11/10/2014

ذاتَ... حُلمين : قراءة في كتاب " ضحك كالبكاء



                                       "ذاتَ... حُلمين"
                              قراءة في كتاب
" ضحك كالبكاء * "
                                لمؤلفته الدكتورة
" مريم لحلو * "

                                                             بقلم :
جمال الدين حريفي



        *ـ  ذاتَ... حُلمين :

حلمٍ أدبي جميل، رأيت فيه سمكة المعنى تنساب برشاقة في ماء الكتابة، تصل إلى منتهى الأخذ بالأنفاس ثم تعود إلى قطرة البداية من جديد، وكأنها تقدم لوحات ساحرة لتفتن الأنظار. وسمعت مع كل ذهاب وإياب للجمل والعبارات موسيقى رقيقة تجلو الهم وترهف الإحساس .
رأيت وسمعت وأنا أتأمل اللوحات الساخرة للأديبة  مريم لحلو ما يراه المستغرق في أحلام اليقظة.
رأيت المعنى ينساب كسمكة في ماء الكتابة، وسمعت إيقاعا للكلمات أشبه ما يكون بإيقاع معزوفة ألفها مبدع متمكن من أدوات الصنعة وفنونها.
ثم في حلمٍ ثان، رأيتني أضحك ملء  حواسي كلها وملء  مسام جلدي، أضحك ملء صدري وحرقة كبدي على نماذج من السلوك البشري ابتلي بها مجتمعنا، فصارت تنخر بنيانه وأسسه كالسوس وتهدد البناء بالسقوط في أي لحظة..(وليس يقوم بنيان عشش السوس في أركانه وحيطانه). وما أكاد أنتهي من الضحك على فصل من فصول مهازلنا الاجتماعية حتى تهزني موجة بكاء صامتة..فأستغرب لأمري، كيف أضحك بصخب وأبكي في صمت، ولا يفعل ذلك إلا من كان مصابه قويا شديد الوقع والأثر.
ذاتَ... حلمين إذن.
حلم أدبي وحلم اجتماعي، وجدتني ممسكا بين يدي كتاب " ضحك كالبكاء" لمؤلفته الدكتورة والأديبة المتألقة " مريم لحلو ".
فالحلمان كانا واقعيين.
كنت أحلم وأنا أقرأ اللوحات الساخرة التي نجحت الكاتبة في رسمها أيما نجاح ، أن أقرأ أدبا جميلا وأن أتوغل بعيدا في شعاب الأعطاب الاجتماعية ،وكذلك كان.
لقد استطاعت الكاتبة أن تجعل من نقد المجتمع موضوعا يستحق الكتابة ، كما استطاعت أن تجعل من كتابتها عن المجتمع أدبا يستحق القراءة ، فجمعت بين الأدب والمجتمع، وبين الكاتب ومسؤوليته الاجتماعية جمعا يستحق التنويه والإشادة.
وما كان لي ولن يكون لأي قارئ أن يستمتع بهذين الحلمين إلا  لأنهما كانا في الأصل حلمين للكاتبة نفسها .
حلمت الكاتبة " حلم اليقين" بأن تبدع نصوصا مكتملة البناء تامة التناسق قوية التأثير، وقد كان لها ذلك.
وحلمت بأن تناضل بقلمها للكشف عن عيوب المجتمع وأمراضه ،ولفضح الأنذال الذين حَوَّلوا كل إشراقة أمل إلى عتمة، وكل بقعة ضوء إلى ظلمة ، وقد كان لها ذلك أيضا .
فأحسنت الصنعة الأدبية، وأتقنت النقد الاجتماعي، وجمعت بين الحسنيين ، مؤكدة  أن الأدب ليس ترفا نتسلى به أوقات الفراغ، وإنما  هو وسيلة ناجعة وأداة فعالة للارتقاء بالوعي والذوق وبناء الوجدان وإصلاح الأعطاب دون أن يسقط في لغة البيانات السياسية  أو الخطب المنبرية أو مواعظ  النصيحة ، وذلك هو الرهان الصعب الذي ربحته الكاتبة فحافظت على أدبية السرد وأوغلت في تضاريس النقد ، وأمتعت واستمتعت، جازاها الله خيرا.

  *ـ  إحدى عشر لوحة / تسعة نماذج بشرية:

