكاتب كتاب " ناصر الدين على القوم الكافرين" لشهاب الدين أفوقاي ليحبك في حضنه مرويته.

من خلال الإهداء الذي يتصدر الرواية ينتابنا شعور بأننا أمام مسلسل من المأساة التي صنعتها محاكم التفتيش في حق نسيج من البشرية ظلوا على هامش التاريخ منذ أن سالت دماؤهم وأُخرجوا من ديارهم، ولكن هذا الشعور ما يلبث حتى يزايلنا عندما نجتاز الصفحات الأولى من النص. إذ نُلفي أنفسنا أمام سيرة رجل من الموريسكيين هو بيدروـ أحمد شهاب الدين، رجل حالفه الحظ ـ من بين جماهير الموريسكيين ـ فكان من حاشية السلطان المنصور الذهبي، لتسترسل الرواية ـ في سوادها الأعظم ـ في حكي سيرته. وقد كان أبوه يلقنه العربية والفقه خفيةً في الأندلس بينما كانت زهرة ـ شقيقة الراوي ـ تعاني الأمرين من تقمص شخصية غير شخصيتها إذ كانت تظهر المسيحية وتخفي الإسلام، وها هي ذي تسر لأخيها بعدما برمت من لعب هذا الدور: "طيب يا بيدرو أو يا احمد ـ كما تريد ـ أنا متعبة من العيش مسلمة في داخل البيت ومسيحية في الخارج. في يوم ما سيتكشف كل شيء" ص44 ثم يسكت النص عن معاناتها بضع صفحات ليفاجئنا بأنها قتلت في ظروف غامضة وماتت ميتتة بشعة: " دييغو، عثرنا على جثة ابنتك غير بعيد من النهر، وجسدها مشوه تعرض للتمثيل"ص52 ، ثم بعد ذلك بشهور يموت والدها متأثرا بفراقها ليقرر الإبن ـ الراوي الهجرة إلى المغرب تاركا أمه ذات الأصول المسيحية تقضي باقي أيامها في أحد الأديرة " انزوت والدتي في دير للدومينكان. كان حزنها أكبر من كل اعتقاد ديني" ص54.
 عدا هذه المشاهد الميلودرامية، نرى أن البيئة الموريسكية، المثخونة بالجراح، لا يتم التعرض لها إلا على استحياء، بينما يتم طمس عتبة النص التي ظلت عالقة في ذهن القارئ وهو يحاول أن يسبر شيئا من أغوار البشاعة التي أتقنتها محاكم التفتيش باسم المسيحية. خاصة عندما يلفظ النص الجزء الأول من الرواية المعنون ب" بلدة الحجر الأحمر في خاصرة جبال البشارات 1585ـ1595" ويشرع في الجزء الثاني المعنون ب" مرلكش 1598ـ 1603"  وهكذا يلقي بنا النص في تيه المغامرات التي يخوضها الراوي والتي تحط به في مراكش في كنف السلطان (المنصور الذهبي) ليبتعد بنا النص عن تيمته ويلقي بنا في أتون المؤامرات التي تحاك ضد السلطان والتمزق الذي عرفه حكمه والذي شهده الراوي شهاب الدين. والذي يشفع لورود هذه التفاصيل في ثنايا النص الموريسكي هو أن الأقدار تريد أن تري الراوي ـ رأي العين ـ السبب الرئيس الكامن وراء نكبتهم، ألا وهو صراع الخلفاء الذي أدى إلى انقسام الأندلس إلى مجموعة من الإمارات الصغيرة المتطاحنة والتي سُميت بمماليك الطوائف، وهذا، يمكن اعتباره نوعا من التجانس مع الحالة التي دفعت إلى نشأة أزمة الموريسكيين. ولكن الكاتب أطنب في تلك التفاصيل حتى توارى الإنسان الموريسكي على مدار صفحات كان الأجدر أن يستدعي فيها عتبة النص التي توارت بدورها.

باعتبار أن الكاتب قد اعتمد على التاريخ والمتخيل، فقد اختار أن تكون شخصية شهاب الدين غير انهزامية، و هذا ما يبرر تنصيبها نموذجا للموريسكيين، فهو لم يركن إلى البكاء على الماضي وإنما راح يستغل قربه من السلطان المغربي ليشرح مظلومية قومه للعالم من خلال هولندا وفرنسا "كلفني السلطام مولاي زيدان بترأس الوفد المتوجه لبعض البلدان الأوربية لإخطارهم بالضرر الذي لحق بالمورسيكيين والتدخل لدى السلطات الإفرنجية لاسترداد ممتلكاتهم التي صادرها القراصنة الإفرنج" ص118 ولكن أية قوة هاته التي تكمن في شخصيته إلى درجة أنه نسي ـ أو تناسى ـ أهم فرد من أولئك الذين راح يضرب في الأرض ينتصر لهم؟ فهو لم يتذكر أمه إلا وهو واقف أمام الكعبة في أيامه الأخيرة "ما أن رأيت الكعبة حتى بكيت بدموع حارة، تراءى لي من أحبهم وبكيت، بكيت أهلى الموريسكيين، ضحايا أبشع الفظاعات، بكيت أبي وأمي وأختي زهرة" ص114/115، بل كان معه من الوقت ما يجعله ينسج علاقة غرامية مع امرأة باريسية وهو نفسه يتعجب من نفسه "أي قدر هو قدري! هربت من العقيدة المسيحية وصَغار من يتصرفون باسمها، وآليت على نفسي أن أقوم بمهمة دحضها...  وها هي أوجيني تزعزع كل الحجج التي أتسلح بها" ص145. فهل هذه طبيعة بشرية صرف، حتى وإن كان الإنسان يحمل على عاتقه مظلومية شعب بأكمله؟ أم أنه ضرب من ضروب تجسير الهوة بين حلقات السرد؟ أم أنها حقا منطقة رمادية في شخصية شهاب الدين؟  

كما أن النص، باعتباره رواية تاريخية تمنح التاريخَ متنفسا من بين ثناياها، لم تكن لها تلك الواقعية التي ينبغي أن يستشعرها القارئ، إذ في كثير من الأحيان نجد ترجيعا وصدى لجملة من الأفكار السياسية المعاصرة كاستعمال الدين للوصول إلى الحكم،" إنها طريقة لاستعمال الدين من أجل أهداف سياسية" ص 175، إلى درجة أنه انفلتَ من الكاتب العنصر الأهم في الرواية، عموم الرواية، ألا وهو عنصر الإيهام، إذ طفق يتهافت، خاصة في الصفحات الأخيرة التي بدت أنها بعيدة تماما عن تيمة النص، ليقول ما أخفق في قوله وهو يزاول عملية السرد.