تفتح الكاتبة باب معرضها العجيب في وجه الزوار لكي يتأملوا إحدى عشر لوحة من النقد الاجتماعي الساخر، " بل وبالتحديد تسع لوحات ساخرة ووصفتين، واحدة للنجاح المستحيل
(1) وأخرى للشهرة الزائفة(2)." (وقد نعتمد تصنيفا غير هذا في حينه )
فالكاتبة ترسم بمهارة الفنان المتمكن على قماشة الورق وبحبر من الألوان الشفيفة الدقيقة الحادة ، مسارات تسعة نماذج بشرية أصبحت اليوم ظواهر /مرضية اجتماعية مكتملة المعالم والخطوط ، وصارت لها أعراض قابلة للتشخيص وتداعيات غير قابلة للحصر، بل صارت مستعصية على إي علاج " إلا البتر " بعد أن  كانت ذات وقت "شريف" مجرد حالات طارئة على جسد المجتمع يشار إليها بإصبع الإدانة والاتهام ، وتُدفع دفعا إلى حافة الطريق مفسحة المجال للشرفاء والطيبين من الناس.
نماذج كانت تتستر على  بلاويها حتى لا تنكشف فضائحها ولا تفوح روائحها فتزكم الأنوف ، فصارت  اليوم تمشي بين الناس مزهوة بنفسها لا تنقصها غير الزغاريد ومواكب الزفة لكي تتربع على "عمارية" القذارة البشرية في عرس الأبالسة والشياطين.
هي تسعة نماذج بشرية
تسع ظواهر اجتماعية/ مرضية.
 وهم تسعة رهط يفسدون في أرض الله ولا يصلحون، ثم وصفتان بديلتان لآخر وجبة في مأدبة الفساد المستشري في المجتمع ،
تسعة في اثنين، لأنه ليس لهذه الظاهرة في الأخير غير  اسمين:
      " النذالة " و   " الفساد"
الفساد في زمن انحسار الفضيلة وانهيار القيم والأخلاق .
و النذالة في الزمن الرديء الذي بلا كرامة ولا شرف
 لأن النذالة في هذا الزمن الوغد تضاعف أرقام الفساد
تسعة رهط تقبض عليهم الكاتبة / المتحرية متلبسين بالجرم الاجتماعي المشهود، لتعرضهم على محكمة الدين والقانون والضمير والأخلاق والإنسانية ...وكل ما ..وكل من يمكنه أن يصدر حكما نزيها في حقهم، بعد أن أصبحت موالاة الباطل أولى عند البعض من موالاة الحق.
وجبةُ فساد كاملة، مع المقادير اللازمة لإعدادها وطريقة الاستعمال، والمقابل مجتمع بلا أمل ولا أحلام، مجتمع بارد الهمة، مشلول الإرادة.
تسعة رهط من المفسدين :
ـ البرلماني ـ المفتش ـ الإداري ـ المدرس ـ الطبيب ـ الشرطي ـ الفاكانسي ـ الكوايري ـ القاضي . ثم موظف لا يوجد إلا في المدن الفاضلة ، وطريق سيار للشهرة الخادعة .
 وهؤلاء التسعة لا تقصدهم الكاتبة لوظيفتهم أو مهنتهم أو مسؤولياتهم أو المؤسسات التي ينتمون إليها ..بل تقصدهم لذاتهم، وتحلل مضمرات سلوكهم وتجهر بنواياهم وخفاياهم وخبيئة أنفسهم حتى لا يخدعوا الطيبين من الناس والسذج الغافلين من موتى  العصر.
هي لا تقصد مؤسسة التشريع ولا مؤسسة القضاء ولا الأمن ولا التربية ولا الإدارة ، فلا بد لكل مجتمع حديث من مؤسسات ، والدولة لا تكون حديثة ولا ديموقراطية إلا بمؤسساتها ، فهي التي تنظم الحقوق والواجبات بين المواطنين والمسؤولين القائمين على خدمتهم " لأنه يفترض في المجتمعات الحديثة أن تكون المؤسسات في خدمة المواطنين"
الكاتبة لا تقصد إدانة المؤسسة  بما هي مؤسسة، وإنما تقصد الكشف عن الوجه القبيح لأولئك الذين يلطخون وجهها بقذارتهم النفسية وأوساخهم الاجتماعية .
والكاتبة أيضا حين ترسم أحلام البرلماني و المفتش و المدرس و الشرطي و القاضي ،فهي لا تقصد المفتشين والبرلمانيين والمدرسين إجمالا ، وإنما تقصد برلمانيا بعينه وإداريا بعينه ومدرسا وقاضيا وشرطيا بعينه .
إنها تقصد أولئك الأنذال الذين جعلوا الأشراف في هذه المهن يخجلون من الانتساب إليها.
   *ـ   الإهداء النداء / الصرخة(3) :

 وليس عبثا أن الإهداء في مقدمة الكتاب جاء كالتالي :
        (  إلى شرفاء هذه الأمة )
فالكاتبة تخاطب الشرفاء وتدعوهم لكي يرفعوا رؤوسهم ، فالذنب ليس ذنبهم في انهيار القيم والأخلاق، وإنما هو ذنب وجريمة الأنذال الذين لا قيم لهم ولا أخلاق ...وهؤلاء يجب أن لا نخجل من إدانتهم كلما كان ذلك ممكنا .
كأن الكاتبة تقول لمن لا يزال قادرا على الإنصات إليها منَ " الأولئك ":
" أنتم أيها الأنذال ، يا مرضى النفوس وذوي العاهات ، أنتم من أفسد الحياة وأفسد المؤسسات وأفسد المجتمع . وإذا كنا الآن نضحك من تفاهتكم وسخفكم ، فإننا نبكي في المقابل على ما صرنا إليه من أحوال ...فقد كنا مغفلين حقا حين صدقناكم ، كنا نعتقد أن البرلماني يدافع على مصالح الأمة والشرطي على أمنها والمدرس على تربية أبنائها والقاضي  على إقامة العدل بين أهلها  والكوايري يمتعنا وقت الراحة بعد شوطين من العمل بفن المراوغة الرفيع ، فإذا بكم تسعة رهط متحابين متآزرين في الفساد وعلى الإفساد ، فكيف لا نبكي على حالنا مما فعلتم بنا وبمجتمعنا وبمؤسساتنا ، وقد ردمتم مابناه الشرفاء طوبة طوبة بالعرق والدم والكلمة "؟
هذا ما يعنيه الإهداء /النداء/ الصرخة / الكلمة :
                          
(إلى شرفاء هذه الأمة )
إهداء نداء /وإهداء استغاثة، لتدارك هذا الانهيار وهذا الانحدار الذي يستحق منَ البكاءِ أكثر مما يستحق من الضحك ، إن كان فعلا ما يزال من بين أبناء هذه الأمة من هو قادر على الضحك على مهازلها التي أصبحت مآسي يشيب لها الولدان .
إنه ضحك كالبكاء
ضحك أَمَرُّ من البكاء على صور من صلب الواقع المغربي.

 
 نقد شركة الفساد:

والكتاب " ضحك كالبكاء " ليس كتابا في النقد الاجتماعي الساخر فحسب، بل هو أيضا كتاب في النقد السياسي...إنه لوحات ساخرة في النقد الاجتماعي والسياسي القاسي واللاذع والساحر.  فداخل قفازات من حرير و بلغة جزلة سلسة قوية التأثير . يرسمُ الوجه الاجتماعي لإفلاس القيم ويستغورُ البواطن والمضمرات ويحدد المسارات التي جعلت أصنافا ونماذج وفئات من الناس تهدد الأمن الشامل للأمة ، أي الأمن التشريعي والإداري والصحي والتعليمي والقضائي، من أجل الجنس والمال والسلطة والشهرة .وأيا كانت الوسيلة ، فلا شيء يمكنه أن يردع هذه الحثالة من الناس عن الوصول إلى أهدافها وإشباع جوعها المرضي للبروز والتفوق ، ولا شيء أيضا يمكنه أن يفك خيوط أحابيلها وشباكها وكمائنها والخطط التي تحبكها وتحوكها من أجل إرضاء غرورها وأنانيتها، هي التي لا تقنع بغير إذلال الآخرين واستغلالهم .لأنها  تعيش من أجل ذلك فقط .      
ولا شك  بأن لشركة الفساد هاته والمُحَفَّظة باسم الأنذال فروعا وامتدادات وأصولا وشجرة أنساب في غير ما جاء ذكره من القطاعات والمؤسسات عامة كانت أو خاصة .
  المفسدون في الأرض:

اختارت الكاتبة نماذجها بعناية فائقة "وإلا فالمجال كان عندها متسعا لتختار عينات أخرى ". وجعلت السارد يلبس جلدها ويتقمص أطماعها التي سمتها أحلاما " وهي أحلام مخيفة مرعبة " بالنسبة للأسوياء.
هي أحلام وأطماع المفسدين.
تسعة أحلام.
تسعة كوابيس لتسع حالات بل لتسع آلات للفتك والدمار .
1) برلماني
(4) يصعد رويدا رويدا من جحر الفاقة والشظف، ويحفر كالجرذ طريقه في المجاري والميازيب وليس في ذهنه غير الكرسي الذي تحت تلك القبة ومكتب تتهادى فيه حوله الحسناوات ويحطنه بعناية اللحم البض والشعر الأشقر المنساب. برلماني في الحزب العتيد يستميت في النضال من أجل استغفال الحزب والشعب وكل همه دوام المقام تحت قبة البرلمان .
2) مفتش
(5) مدلس ينظر إلى التلاميذ بريبة زائدة، ويتصيد أخطاء المدرسة ولا يتعفف ـ و هو المسن المتزوج  ـ عن التحرش في سره بالطرف الكحيل والخد الأسيل والخصر النحيل .
3) إداري
(6) يستغل سلطته الاعتبارية وإن كانت زهيدة القيمة في تشمم أخبار الأستاذات والاحتكاك بأكتاف وأرداف التلميذات أو استدراجهن إلى فخ كبته اللعين وتربيته المشكوك في نظافتها .
4) مدرس
(7) يقترح وصفات  للربح السريع ويفكر في وضع التصانيف والتآليف في البيداغوجيات الحديثة من أجل أن يعلم المريدين والأتباع كيف يصبح الواحد مليونيرا في أسبوع .
5) طبيب
(8) يعرف الفرق الساطع بين القطاع العام والخاص فيوفي كلا حقه. فقد تعلم حكمة إفراغ جيوب المسنين وجلاليب المسنات من "الكماميس" و"الكموسات" ، وأتقن وصف الدواء " الستندار " لكل الأمراض ومتابعة مستجدات تخصصه في لعبة الرامي .....طبيب قادر على أن يحول المتلاشيات البشرية التي غلبها الزمن وغدرت بها الأيام إلى سماد لتربة ضيعته وعلف لعجولها ،،، حين ستصير له ضيعة وعجول يقضي بينها الوقت الفائض عن حاجة المرضى الذين لا يستحقون اهتمامه .
6) شرطي
(9) يزهو بالبزة الرسمية ونجيماتها ، ويحترف دمغ رؤوس الطلبة وتصيد هفوات الطرق ومخالفات السير ، شرطي أخطبوط لا توقفه عن الشطط حقوق إنسان  أو بلاغة لسان، و ليس معنيا بعهد جديد أو مصالحة مع العبيد..
7)  فاكانسي
(10) يعود بروميته ورخصة إقامته في المهجر ليحرق قلوب العذارى والفتيان وهو يبعثر المال ذات اليمين والشمال لينتقم من أيام الذل والمهانة وزيف التطلعات و كذب الأحلام .
8) قاض
(11) يحسن أكل الأكتاف ، ودق العظم، وقرع الكؤوس ، وتكسير الرؤوس ، والحكم بما شاء على من شاء بلا دفاع ولا مرافعة .
9) كوايري
(12) لم يعد فقط حلم المراهقين ومالك قلوب العذارى ، بل صار يدير رؤوس الحكومات والدول . كوايري ليس له من فن اللعب والمراوغة غير اللعب بالشعر والأساور والدمالج كعارضات الأزياء والحلي . فقد فقد المسكين القدرة على اللعب بالأقدام . وضل الطريق إلى مرمى الحلم.
10) موظف
(13) لا مكان له إلا في المدينة الفاضلة .
11)  طريق سيار
(14) بالجنس والعري والهمز في الدين  تلك وصفة الشهرة السهلة المنال والمحاطة بعناية أهل الضفاف الأخرى إذا ناداهم نداء الواجب حي على تحطيم أصنام القيم وعبادة إله الجنس والمال .

*ـ  سرير التحليل النفسي :   

أعترف بأنني قد مررت على هذه النماذج البشرية مرور سريعا لكي أترك لكل قارئ حقه في الاستفادة والاستمتاع بهذه التحفة الأدبية التي أحسنت الكاتبة إعدادها وتقديمها برسمها الدقيق للخطوط والتفاصيل و بعزفها المتفرد على الأوتار الحساسة وسردها الشيق للأحلام والأوهام.
رسمٌ وعزفٌ وسردٌ ، تلك هي اللوحات الساخرة من "ضحك كالبكاء" .حيث كل لوحة  عبارة عن سرير يتمدد عليه معطوبو النفوس  والأرواح ليبوحوا بما خفي عن الأعين والأذهان من نوايا وأسرار تصنع واقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي وتؤثر فيه أكثر مما تؤثر فيه النظريات والخطابات الساذجة البلهاء.
تأخذ الكاتبة كرسيها كحكيمة جديرة بهذا الاسم، وتجلس عند رأس كل مريض الوقت الكافي  لتدوين هواجسه وهلاوسه ووسوسات نفسه.
الأحلام ليست أحلام الكاتبة.
وليس السارد هو الذي يحلم.
الذين يحلمون هذه الأحلام المرعبة هم مرضى المجتمع ومعطوبو النفوس.
مرضى «منومون"، يتمددون على سرير التحليل بالدور ليفضوا بدون وعي منهم بما يلمونه ويكتمونه في تلك الغرف السوداء التي تسمى نفوسا، وليكشفوا للعالمين أسرار هذا الانهيار الشامل للقيم في مجتمع نُخرت أسسه وأُكلت أكتافه ودقت عظامه.
هل هي لوحات تتكرر باستمرار وبعنوان مختلف في كل مرة ؟
أم أن اللوحات عنوان لعدوى تستشري في كامل أعضاء الجسد ؟
 هي هذا وذاك وأكثر من كل ذلك ،هي  لوحات ساخرة تكشف من خلالها الأديبة مريم لحلو عن اتساع الخرق على الراتق وعن استشراء جرثومة الفساد في كل المؤسسات والقطاعات ، جرثومة تهدد  الكيان الاجتماعي في جوهره ، أقصد في القيم الموجهة للسلوك عند الإنسان، وقد اضطلعت الكاتبة بدورها كاملا في دق ناقوس الخطر وفي الكشف والفضح والتعرية لعل الضمائر الحية الشريفة تفيق قبل أن يجرف التيار الهادر للنذالة والفساد الأخضر واليابس .
 مضمرات الكتاب :