كما أسلفنا الذكر. لقد كانت الرواية تنهي إلينا تفاصيل عن فترة حكم المنصور الذهبي وشقاق أبنائه حول الحكم بعد مماته. الشيء الذي يوحي لنا أن مادة الكاتب في هذا الصدد كانت شحيحة للغاية، فهو لم يتعرض لنكبات الموريسكيين إلا لماما، بعدما وخز فضول القارئ بشوكة الشوق إلى معرفة مسلسل المجازر الذي ألفه رجال الدين المسيح وأخرجته محاكم التفتيش أبشع إخراج، فها هي إحدى الحلقات الأكثر رحمة وشفقة " أججت النار، ووضعت ... قبعات صفراء على رؤوس المحكوم عليهم وألقيا في النار" ص27. بعد هذا تواصل السرد ينتهز الفرصة تلو الفرصة ليبث حسراته على ما آل إليه الموريسكيون، فها هو رودييس ـ أحد الوريسكيين المهجرين ـ يقول لشهاب الدين: "لأنك تحمل جرحنا وستعرف كيف تحافظ على الجذوة" ص 182/183. هكذا كلما أوغلنا في قراءة النص أحسسنا أن تيمته قد استُنفدتْ ولم يبق منها إلا شظايا بكائيات مدسوسة في خبايا النص  هنا وهناك. كذلك هو الشأن عندما يحاول رودييس أن يبرر مزاولته لعملية القرصنة فيقول: "إنه الجهاد البحري ضد الكفار وأيضا للإنتقام للموريسكيين الذين طردوا من ديارهم" ص190، لم يكن هذا إلا تحويرا يخدم تيمة النص بشكل ملحوظ ومفضوح ومحاولة لحشو الرواية بالنص الموازي ولو عنوة وقسرا. ولكن ما تلبث الرواية حتى تكاشفنا بالحقيقة الكامنة وراء لجوء رودييس إلى القرصنة حين يؤبنه شهاب الدين في يوم مماته: "أما أخطاؤه فهي وليدة الزمن الذي اضطرب فيه" ص196       


إن  أزمة الإنسان الموريسكي في أوجها ـ في نطاق الرواية ـ ليستْ إلا ذكرى للبطل شهاب الدين. أما الذين عاشوا اللحظة بمنتهى القسوة إبان انبثاقها فلا شك كانت أكثر دموية وبربرية. فالرواية لم تقدم لنا تقصيا للمأساة، بل مجدر شهادة لا نجد فيها سوى العزاء. وأظن أن كاتبنا قد زل قلمه عندما أقرّ بهذه الحقيقة على لسان الراوي: " وأشعر بواجب الإدلاء بالشهادة حول مأساتهم، مثلما أجد في هذا عزاء لي" ص200


لكنها تظل رواية تُحسب لصاحبها، فالرواية من حيث معالجتها للتاريخ سيكون لها ما بعدها على الرغم من المؤاخذات التي أشرنا إليها آنفا. أما الرسالة المتوخاة من ورائها فقد استطاعت أن تقرع باب التاريخ المسكوت عنه ولو بهدوء قاتل.. فعلى أقل تقدير، استطاع الكاتب أن يضع أصبعه على الجرح الغائر في جسد الأمة، ألا وهو ضياع الأندلس والذي جر في ذيوله نكسة الموريسكيين التي تمخضت عن حيرتهم على مدى النكبات، فها هو ذا شهاب الدين يبث شكواه في الصفحة ما قبل الأخيرة: "كنا بالنسبة للقشتاليين مسيحيين سيئين، ونحن مسلمون سيئون بالنسبة لبعض المورو، ولم يتح لنا، في الحالتين، أن نعبر عن أنفسنا" ص218، إنهم لم يجدوا بساطا يثبتون عليه وجودهم إلا بساط هذه الصفحات،  والمشوار مازال طويلا للكتابة في هذه المادة، مع بقاء الفضل للدكتور حسن أوريد الذي أثبت  جاهزية الرواية لكي تملأ الفراغ الذي خلفه التاريخ.

 إدريس يزيدي: شاعر مغربي مقيم في بلجيكا


15/04/2013

الشاعر الحسن رزوقي في ضيافة البستان الشرقي

هنيئاً للشاعر الحسن رزوقي بصدور ديوانه الثاني، ومرحباً به في مدوّنة البستان الشرقي



قبل الشروع في الإجابة على الأسئلة وجب التنويه بهذه المبادرة الجميلة التي تقرب المبدعين من القراء ومدونة البستان الشرقي كانت سباقة لمثل هذا العمل فهي ملتقى المبدعين والمتلقين الذين يلقون على صفحاتها شعرا ونثرا وألوانا وألحانا ويتعرفون على الجديد سواء كان إصدارات أو ندوات أو توقيعات وكان لي شرف نشر نص شعري ضمن أوائل النصوص الشعرية
هو "الجلنار" لهذا فالمدونة جزء مني أتفاعل معها باستمرار كمتلق و كشاعر...


    1 حدّثنا، من فضلك، عن قراء اتك الأولى التي أثّرت في اختياراتك الإبداعية!