يعمد الكُتاب غالبا قبل عرض  إبداعهم على الناس إلى الحذف أو التثبيت أو الإضافة خاصة إذا تعلق الأمر بكُتب تشتمل على مجموعة من النصوص،  فقد يرى الكاتب لغايات يصرح بها أو يضمرها أن يحذف أو يثبت أو يضيف نصوصا إلى كتابه ، وهو وحده  الذي يعرف لماذا وكيف اختار ترتيبا  دون آخر لهذه  النصوص. سأجازف إذن بالتسلل للمطبخ السري لهذا الكتاب لَعَلَّني أظفر بالوقوف على واحدة من مضمراته فأتقاسمها مع القراء ، بعد أن أصبحنا نحن "القراء" وبفضل هذا الفعل  الجليل الذي يسمى  "القراءة" شركاء في ملكية هذا المنتوج الأدبي الجميل .
فأقترح للتأمل الجدول التالي :  

نماذج ممكنات (البديل)  
نماذج قدوة ( المثال )
نماذج قاعدية ( الواقع )


ـ ذات... موظف
ـ طريق... الشهرة السيار



ـ ذات... فاكانسي
ـ ذات... كوايري

ـ ذات... برلماني
ـ  ذات...  مفتش
ـ ذات... إداري
ـ ذات... مدرس
ـ ذات... طبيب
ـ ذات... شرطي
ـ ذات... قاض


فالنماذج البشرية التي اقترحتها الكاتبة على قرائها تتكون من ثلاثة أصناف (ولا يحق لأحد أن يفرض عليها اختيارات أخرى أو يناقشها في اختياراتها ، فهي حرة مطلق الحرية في العمل على النماذج التي تشاء)
1) نماذج قاعدية : هي الأركان الأساس التي يقوم عليها المجتمع والحياة المدنية ـ علما بأن لها أشباها ونظائر في كافة القطاعات والمؤسسات وعلى مختلف المستويات من أدناها إلى أعلاها في المهام والرتب ، وهي نماذج استشرى فيها الفساد لدرجة أصبح يهدد المجتمع تهديدا واضحا صريحا ، ، فالتنذر بفتوحاتها اللا أخلاقية والضحك على تفاهاتها وسخفها هو في الواقع بكاء على أنفسنا أكثر منه ضحك عليها . وتشمل هذه النماذج         ( البرلماني والمفتش والإداري والمدرس والطبيب والشرطي والقاضي ) بتعبير آخر       ( التشريع والتربية والتعليم والأمن والصحة والإدارة والعدالة ) ولا يمكن لأي إصلاح أن تقوم له قائمة إذا كانت مثل تلك الجرذان الموصوفة آنفا تقرض وتقوض بالليل ما بنته و رفعته إرادة الإصلاح بالنهار.
2) نماذج قدوة : ولسنا نقصد القدوة الصالحة في هذه الحال ، بل نقصد ما يقدم للشباب كنماذج ناجحة في الحياة ، وما يقدم لهم كقدوة تمتلك قدرة هائلة على الجذب والتأثير والإغراء والغواية ، إنها " الهجرة " و " الكرة " إلى جانب مثيلاتهما وصويحباتهما في السينما والغناء .
والكاتبة تفضح الوجه الحقيقي لهذه النماذج المبتذلة من خلال " الفاكانسي " و"الكوايري" النموذجين التافهين الفارغين الأجوفين مهما كانت غوايتهما قوية وإغراؤهما كبيرا للشباب، فأفقهما مسدود، لا يلبي رغبة ولا يقضي حاجة، إلا الرغبة في الشهرة والكسب السهل السريع .، هذا إن حققا ذلك فعلا ، وقلما يفعلان.
3) نماذج ممكنات : وهي نوعان ـ  موجب، ولكنه مستحيل التحقق في مجتمع قادر على غسل الأدمغة والضمائر ومحو الذاكرة ودوس الشرف.
                                     ـ  وسالب، وطريق هذا سيار لا عقبات فيه ، وربحه مضمون ومحمي بألف دراع .
    إنهما  البديلان المقترحان من طرف المجتمع على أبنائه لتحقيق ذواتهم:
            أ) الموظف المنضبط القائم بالواجب الملتزم بلوائح العمل الحريص على إرضاء ربه وضميره وأهله ومجتمعه ..وهذا مكانه المدينة الفاضلة التي لم تعرف لها بعد طريق.
           ب) الوصولي لانتهازي الذي  يسعى إلى الشهرة بألف  وسيلة ،فيختار أيسرها وأسهلها " الجنس والسياسة و الهمز واللمز في قناة الدين ، مع توابل من توافه الأغاني وسقط الكلام وسفاسف المعاني "
        نماذج من الواقع فاسدة و قدوة تافهة واستقامة مستحيلة وطريق سيار إلى  نهاية القيم والأخلاق النبيلة .
هذا ما عليه الحال.لا قاعدة ولا قدوة ولا بديل . وإن يكن، فالكاتبة رغم كل شيء ترنو بنظرها إلى نصف الكأس الممتلئة، وتستنهض بأدبها همة أشراف الأمة .

    قوة الأدب :   
الجنس والمال والسلطة والشهرة ، هذه هي القيم الوحيدة السائدة الرائدة والموجهة لسلوك هذه النماذج البشرية التي وصلت بالمجتمع إلى الحضيض ، وإذا قيل سابقا بأن الأدب يكشف عن أعطاب المجتمع ويشرح جسمه ويشخص أمراضه أفضل مما قد يفعل ذلك البحث الاجتماعي أو الدراسة النفسية ،فإن هذا يصدق أكثر على هذه المجموعة من اللوحات الساخرة التي عرضتها الأديبة مريم لحلو على أنظار زوار  هذه القاعة الكبيرة التي نسميها مجتمعا .إنها لوحات أدبية تكشف أكثر مما قد يكشفه البحث الاجتماعي والدراسات النفسية من أعطاب وأمراض .

 *ـ   قوة الأسلوب:  
واحدٌ من عناصر قوة هذا الكتاب وهي كثيرة ، إنه أسلوبه الذي يؤكد علو كعب الكاتبة في فن السرد ، والكاتبة بارعة في توظيف ثقافتيها "العالمة" و"الشعبية" معا " اقتباسا وتضمينا" (15) في نصوصها الإبداعية دون  أن يخل ذلك بإيقاع سردها ولا بنبض كلماتها أو بصمات تعبيرها ، وهي ميزة لا تتوفر إلا للأقلية القليلة من المتمرسين والمتمرسات بالكتابة ، فنجد في كتابتها من الثقافة العالمة والشعبية الدرر المختارة من شعر أو حكمة أو مثل وقول سائر ، كما نجد المقطع الغنائي(16) يجري في توافق تام مع النغم الخاص الذي توقع عليه جملها وعباراتها . وهو أسلوب يؤكد أيضا ثراء وغنى المخزون الأدبي الذي تصدر عنه الكاتبة بعد أن تمثلته واستوعبته ثم أجرته متدفقا منسابا سهلا ممتنعا وعصيا على التقليد كما هو الشأن في كل أدب جاد ، وأصيل ، وحقيقي .

*ـ عود على بدء:
أما بعد :
فذات... حلمين :
حلم أدبي جميل بأن تتاح لي فرصة قراءة نصوص إبداعية تؤثر في الوجدان والعقل وتمتع وتفيد في الآن نفسه .
وحلم اجتماعي بأن أقرأ أدبا ملتزما بقضايا الناس ومنحازا إلى شرف الكلمة والموقف.
وجدت بين يَدَيَّ كتابَ " ضحك كالبكاء " للدكتورة الأديبة مريم لحلو .
الآن فقط سأحقق الحلمين ، وأشرع في قراءة لوحات ساحرة من الأدب الجميل والنقد الاجتماعي الساخر. .
الهوامش :

*الكاتبة : مريم لحلو" أم بثينة"
أستاذة مادة اللغة العربية بالثانوي التأهيلي وأستاذة زائرة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة.
- شهادة الإجازة في الآداب، شعبة اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة، 1990
- شهادة استكمال الدروس، تخصص أدب عربي قديم، 1991، كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة.
- شهادة التخرج من المركز التربوي الجهوي سنة 1991 بوجدة.  
- شهادة الدكتوراه في الآداب، تخصص أدب مغربي،2003 كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة،
الأعمال:
كتب منشورة في مجال الدراسة والتحقيق:
-  كتابا:"  إسماع الصم في إثبات الشرف من قبل الأم للمراكشي الأكمه ،ويليه إسماع الصم في إثبات الشرف للأم لمحمد بن مرزوق: دراسة وتحقيق" الطبعة1،  1426 هـ/2005م ، مطبعة الهلال وجدة. الطبعة 2، 1427~ 2006 مطبعة الشرق وجدة.
-   كتاب "شرح ياقوتة البيان" لمحمد الصغير الإفراني :"دراسة وتحقيق" الطبعة1، 1427هـ/2006م. ، مطبعة الشرق وجدة.
_   كتاب " "أراجيز مغربية في علم البلاغة" يضم خمس أرجوزات نادرة لناظمين مغاربة."جمع ودراسة وتحقيق" الطبعة1، 1427هـ/ 2006م ، مطبعة الشرق وجدة.
·         في السرديات:*
ـ  كتاب "ضحك كالبكاء" لوحات ساخرة الطبعة،2013 مطبعة الجسور وجدة
ـ  عدة  مقالات منشورة في مجلات وجرائد وطنية وعربية  كدعوة الحق ومجلة الذخائر البيروتية.
ـ      المشاركة في عدة حلقات دراسية و ندوات وطنية ودولية،مثل ندوة اللغة العربية والأصول الشرعية وندوة ربيع المخطوط الأندلسي الدولي تكريما للدكتور بنشريفة ، وندوة الشعر العربي المعاصر في المغرب:مفاهيم وقضايا

 * الكتاب :    " ضحك كالبكاء/ لوحات ساخرة.
            لوحة الغلاف : نور الدين بورحمة
           الطبعة الأولى: 2013    
           المطبعة : مطبعة جسور ش.م.م/ وجدة .

*  تنويه خاص  : تجدر الإشارة إلى أن هذا هو الكتاب الرابع الذي يحمل نفس العنوان المقتبس من البيت الشعري الشهير للشاعر الأشهر " أبو الطيب المتنبي "
ـ وكم ذا بمصر من المضحكات   **   ولكنه ضحك كالبكاء .
أما الكتب الأخرى فهي على التوالي :
ـ ضحك كالبكاء : للمغربي إدريس الناقوري  ـ نقد الأدبي / دار النشر المغربية 1985
ـ ضحك كالبكاء: للعراقي  ماجد الحيدر ـ  مقالات  ساخرة/بغداد 2010
ـ ضحك كالبكاء : للسوري نور الدين الهاشمي ـ  قصص/ دار نينوى دمشق 2010
ويعتبر كتاب الأديبة مريم لحلو بدون شك إضافة نوعية في مجاله لهذه السلسلة.
1ـ ذات ...موظف : صفحة 74
2 ـ طريق الشهرة السيار صفحة 80
3 ـ الإهداء صفحة 5
4 ـ  ذات... برلماني  صفحة 17
5 ـ ذات ...مفتش صفحة 25
6 ـ ذات ...إداري صفحة 30
7 ـ ذات ...مدرس صفحة 35
8 ـ ذات ...طبيب / صفحة 44
9 ـ ذات ...شرطي / صفحة 52
10 ـ ذات ...فاكانسي / صفحة 57
11 ـ ذات ... قاض / صفحة 84
12 ـ ذات ...كوايري / صفحة 69
13 ـ ذات ... موظف / 74
14 ـ  طريق الشهرة السيار/ صفحة 80
15 ـ انظر مايلي : صفحة 17 ـ 21 ـ 22 ـ 27 ـ 48 ـ 50 ـ 57 ـ 64 ـ 70 ـ 72 ـ 83 وغيرها .
16 ـ انظر بالخصوص : صفحة 70 ـ 52 .   