أنا من مواليد 1956 خلال المرحلة الاِبتدائيّة لم نكن نعرف غير اسمين أو ثلاثة هم : معروف الرصافي وأحمد شوقي وحافظ ابراهيم وجاءت المرحلة الإعدادية وتمدد ت لائحة الشعراء لتضم أسماء كثيرة منهم القدامى كزهير بن أبي سلمى وحسان بن ثابت والفرزدق وغيرهم ومنهم المحدثون كهارون رشيد وإبراهيم طوقان وأبي القاسم الشابي وعبد المالك البلغيثي وآخرون ولم أسمع بالشعر الحر إلا في سنة 1975 مع أستاذنا أنذاك السيد الحسين الطاهري الذي أكنّ له بالمناسبة تقديرا خاصا لأنه فتح لنا  آفاقاً جديدة في القراءة وكانت البداية مع الفيتوري والسياب ومحمود درويش والبياتي .. كما أن الفترة كانت فترة حراك سياسي واجتماعي جد نشيط جعلنا احتكاكنا بالطلبة الجامعيين نتعرف على أسماء أخرى مثل مظفر النواب، عبد الله زريقة، عبداللطيف اللعبي، غارسيا لوركا، بابلو نيرودا، ناظم حكمت .. ونحن مازلنا في المرحلة الثانوية وقد جربت منذ ذلك الوقت الكتابة ونظم الشعر ولا زلت لحد الآن أحتفظ بدفتر خاص فيه الكثير من الخواطر والأفكار ولكنها معظمها لا يرقى إلى قصائد ولا تصلح للنشر   وإن  كنت أرسلت بعضها إلى بعض المنابر الإعلامية كجريدة العلم ومجلة العربي والبرنامج الإذاعي "ناشئة الأدب  الذي كان يشرف عليه المرحوم إدريس الجائي ...  ولا زلت أذكر أول نص نشرته لي جريدة الاِتحاد الاِشتراكي وكان عنوانه : أعراس في الظل وكان ذلك في بداية الثمانينيات وقد احتفظت به إلى جانب نصوص أخرى نشرت في مجلة اليوم السابع اللندنية سنوات ولكنها ضاعت مني / كما شاركت في عدة أمسيات شعرية كانت تقيمها تعاضدية طلبة المعهد العالي للتجارة وإدارة المقاولات تضامنا مع الشعب الفلسطيني

   2 كتبت نصوصاً شعريّة منذ ثمانينيات القرن الماضي ، ولم تصدر ديوانك الأول إلاّ نهاية العقد الأول من قرننا الحالي، فما دواعي هذا التأخر في النشر؟

هناك ثلاثة أسباب رئيسية أولها لكي تلج عالم الكتابة عموما والنشر خصوصا يجب أن تكون محسوبا على جهة سياسية أو جمعوية تستأجر لك مظلتها الإيدلوجية مما قد يقيد حريتك في الإبداع ويجعلك أسير المواقف السياسية التي لم تشارك في صياغتها .. ثانيا مناخ الحريات كان مزاجيا ومتقلبا إلى حد كبير والنشر قد يسمح به ثم يمنع ويجمع من الأكشاك والمكتبات كما لو كان علب سردين منتهية الصلاحية و قد تجد من يتبرع عليك في مخفر ما بتهمة " المس " و"كل ما من شأنه" فتنتهي حيث انتهى علي أزايكو وعبد الله زريقة وعبد اللطيف اللعبي وآخرون .. السبب الثالث اقتصادي محض فالمطابع كانت ترفض طبع أعمال تقل أعدادها عن 5000 نسخة وأخص بالذكر دار قرطبة للنشر التي طلبت مني سنة 1987 مبلغ 27000 درهم ل 5000 نسخة زيادة على دار التوزيع التي طلبت 40% من ثمن البيع الذي اقـتُـرِح علي أنذاك ولم يكن رصيدي البنكي في ذلك الحين يتجاوز 2000 درهم في أحسن الأحوال


 3 تعرف مدينة بركان ، مسقط رأسك ومستقرّك ، حراكاً ثقافيّاً ملفتاً... ما انطباعاتك حول الأمر، باعتبارك مبدعاً؟

هذا الحراك الثقافي رغم أنه يحرك المياه الآسنة في مدينة فلاحية بامتياز ورغم كل إيجابياته هو حراك خادع لأن معيار الثقافة هو مدى انتشارها وليس عدد المبدعين .. هؤلاء المبدعون الذين يكتبون في صمت ويتجشمون عناء الطبع والتوزيع وحضور كل المحطات الثقافية كالمهرجانات والأمسيات وحفلات توقيع المؤلفات الأدبية بالمساندة  والدعم لا يلتفت لهم المسؤولون المحليون و الوطنيون على حد سواء مع العلم أن الملصقات والمنشورات الاِنتخابية تعج بالوعود والأمنيات وتبشر بنهضة اقتصادية  وثقافية وشيكة .. كما أود الإشارة إلى أن حركة النقد لا تواكب حركة الإبداع مع استثناء ات قليلة مما يوحي أن نصوص المبدعين لا ترقى إلى المستوى المطلوب

  4 ما اقتراحاتك للاحتفال بالشعر في يومه العالمي؟

كل ما أخشاه هو أن يكون رجال الإدارة التربوية في المؤسسات التعليمية يرحبون بالمبدعين والشعراء ليس احتفاء بالشعر وانتصارا للثقافة وإنما تنفيذا لمذكرات وزارية تختم بكتابة تقارير على شاكلة  كولو العام زين " ...أما إذا كان تخوفي مبالغا فيه وليس في محله فإن الاحتفال يصبح ضرورة وليس ترفا كما أن مكان الاحتفال يجب أن ينفتح على أوسع جمهور ممكن ويغادر أسوار المؤسسات التعليمية لكي لا يبقى الإبداع شأنا تعليميا يدور في حلقة مفرغة .. كما أقترح بالمناسبة جمع الإبداعات التي تتوفر فيها شروط النشر في دورية سنوية بمبادرة من جمعية ثقافية أو جماعة حضرية كي تصل أكبر عدد من القراء وتعيين نص فائز ولو بجائزة رمزية.. المهم أن يكون الاحتفال ثقافيا وليس طقوسيا ..