القنيطرة في 29/08/2014
ــ جمال الدين حريفي

27/03/2014

صرخة الأغوار



" صرخة الأغوار "




قراءة في  المجموعة القصصية " تضاريس التيه"*
للكاتبة المغربية :" مريم التيجي
"*
   


                                 بقلم : جمال الدين حريفي           
                   




                                     
                 أ)       تضاريس التيه وغواية العنوان
قليلة هي الكتابات التي تجعلك تكتشف بأن لكل واقع صورة موازية أو خفية ، أوظل كثيف يحجبه عن عيون الفضوليين ، وأن ما نراه مجرد قناع لوجهه الحقيقي ، أي البشع ..فللواقع فعلا أوجه شتى وأقنعة وظلال و ظاهر وباطن ، لأنه واقع منافق ومخاتل بامتياز . وهذه الكتابات رغم قلتها تجعلنا شكورين لأصحابها،  وسعداء بالإنصات لأصوات تقول الحقيقة وتمزق  الغشاء السميك الذي يخفي الوجه المخزي و المخجل لبعض "أوضاعنا الاجتماعية" .
وقليلة هي أيضا عناوين الكتب التي تغريك بتوقع الأفضل ..وحين تقرأالكتاب
تجده يرضي انتظارك،  ولا يخيب ظنك فيما توقعت ، لقد تمتعتَ واستفدتَ وتألمتَ وانشرحتَ ، وتأثرتَ بما قرأت كما ينبغي أن يكون التأثر والتفاعل بين القارئ والكتاب .
لقد ترك الكتاب بصمته واضحة وعميقة على صفحة العقل وفي القلب.
أحسستَ بآلام الناس وعشتَ بعض أحلامهم ، عشت تجاربهم المرة وخيباتهم ، وتمزق لحمك بالمشارط والإبر والسكاكين، مثلما تمزقت جلودهم وكرامتهم وحناجرهم بالصراخ غير المجدي  في وجه هذا الصمت البهيم الذي لا تشقه أصوات إدانة أو رفض .
واحد من هذه الكتب التي قدر لها أن تترك مثل هذا الأثر في نفسي ، هو المجموعة القصصية الصادرة أخيرا للكاتبة المغربية  المتميزة " مريم التيجي "
وواحد من هذه العناوين الموحية والتي لم تخيب ظني ، هو " تضاريس التيه ".
تضاريس التيه هو العنوان الذي اختارته الكاتبة لمجموعتها القصصية.
وليس ذلك فقط لأنه عنوان واحدة من قصص المجموعة ، بل لأنه ـ كما أقترح في هذه القراءة ــ هو روح المجموعة والدليل إلى عوالمها المتنوعة ،المرعبة والمشوقة في الآن نفسه .
إنه عنوان دال على الواقع المخاتل ..عنوان يُصَرِّحُ بالحقيقة الجارحة من خلال المفارقة الصارخة بين التيه والتضاريس ، وكذلك من خلال  المفارقات الدالة  بين أقنعة الواقع الزاهية  وحقائقه المخجلة. عنوان  يكشف المفارقات التي تعمل قصص المجموعة على فضحها .
فالتضاريس تعني الشكل الذي يتخذه سطح الأرض .
التضاريس معالم ، أشكال ، ارتفاع وانخفاض .
أما التيه ، فضياع وضرب في غير ما اتجاه .
كيف يصير التيه أرضا /واقعا له معالم وأشكال .؟
بل و كيف لا يصبح كذلك، إذا كان التيه هو واقع ما يعيشه المستضعفون والعاجزون والقاصرون والمسنون والمغتربون والمرضى .....والحوامل والأرامل واليتامى .وكانت تضاريسه هي الفقر والجوع والعوز والحاجة والأمية ، ثم كانت أيضا هي المستشفى والمدرسة والإدارة والبيت والشارع والعمل والعدالة..؟.
هذه بعض تضاريس التيه الذي تقودنا فيه الكاتبة وهي لا تحمل غير مصباح الكتابة ولا تهتدي بغير بوصلة القلب.
ومن تكن الكتابة مصباحه والقلب بوصلته يفلح دائما في إيصال رسالته لمن له عين تقرأ وقلب يعي .
تجوب الكاتبة جغرافيا الجسد المغربي العليل ، تمشي حافية كنساء مجموعتها فوق نتوءات شرطٍ إنساني لا يرحم الضعفاء ، حتى يصير دم الأمهات وعرقهن وذلهن في أقبية الولادة وبين مكاتب الإدارات ، حبرا يطرز الألم المغربي على الورق مثلما تطرز الممرضة/الخياطة جراح الأمهات بعد الوضع .