  5 ما جديدك الإبداعي؟

أنا الآن أنتظر سحب ديواني الثاني "مد الكلام ..زجر السكون" عن دار الجسور بوجدة وسينزل للسوق مع نهاية مارس الجاري وأشرع مباشرة في الإعداد لديواني الثالث حتى أتمكن من نشر كل نصوص ثمانينات وتسعينات القرن الماضي وأتفرغ لنصوص العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين ..لأنني بكل صراحة أريد أن تظهر كل نصوصي على الورق كما أريد أن يستمتع القارئ بنصوص حديثة ويفهمها حسب سياقها الحالي


 6 هل لك أن تذكر عناوين خمسة أعمال أدبية ترغب في قراءتها ولمّا تسمحْ لك الظروف بذلك؟

أنا في الحقيقة مولع بالأدب العربي والتاريخ القديم لذلك أحب قراءة الجديد كما يهمني النهل من كتب التراث وفهم الأمور على حقيقتها دون تأويل يغلب الجانب الأيدولوجي ويغلف الواقع بستار من الطهرانية الزائفة لذلك فأنا برمجت اللائحة التالية ضمن اهتماماتي 
الأعمال الكاملة للروائي السوداني الطيب صالح
المتشائل لإميل حبيبي
اسم الوردة
الكتب التراثية وعلى رأسها العقد الفريد/ طوق الحمامة / طبقات ابن سعد
رواد الشعر الفارسي : رباعيات الخيام / حافظ الشيرازي / جلال الدين الرومي...


 7  ما هواياتك غير الكتابة الأدبية؟

أحب كثيرا الاستماع للموسيقى الكلاسيكية وأغاني محمد عبد الوهاب على وجه الخصوص كما أحب المشي والرحلات إلى خارج المدن للاستمتاع بجمال الطبيعة

مع تشكراتي

الشاعر الحسن رزوقي




أعدّ الحوار : ج. الخلاّدي

14/04/2013

صياد الظلال

·         صيادُ الظلالِ /  بقلم  : جمال الدين حريفي صيادالظلال
 
·         ( لاَ تزالُ تراقبهُ خلسةً وهو ينسجُ شباكهُ بمهارةٍ حول ظلها.....فيما يبدو  سعيداً بصيده الثمينِ)
                               صيادالظلال                                             (الكاتبة: مريم التيجي)
 
       جمال الدين حريفي ص
1               
                                
 ظلها كنز ثمين ...هكذا فكّرَ
ظلها أعظمُ كنزٍ لم يظفرْ به أحد أبداً
يكفيهِ ظلها
ويعرفُ بأنها تراقبهُ
لكنها تخطئُ حينَ تعتقدُ بأن لهُ مهارة ما في نسج الشباكِ أو رميها
منْ زمانٍ فقدَ المسكينُ كل مهارةٍ غيرَ أنْ يستظل بظلها
هي تعرفُ بأنه  ليسَ صيادَ ظلالٍ
وهوَ يعرفُ بأنهُ مجرد رجلٍ متعبٍ يريدُ أنْ يستريحَ قليلاً قليلاً
وليسَ أجمل منْ ظلها الوارفِ  
يستريحُ فيهِ

2

عَلى الأَقل في هذهِ الصحراء التي بلاَ ضفاف هي  تُجري  ماءً وتزرعُ نخيلاً وتومضُ أقمارُ كلماتِها فيرى ظلالَ إحداهن حينَ تخطرُ على البالِ أوْ فقط يعتقدُ بأنه يرى الظلالَ ويقبضُ عليها ..
فأحياناً يكتشفُ بأنه يقبضُ على الجمرِ فتحترقُ يداهُ
وأحياناً يحس بأنهُ يقبضُ على الحرفِ فيصيرُ شاعراً
بلا رغبةٍ في الشعرِ ..
..............
جميل هذا المشهدُ
.....................
واحدة تختلسُ النظرَ إليه أو تراقبهُ خلسةً
وواحدة لم تترك له غير ظلها
هما اثنتانِ
 
وهما واحدة في الآن نفسه
 هي تراقبهُ           
وهو يتسلى بنسج خيوطِ شباكه حول  الظل
أتراقبهُ أم تعاقبه ؟
ما أقساها
وما أتعسه
امرأة شرسة
تلهو بتمزيق جلد ضحيتها
   تمزقُ الجلدَ وتنظرُ سعيدةً إلى الدم يقطرُ من أظافرها                 
ولا ترأف أو تحنو
كيف تفعل ذلك  كيف  ؟
...............
ما أقساها عليه
وما أتعسهُ
                                                           3
وكانت حين تمر
تعكسُ الشمس ظلها خلفها
فيمتد الظل كخيط رفيع من العطرِ
ويمشي هو حين يراها
في أثر الخيطِ
مشدودا إليها
وإلى عطرها
يمشي في ظلها إلى حيث تمشي
يحملُ على كتفيه حزمةً من خيوط الكلامِ
وصرةً من مسامير الحروفِ
يدُقها حول الظل بلا مطرقةٍ
يحاولُ الصعودَ
يشد بكلتي يديه على خيط العطر
ويعض بأسنانه على لسانهِ
كي لا يتكلمَ
فينفضحَ   السرُ
يرفعُ على كتفيه الحملَ الثقيل من خيوط الكلام
يشد الحروفَ إلى بعضها لينسجَ الشباكَ
عقدةً
عقدةً
كالصيادين قال "سأفعلُ"
كالقراصنة المتسللين إلى الخلجانِ
يرمون شباكهم على كل  قارب شاردٍ
وهو يرمي شباكه على ظلها
فلا يصيبهُ
قد أخطأ الرميةَ
فجأةً تستديرُ المرأةُ
فتراهُ
ولأنهُ مشغول برتقِ الشباكِ الممزقةِ

لا يحس فوقَ جلده بنارِ   نظرتها المحرقةِ
تجلسُ المرأةُ بعيداً تراقبهُ خلسةً كعادتها
ينسجُ خيوطَ شباكهِ حولَ ظلها
ثم لكي تلاعبَهُ
ـ هل تلاعبُ إناث النمور طرائدها أمْ تلهو بها فتحاً لشهية الافتراسِ؟
تشدُ المرأة رأس خيطٍ من كبةِ  الكلامِ
وتشرعُ في  السل على مهلٍ  خيطاً خيطاً  حتى تتذرى الحروفُ كغبار يحجب شمسَ المعنى
هي تنكثُ ما كان ينسجهُ قبل الغروبِ
إذْ كانتِ الشمسُ في كبدِ السماءِ
وكان للمرأةِ عقل وظل
صارت الآن وصارَ..... مجنونين
أو مفتونين بسحر النسيج الذي يكادُ يشبهُ نشيجَ الروح وبوحها في السر
هو يخيطُ
وهي تنكثُ ما خاطَ
وبينهما ظل وارف
و ظل آخرَ واقف
وهما لا يعرفان لمن الظلان
فلاهما له ولاهما لها
إذ لا يصح أن يكون للواحدِ ظلانِ
أمْ أنه قد صارَ غيرهُ وهو لا يدري