تجوب الكاتبة تضاريس الواقع المغربي بشجاعة كاتبة رائدة ،  وصبر أم متعاطفة مع  الأمهات ، تقتحم الغرفَ المظلمة وتفتح نوافذ الأقبية . فمرة تجهر بالحرف وسط الصخب الهادر للمستشفيات العمومية ، ومرة تهمس به تحت زخات المطر وهي تئن كأم تئن وكزوجة تئن ، ممزقة بين واجبات البيت والأولاد والمدرسة والزوج المتطلب والمطبخ والعمل ،  حتى لا يبقى للكتابة حظ من الوقت ، ولو اقتصر على مجرد نفض الغبار عن كتب تشتهي الجلوس إليها بعض الوقت .
فكل امرأة ليست ككل النساء.
وكل كتابة ليست ككل الكتابات .
كتابة المبدعة " مريم التيجي " تكشف وتُعري وتَفضح وتُصَرِّحُ وتصرخ بالحقيقة التي تعاني منها المرأة /الطفل/المسن /المغترب/الوطن.
حقيقة الواقع المنافق.
حين تُسمى  مراكز التعذيب مستشفيات .
ومصاصو الدماء مدراء.
ويُسمى الابتزاز عدالة.
وأقبية الإهانة إدارة.
وحين يحمل الجلاد اسم الزوج .
والجحيم اسم  بيت الطاعة.
والغرباء أسماء الأقارب .
والكوابيس أسماء الأحلام.
كل الأماكن معلومة وموشومة في الذهن ، كل الأماكن مرسومة بإتقان ، ولها أبواب وحيطان ولافتات تضاء بالنيون والألوان،  تحمل أسماءها ووظائفها وأدوارها على جبينها ولا يندى لها جبين إذا كان ما تقوم به في الواقع يتعارض مع هذه الأسماء والوظائف والأدوار .
البنايات والبِنْيات والعلاقات والمؤسسات تضاريس فعلية لهذا الواقع الموصوف بعناية في المجموعة القصصية ، والتائه الوحيد فيها ..هو الإنسان " اللي ما فحالوش " ، ولتيهِهِ نُجود يقطعها  عطشان  بلا أمل في غيمة ، مشدودا إلى سماء لا تمطر،  بحبال السراب .معلقا كالمنتحر بين السماء والأرض .، ولتيهه جبال صعودها يقطع الأنفاس ، لتيهه أغوار وحافات وفجاج وأرصفة .
تلك هي تضاريس التيه .
جنة صارت جحيما لما غادرتها الملائكة واستوطنتها الأبالسة .
جنة صارت جحيما لما غادرها الإنسان .
جنة صارت جحيما لما صار الإنسان وغدا ووحشا يفترس الإنسان .
جنة البيت ، وجنة العدالة ، وجنة الصحة وجنة الإدارة وجنة القرابة وجنة المودة وجنة الرحمة وجنة القرابة .......جنات بلا إنسان .
في هذا التيه الوجودي العظيم والمرعب والمؤلم لمن يعبر تضاريسه أعزل بلا سلاح وسط الضواري والكواسروالحيتان .في هذا التيه الوجودي الكبير تتقاطع مصائر البسطاء وخطاهم تحت دائرة الضوء الذي تسلطه الكاتبة على واقعهم ومعاناتهم .تلتقي المرأة والرجل / النصاب والبريئة / الجميلة والوحش .تلتقي كل الفئات العمرية / الأطفال والفتيان والمسنون.يلتقي المستضعفون والمسحوقون / العامل واللاجئ والزوجة و الموظفة .تلتقي الفئات المهضومة الحقوق ، تلتقي الفئات المهمشة وجها لوجه بمن صنعوا آلامها وعذاباتها ، لكنه لقاء داخل متاهات وأنفاق  بلا  أبواب .
في هذا التيه العظيم يلتقي الموت بالحياة ..وتصر الحياة على أن تحيا وتبقى ...حتى وإن كان البقاء أحيانا معلقا بمجرد حلم ...حلم أن تحمل الأم مولودها بين يديها فتنسى عذابها ، وتفلت المتقاضية بجلدها من فخ النصاب، وتبقى للمواطنة بعض مبادئ لا تتحلل في كأس قهوة أو كأس رشوة .
قصص المجموعة إذن  وكما أرادت لها الكاتبة ذلك حين عنونتها بتضاريس التيه ، تضاريس تيه فعلي .......تضاريس التيه فعلا .
                      