أم تراها  صارت ظلهُ
 أم أنها ثارتْ ضدهُ وهما لا يعترفان
بأنهما ضدان لكن.......... متحدانِ

صارت هي  الآن التي تصنعُ الشباكَ لظلهِ وهو يفك خيوطها حتى أضاعا معا رأسَ الخيطِ وما عادا يعرفان
أين الأصلُ وأين الظل مما يريان؟
4

في تلك الطفولة التي كانت جميلةً إلى أقصى حد
جمعتهما الدراسة بالقسم الداخلي للثانوية القديمة لبلدته  القديمة
جمعتهما فسحة الصباحِ و فسحة الغداء وفسحة الزوال وفسحة المساء  وما قبل القيام وما بعد  السكونِ
جمعتهما شبهة الجنونِ
هناك تعلما فن المشي والتفكير الصامتِ في الأشياء.
سيتذكرُ وهو في السجن تلك العادة اللذيذة
الذهاب ثم الإياب ثم الذهاب ثم الإياب بلا توقفٍ
كأنما ينسجُ بخطواته شباكاً لصيادي الظلال
وحتى أصدقاؤه الخلص يعرفون
 بأن أحب الأشياء إليه  أن يفكرَ وهو يمشي
وكأنه أثناء المشي يقطفُ من شجرةِ الروح  فاكهةَ المعاني
كانت تمشي
وكان يمشي وراءها في تلك الفسحات
يمشي وراء ظلها على استحياءٍ مطأطأ الرأسِ
وهي كانت تفهم ولا تقولُ
تمشي ويمشي وراءها مطأطأ الرأسِ كما لو أنه سيرمي الشباكَ لاصطياد ظلها
ينظر دائما أمامهُ ولا يرفعُ عينيه أبداً إلى ظهرها
لا يرى قامتَها ولا يرى كتفيها ولا يرى جدائلَ شعرها المضفور بعناية أهل الجنوبِ

ظلها يمتد من كعبيها حتى رؤوس أصابع قدميهِ
والمسافاتُ بينهما  تطولُ تطولُ  كليل الشوقِ
تمشي ويمشي دون أن يرفعَ عينيه
فجأةً تتوقفُ ثم تستديرُ كأنما ستواجهه
بكلام أو سلام أو رفضٍ أو قبول
تستديرُ كأنها ستطمئِنه على ما هو فيهِ
وهو يمشي منتشيا بمراقبة الظل
غارقاً في غيبوبة الحالِ
يجدُ نفسه أمامها ملتصقاً بالجسد البهي وجها لوجه
تأخذُهُ الدهشةُ وتطوحُ به ولهانَ ولا يعرفُ كيف يرشفُ من الثغرِ المشتهى رضابَها أو يغرفُ من خمرِ وجدِه كأساً لسكرهِ
بها
أو لشكرِها  

يخبطُ القلبُ في الصدرِ وتنحبسُ الأنفاسُ
لا يتكلمانِ
ينظرُ خلفَه فإذا خلفَهُ ظلانِ يرقصان حول نفسيهما
ظلان ملتصقان  يدوران يدوران كظل واحدٍ حولهما   
ظلان متيمان..........بهما    
ثم ينظرُ إليها وإلى الظلين  مضطرباً
 كيفَ صارَ ظلاهما ظلا واحداً وهما
 اثنانِ؟
...........................
في تلك الطفولة التي كانت جميلةً وبريئةً إلى أقصى حد
كانت طفولتُه تضفرُ شعرَ الغريبة لتجعله جدائلَ للحكايةِ
وكانت  الحبيبةُ تفكُ جدائلَ الحكايةِ وتمشي أمامهُ في مرحٍ
......................
بعد سنواتٍ وسجنٍ خاطفٍ
أو بعدَ سنواتٍ وعشقٍ جارفٍ
.........................
مرتْ بخاطرهِ صورتها
التقيا صدفةً بالحي الجامعي
كانت تمشي كعادتها
تشبكُ يديْها خلفَ ظهرهِا كأنها تخفي وراءها الصراخَ الفطري
لكائناتِ البراري
لم يصعدْ أبداً صراخ من صدرِها
ولم تُسمع أناتُها في غاباتِ الروحِ
رأته ورآها
نظرت إليه خلسةً  كأنها تقول " راقبْ ظلي "
أو كأنها تقول ارمِ شباكك الآن .
أ يا صيادَ الحطامِ
نظرت إليه متواطئةً على السر ثم تقدمته هادئةً إلى الممشى
طأطأ رأسه ومشى وراءها على استحياء
فجأةً رجعتْ في أثر خطاها على عجلٍ
شدته من كتفيهِ نظرت في عينيه غاضبة و صاحت فيه  :
" أفقْ ..أفقِ الآن من الحلم "
تذكرَ بأن الطريقَ إليها كان طويلاً
تذكر بأنه لم يصلْ لأنها أيقظتهُ من الحلم .....
5

 

يخلفان الهمسَ وراء ظهريهما ويمضيان
جنباً إلى جنب يتقدمهما ظلان
بيدين
متشابكتين
ظل واحد لهُ ......هو ظلها
وظل واحد لها ...هو ظله
يمشيان أمامهما في تواطئ واضح
وأحيانا يلتفتان لبعضيهما ويتغامزان
الظلان يعرفان بعضيهما
وهما لا يعرفان
الظلان حبيبان  حبيبان
وهما.......
يخلفان الشمسَ وراء ظهريهما ويمضيان
جنبا إلى جنب..... لا يقول ولا تقولُ
يتقدمهما الظلان يتناجيان
واحد لها ....هو ظله
وواحد له ...هو ظلها
ظلان عاشقان
هي ..........................
هي........................
لا تزالُ تسرقُ النظرات إليه بطرف العين
فتراهُ
يرمي شباكَ عينيه حول ظلها ويرفعهُ عن الأرض
ثم يرتديه لباسا له .....سعيدا سعيدا بصيده الثمينِ
ظلها صار لباسا
................لباسا لهُ
وظله لا يزال يمضي أمامه ممرغا في التراب
أفاق من حلمه  بعد أن هزته من الكتفين
فرآها لاتزال تمشي إلى جانبه يسبقها الظل
تمشي إلى جانبه وهي تعرفُ سره
ويمشي إلى جانبها وهو يخفيه
لم تكن سعادته في صيد الظل و إنما كانت في اختلاسه النظر إليها وهي تراقبهُ سرا بطرف العين
كانت سعيدةً
سعيدةً
سعيدةً
بصيدها الثمينِ ....................................................
                                                                         
                                                                     القنيطرة:13/04/2013  

12/04/2013

حكاية الركَادة


بسم الله الرحمن الرحيم

ما قبل الحكي

      جلست يوما مع أحد معارفي وأقاربي في مقهى يمتلكها بالقنيطرة،فتجاذبنا أطراف الحديث عن "البلاد" و"الطرشة" التي ينحدر منها وعن "الركادة" مسقط رأسي.. وقال لي إنه رُوي له أن الذي اكتشف عين الركادة هو راع لأحد الأعيان كان يرعى بقرا وغنما،فضاع له ثور  فأخذ يبحث عنه. فبينما  كان يذرع  السهل الكثيف النبات والأشجار طولا وعرضا، إذ وجد الثور قائلا تحت شجرة بجوار عين ماء.. هذا ما سمعته من قريبي.. فتفاعل هذا الخبر في نفسي... وكنت أسمع من أمهاتنا خاصة أن العين تسمى لاله خضرا لاعتقاد الناس بأنها ولية أوتسكنها ولية.. وبعض العامة كان يعتقد أن مولاة العين "روحانية" سكنت أو تزوجت بعض الرجال من الأهالي.. وأنه كانت تعقد "وعدة" كل سنة يذبح فيها ثور... اعتقد شخصيا أن ذلك عائد إلى أن العين كانت نعمة على أهلها لأن ما حولها كان ما يزال إلى الآن عبارة عن حدائق وجنان.. وقد تسلط خبر  قريبي مع التسمية الشعبية للعين لدرجة الهوس علي.. فكان من هذا الهوس أن ولدت رواية الجناح الهيمان بنبع ركادة الوسنان عام 1996.. صدرتها بحكاية لاله خضرا التي زدت فيها ونقصت، وحاولت تبسيط لغتها في هذه النسخة التي سأعممها إن شاء الله في المواقع الصديقة لتعرف وتحكى أحجية للأجيال لتبقى على مر 
الزمان ...





"حجاية " لالا خضرا الرـادة


عين الركَادة 15.02.2013


" جيتكم يا اهلي ياخلاني ..يا حضره!  على جناح الشوق جيتكم، جايبني هوى عين "خضرا" المصونه محبوبه  كل الناس بنتكم، وجايب معايا حكايا حجايا.. سمعوا مليح وولوا ليَ كيف جاتكم!
حاجيتكم :
       كان  ياما كان..في سالف العصر والأوان،كان أحد  الفتيان يسمى "دحمان"،من أبناء المنطقة الشرقية للوطن الفرسان، عينه سلطان البلاد قائدا على المنطقة من حدود سهل أنكاد شرقا إلى نهر ملوية شمالا، وما بين قمم جبال بني يزناسن جنوبا إلى شاطئ المتوسط ومصب نهر ملوية  وشاطئ المتوسط غربا...
     وكان القائد "دحمان" أبلى البلاء الحسن حين قاد جيشا جرارا، جنوده أبناء المنطقة الأحرار الشجعان، الأمازيغ والعربان، لصد هجمات حفدة البزنطيين والصليبيين والرومان، بعد ان استولوا على فردوس الأندلس، وقتلوا رجاله ونصَّروا ما تبقى منهم وهرب من هرب إلى المغرب أرض الكرم والهمم، فطمعوا في ما وراء البحر، وزحفوا إلى البلد الأمين طامعين فيه .. إلا أن القائد "دحمان" ورجاله الشجعان وقفوا للعدو بالمرصاد فأغرقوا مقدمة جيشه في النهر وهرب الباقي يجر أذيال الخذلان.
     وكان مما تفضل به السلطان على الفارس "دحمان" أن بنى له قصرا على هضبة في سفح الجبل، وبعث إليه بجارية  سمراء مليحة تدعى "خضرا"، فاعتقها وتزوجها على سنة الله ورسوله، فعاشا قريري العين زمنا راجيين أن يرزقهما الكريم المنان ذرية صالحة تكون لهما أنيسا ووريثا..
   وطال انتظار الزوجين السعيدين.والتفَّ حول القائد الهمام حاشية منها ناصح صادق،ومنها ماكر منافق. فقالوا:
 "أنت يا مولانا ذو مجد وسؤدد،وفي خير وخمير..لكن ينقص قصرك العامر ذرية نرجوها لك صالحة مثلك، وقد قضت حكمة الرحمان،واهب المال والوِلْدان أن يكون للرجل من النساء مثنى وثلاث ورباع، لتكثير النسل وعمارة البلاد، وزينة لك ومباهاة أمام الأمثال الأنداد .. وما نظن لالاَّنا "خضرا"على ما نعلم منها من ورع وعقل، وخلق ودين إلا أن تكون قد فطنت إلى حاجتك الطبيعية للبنين والبنات، لما أعطاك الله من جاه ومال وسلطان.. وقد عهدناك فينا عادلا صالحا، وبنا برا رحيما.. ولن نرضى بغير ولدك وريثا لولايتك.."
   قاطعهم القائد قائلا: " لقد فهمت ما  قلتم ونصحتم به مخلصين صادقين، فبارك الله فيكم، فانصرفوا إلى دياركم وشؤونكم، وأنا إن شاء الله ناظر في الأمر.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.. وهو المستعان والمستخار."
     كان القائد "دحمان" مؤمنا محسنا،راضيا بقضاء الله وقدره،لا ييأس من رحمته،وكانت"خضرا"ريحانة العين والأنف والنفس،لايبغي بها بديلا،فكيف يؤذيها بضرة؟ 
            ومرت أعوام.. وبدا الشيب على الزوجين الودودين.. ثم ما لبث أن علت غُلالة من حزن من حرمانهما من الولد. حتى كانت ذات ليلة جاشت النفس بما تعاني وتجد. قالت "خضرا"ورأس المحبوب في الأحضان:
      "صاحبي: قد بلغت مرحلة من العمرلا ينجب فيها النساء. وما أريد أن يتحدث الناس عني وعنك بسوء.. وقد أمضيت معك عمرا هنيئا، ولا ندري أهذا العقم منك أم مني، ولكن لا أريد أن نعطل سنة الله في خلقه.. فناشدتك الله أن تتزوج عسى أن يهبك رب المال والولد ما تأنس به نفسك، وتعمر به دارك... ولك علي أن أرعى ودك،وأعز ولدك، وأشكر لك وفاءك.." ونقطع حديث الولاة والوشاة...
صمتت "خضرا" قليلا ثم أردفت : "ولكن  عندي لك رجاء يا محبوب ما أظنك تبخل علي بتحقيقه.."
     أطرق الفارس دحمان طويلا، وبدت عليه حيرة وتردد.. وأخيرا قال: " ما هي يا عزيزتي؟ اسألي تجابي".
    عندها قالت "خضرا" :  " لك في حجر الجبل عند بدء السهل بين فرعي وادي بوروللو أرضا واسعة، وأريد أن تستصلح لي منها قليلا من أمتار وتبني لي بها دارا آوي إليها وأخلو فيها بقية عمري لذكر ربي."
     وكان للمحبوبة ما تمنت..بنى لها زوجها دارا بالمكان الذي أرادت،وأرسل معها خادما يسمى "ميمون" وزوجه "مسعودة" ليقوما بخدمتها ويرعيا  أنعامها،وقد رزقا هما أيضا ذكرا سموه "رباح" وبنتا سموها  "فالحة".. ولما بلغ "رباح" الحلم..كانا يرسلانه  للرعي أسفل الدار بين أحراش غابة كثيفة أشجارها من عرعار وصفصاف وبلوط وعوسج شائك وغير شائك ونبات شتى أسود من خضرته لا يبلغ البصر مداه..
        وفي ظهيرة يوم حار.. بينما كان "رباح" يرعى ماشيته، غلبته شمس حارة، فانتبذ ظل عرعارة وارفة، فأخذه نوم عميق لم يفق منه إلا بعد العصر وقت العودة إلى منزل مولاته... وتفقد البقر والشياه، ولما أحصاها كعادته رأسا رأسا.. لم يجد بينها  ثورا أسود فحلا معروفا.. فانتابه خوف من مولاته.. وإن لم يعهد منها إلا  الكلمة الطيبة.. فجمع رعيته وقادها.. وأسر إلى والديه بفقدان الثور الأسود..
     هوَّن الأبوان عليه الأمر، وقرر والده أن يخرج هو و"فالحة" معه في الغد باكرا للبحث عن الثور الضال.
     وكذلك كان.. خرجا باكرا كأن لم يحصل شيء.وصعدا السهل باتجاه الجبل.. تاركين "فالحة" مع البقر والشاء.. سلك الوالد سبيلا واتبع الولد سبيلا آخر غير بعيد عن والده.. مشى الوالد مسافة. وكلما خطا خطوات كان يحس بقدميه تنغرسان في أرض رملية رطبة. وما هي إلا خطوات أخرى حتى لمح أثر أظلاف فرد من البقر تزداد انغراسا في الأرض... وتقدم قليلا بحذر، فإذا الأرض وحلة، وإذا بها مرتوية، وإذا جدول في الأرض يسيل رقيقا براقا تحت الشمس..وسار جنبه حتى أطل على قاع من الأرض به "ضاية" ماء صافية.. وعلى ضفاف "الضاية" حيوانات وطيور شتى لم يعرف منها إلا لقالق وخطاطيف ويمام وغزلان رقيقة جميلة..دنا قليلا في صمت.. طارت الطيور وتوارت الحيوانات في الغابة... تقدم في ذهول ومشى إلى أعلى الضاية فرأى نبعا منبجسا من رمل وحجر وحصى قليل.. وقف مبهورا.. جثا على ركبتيه وغرف غرفة من راحتيه ورفعها إلى فمه.. فإذا الماء زلال وبارد ثلج.. ذهل لحظة عما حوله.. لولا أن سمع خوارا ضعيفا غير بعيد.. تلفت جهة الصوت فإذا الثور في قيلولة تحت عرعارة يجتر ما رعى..
     لم تسع الأرض الرجل فرحا.. ونادى ابنه "تعال.. فقد وجدنا الثور الأسود.."
       ولما عادا مساء إلى دار  السيدة الوقور..دخلا عليها بعيد المغرب..وقص "ميمون" عليها خبر الثور الضال والنبع الغزير..فلما سمعت القصة ركعت وسجدت سجود الشكر لله..وباتت ليلتها وبقية الليالي بعدها قائمة متبتلة تصلي حمدا وشكرا.
       وسمع الناس بنبأ "لاله خضرا" وزهدها وبركتها وزكاتها.. والعين التي بأرضها، فقصدوها من الأماكن القريبة والبعيدة مهنئين وساعين إلى نيل ما أفاء الله عليها من خير عميم.. وما هي إلا أعوام حتى غدا منزلها الرحب رباطا يقصده العباد والزهاد، والفقراء والمساكين  وأبناء السبيل.. حتى ضاق المنزل بالزوار، واضطرت صاحبته أن توسع من محيطه وتديره بسور بنت داخله غرفا بعيدة وخياما ومرافق أخرى حتى تفي بحق الضيافة.. وكان الناس يحلون بالمكان ويبقون فيه أياما، يعقدون خلاله مجالس لتلاوة القرآن والذكر والدرس. وهم خلال ذلك يأكلون ويشربون ويقيمون مكرمين وفي زهد من غير إسراف بفضل ما رزقته السيدة العابدة من بهيمة الأنعام وجنى الجنان، والنبع القريب دائم الجريان.. وقد أوصت المرأة الصالحة إلاَّ يصاد أو يروَّع طير ولا حيوان مما يجاور الدار أو يحوم في سمائها....وحتى يكون الناس قريبين من المنزل المبارك، هبط بعضهم من الجبل والتلال والسهول المحيطة فاقتطعوا لهم "بحاير" وسط الغابة العذراء. ففلحوها وغرسوها وسقوها مناوبة بينهم من ماءالعين، فكانت كل "بحيرة" تؤتي أكلها بإذن ربها كل حين..
      لكن الأولياء والصالحين كان لهم دائما أعداء وحساد. وقد بلغت شهرة رباط "خضرا" الأفاق، و سمع به القاصي والداني من داخل البلد و خارجه، وكان فيهم الصديق الوفي والعدو الظاهر والخفي.. ولم يكن العدو منذ زمن بعيد المترصد وراء البحر القريب لينسى هزيمته النكراء على ضفة النهر،فأخذ يتربص ويتحين الفرص... وجاء "الرقاصون" إلى السلطان، يحثونه على أن يتدارك طرفا من مملكته الواسعة أخذ يشق عصا الطاعة، وصوروا له الفارس "دحمان" شيخا كبيرا أصابه الخرف، فترك أمر ولايته لزوجته العبدة "خضرا" التي ما فتئت تجمع حولها الرعاع والصعاليك و"الأفاقين"... لتزحف بهم على بقية البلاد لتكون ملكة متوجة عليهم وعلى سائر العباد..  وعلى عادة الأعداء في بث الفرقة وإثارة الفتنة بين أهل البلد، ذكروا له فعل الملكة  الكاهنة "ديهيا" التي حاربت الدين، والفاتحين الغازين، سعيا منهم في بث الشقاق والحرب بين الأمازيغ والعربان..
      وألح الوشاة في السعاية... وصدق السلطان ما سمع بعد أنكاره ثم تردده.. فأرسل إلى الرباط جيشا عرمرما، ودخله، فأقتيدت صاحبته مصفدة في الأغلال.. ولم يعلم أحد بخبرها بعد  ذلك الزمان.. إلا إشاعات متضاربة حول مصيرها.. فمن قائل إنها ماتت رهينة الأسر في سجن السلطان.. ومن قائل إنها مازالت حية..قد حلت بقلب كل حي يمشي في الأرض أو يطير في السماء.. وسكنت كل  متحرك وهامد.. أما الفارس الهمام فقد أرسلوا إلى قصره من يسجنه ويقيده ليحاكم ويعدم على رؤوس الأشهاد جزاء ضعفه وترك ولايته في يد جاريته السوداء الشمطاء كما قالوا ونمموا.. لكنهم لم يجدوه في قصره على التلة في الجبل.. وجدُّوا في البحث عنه، لكن خاب مسعاهم.. وقد رويت أخبار غريبة حول اختفائه وأماكن حله وارتحاله..واتفق  روايات بعضهم على أن القائد "دحمان" قد رآه بعض السارين ليلا وفجرا يخرج من كهف في قمة الجبل عميق ومرهوب، وعليه عباءة صوف مخططة الجانبين بخطوط سود وحمر يبدو فيها كبلارج كبير العمر،ثم يهبط الأودية طائرا محلقا، وينزل باكرا إلى حجر الجبل  حيث كان الرباط، فيهتف بزوجته السمراء المليحة مناديا حتى يبح صوته..."خضرررا ...! خضرررا..!" فلا يجيبه غير صدى صوته المبحوح يتردد في جوانب الجبل والوهاد والتلال..
     أما مصير الرباط الذي كان زمانا مقصد العباد والزهاد،فيروى أن السلطان قد أبقى به كتيبة  من الجند عليها قائد فظ غليظ ليرعى أمنه،فعاث فيه فسادا، واستأثر بالنبع وما جاوره من أرض خصبة لنفسه وحرسه.. وروَّع طيره ووحشه، وشرد إنسه إلا من طوحه الحب وكبله الغرام بالمكان، فإنه بقي صامدا رغم الهوان.. وبعضهم توارى عن الأنظار وانجحر مغموما في كهف أو غار، ينتظر ويرجو كشف الغمة من الرحيم الرحمان ..
     ومر زمان.. وجاء شتاء لم يعرف الناس مثله في العواصف والأمطار... وفي ليلة ليلاء طلع سحاب متراكم كالجبل آت من البحر، فابرق وأرعد، وانصب على الجبل ونزل سيلا دفاقا على الشعاب والوهاد والبطاح.. ولما لاح الصباح، كان الرباط قد اختفى بما فيه من فيه. عقابا -.قال الناس- من السماء للظالمين الغاشمين..
     مرت يا احباب وياخلان على الرباط دهور وأزمان.. أتت على معالم الرباط وما حوله غير طلال يسقط حجره وترابه ولا من يعيده أمام العيان... وعين غزيرة تصيبها من آن لآن أحوال من النضوب والفيضان.. بطحاؤها كثيفة الشجر، وما حولها من المروج كثيرة الفواكه والخضر.. وفي أعلى صفصافة جوارها عش بلارج وزوجه يحلان به ربيعا وصيفا ويهجرانه خريفا وشتاء.. ووفاء لعادة قديمة لا يعرف متى بدأت، كان الأهالي الباقون بالجوار يقيمون وليمة سنوية (وعدة، موسم) ببطحاء العين يوم فيضانها، يذبحون في يومها ثورا (وزيعة) فيطهون منه ويأكلون، ويوزعون بعضه على الفقير وابن السبيل، ويلعبون سباق الخيل والبارود، ويقرؤون ويذكرون، ويغنون ويرقصون... ،... وقد سمى عامة الناس عين الماء عين"الرادة" وسماها العارفون بأسرارها وحكاياتها، عين"لاله خضرا".
        "هكذا يااحباب..وياخلان.. ويا حضرة، نهيت " حجاية لالاَّ خضرا... والله يخلي "لاله خضرا" لمَّاليها ديما خضرا، وذكرى حية ديما في قلوب وعقول كل الأجيال عبرة ومثال..."
    
عبد المالك المومني