ب)    تضاريس التيه و صرخة الأغوار*

1) " تضاريس التيه " هو المستشفى ، وصرخة الأغوار هي تلك التي تصعد من أحشاء المرأة التي جاءت لتلد فصار عليها أن تصعد (السرير ) الجلجلة بلا صليب ، وتعبر الصراط (الكرسي) إلى غرفة الولادة على حد الشفرة .
ستمشي المرأة فوق الدماء  والقيء والأوجاع والإهانات والأنين والصراخ والكلام تحت الحزام ـ الكلام تحت الحزام أقسى على قلب المستضعفين من الضرب تحت الحزام ــ وحدهن المسحوقات يشعرن  بالضربات حين يسمعن هذا الكلام . وفي فضاءات أخرى على الأرض نفسها  وتحت سقف السماء نفسها من الوطن نفسه ، تُستقبل نساء أخريات  عند بوابة العيادة وتنحني "كم وزرة بيضاء" لتساعد السيدات على صعود الكرسي ،  أو سرير الفحص، أو انتعال الحذاء .
نساء ونساء .
 أما هنا فتؤمر المرأة برفع" قاعها" وكتم أنينها لأن "القيعان" ليست سواء ..القيعان طبقية بامتياز ، هنا بنات القاع الاجتماعي ، وهناك بنات القاع والباع ، قيعان المترفات لا تتساوى في ميزان الطب ومصطلح التمريض مع قيعان المسحوقات .
هنا ، في المستشفيات العمومية تصبح مجرد التفاتة صغيرة وعابرة كرما ليس مثله كرم ، وتصبح محاولة التقاط السروال الذي أزيل عند الفحص مهمة أشبه بالمستحيل  ،خاصة وقد انغرست الأصابع المتفحصة في الأحشاء . فهنا "تفحص النساء كما تقلب الأحجار وكأنهن لسن كائنات بشرية" ، نساء عاريات من ملابسهن ومن جلدهن ولحمهن ودمائهن ، نساء مجردات من عزة النفس ومن الكرامة . نساء عاريات إلا من بقية أمل راودهن يوما أن يلدن لتكتمل أنوثتهن ...نساء يحملن في أحشائهن أملا .............." ولد ميتا " .
هي تضاريس التيه فعلا :
2) تضاريس التيه وصرخة الأغوارتلك  التي تصعد  من أحشاء الموظفة الرهيفة الإحساس ، الرقيقة المشاعر، وهي ترى الوجوه الأنيقة الحليقة تتحلق حول مائدة اجتماع المجلس الإداري لتحصي المداخيل وتنوه بالسعاة والعاملين وجباة المحاصيل ، ولا هم لأحد إلا  ملء  الصندوق .
ملء  الصندوق .
الصندوق امتلأ فعلا،  ولكن بدماء الشاب الذي وقف في الطابور يضغط على الجرح الغائر في الخد .
وامتلأ بالأنين والأوجاع والآلام .
امتلأ بعرق المتسولة ، وامتلأ بآخر رمق من حياة عجوز لفظ آخر أنفاسه بينما رفيقة  محنته  تنتقل بين المكاتب لتسديد فواتير الفحص .
وجوه أنيقة حليقة تتكلم كل اللغات إلا لغة  المرضى ، وتهنئ نفسها على ارتفاع المداخيل ...ولو كانت رأت وجهها في المرآة ...لكانت رأت الأنياب التي نبتت لها لطول ما غرست أسنانها في لحم الفقراء .
لكانت رأت في المرآة ...وجوه مصاصي الدماء.
3) صرخة الأغوار أيضا هي ، بالنسبة للعجوز الذي خاب ظنه وأمله في الكشف عن حالته ، وصار يعرف بأن النوبة القاتلة لن تمهله حتى يصل دوره بعد ستة أشهر في قسم المستعجلات .
مستعجلات تأمر المريض المسن والواهن العظم والقلب أن يعود بعد ستة أشهر لأن حالته مستعجلة .....هي فعلا مستعجلات جدا .
4) وصرخة الأغوارهي ،  بالنسبة للزوجة التي تجر أطفالها وتقصد بيت أبيها بشعرها المبلل بقذارة الزوج ، فقد أفرد الوحش رجليه وتبول على رأسها ، فقط ، فقط لأنها كانت نائمة، ولم تلب له حاجته كالعادة قبل أن ينطق بها .
أطفال جياع وزوجة تائهة ، بين أم تحثها على ترك الأطفال للوحش، وأب يأمرها بالرحيل العاجل لأن بقاءها ببيته ليس في مصلحتها ، وزوج جبار متغطرس ينتظر عودتها للبيت لكي يعلمها أحدث فروض الطاعة .
امرأة تائهة تجر أولادها وراءها وتقصد محطة القطار ..تنظر بين الفينة والأخرى خلفها إلى الأبناء ، وتتابع السير ، دون أن تعرف أو يعرف القارئ إن كانت ستنتحر أم ستنتصر على كبريائها وتعود صاغرة لبيت الطاعة .
وما الفرق بين أن يمزق القطار جسدها أو يُحَوِّل الزوج البوَّال أيامها إلى أشلاء؟.
5) وهي صرخة الأغوار حين يُرغم اليتيم تحت ضغط اللهو السخيف للأم والخالات على التبرؤ من حبه لأبيه ....فيُحبه في السر  طوعا ويطيعهم في العلن مكرها .
6)  ويطمع اللاجئ في العودة إلى بلاده ورؤية سمائها بعينين مفتحتين  ، خاصة وقد أصبح مواطنا صالحا يشرب الخمر ويتعاطى الحشيش ، ولم يعد ينقصه غير الجواز . لكنه سيعود في صندوق ، سيعود ميتا بعينين مفتحتين على سماء فارغة.
لم ينفعه أنه صار مواطنا صالحا يشرب الخمر ويتعاطى الحشيش .
7)ويستغل الوغد النصاب تواطؤ قاضية ليستدرج المرأة الشريفة إلى سرير شهوته البهيمية .سيدة لا ذنب لها إلا أنها لا تعرف أسرار البيع والشراء وبعض أسرار القضاء.
8) و تمتلئ يوميات الأم باللهاث خلف الوقت والأولاد لتحميهم من زخات المطر عند باب المدرسة ، أو لتتركهم فريسة للحمى وتذهب لتجلس في مكتب بارد على جمرات الخوف والقلق .، أو تكتفي بنفض الغبار عن المقام الزكي للولي الطاهر ، والإصغاء إلى ألمها الخاص وشغب الأولاد ،، أو تدور مع دوامة الحياة والمواصلات لتكتشف  بأن الزمان قد تغير وبأن القيم قد ضاعت وبأن الأيام قد ازدادت سوءا .وبأنها هي ..ربما ...مجرد ورقة سقطت سهوا من دفتر مذكراتها القديم ، ومن حساب  الأحلام الوردية للشباب.
9)هي صرخة الأغوار الباردة ، صرخة العجوز الذي ينتظر أبناءه كل صباح  عند بوابة المستشفى ولا يأتي أحد ليأخذه ..فلم يعد أحد يرغب به . لكنه ..لكنه يصر على الانتظار ، فيجمع كل صباح ملابسه  وغطاءه في كيس بلاستيكي ويعود لينشرها في المساء ، حين ينتهي موعد آخر زيارة ولا يأتي أحد ليأخذه .
دائما ودائما ،هي  تضاريس التيه ، ولكنها غير ذلك أيضا .هي أيضا رصيف للوفاء والصفاء والحنين  .
                   ج) تضاريس التيه و   رصيف الوفاء*

1)  التضاريس أيضا رصيفُ  وفاء للملح والطعام ولزهرة الأيام التي ابيضت في الأيادي  ، وللتجاعيد التي حفرتها السنون على الجبين وعلى أطراف الشفاه وجفون العيون ، هي رصيف الوفاء للمرأة المسنة والرجل العجوز حين يجلسان جنبا إلى جنب في حديقة عمومية ، هو يحكي وهي تنصت أو يتبادلان الأدوار ثم تمسد يده وتمسح طرف عينه وجوانب فمه ....وينصرفان .
2) وهي رصيف وفاء المرأة لنفسها ولذكرياتها الشعبية اللطيفة حين تحتفي المرأة بالعيد الأممي للنساء ، والذي جعلت منه عيدا خاصا بها ، عيدا لها وحدها ..بعيدا عن الورود و  ضجيج الخطب..بعيدا عن الصخب ، تحتفل المرأة بنفسها ...عند النبع الحقيقي للحب ، حفلا يكفي فيه بعض البصل والسمك لتغمرها السعادة ..ولتعرف  بأنها ....قد احتفلت فعلا بالنساء ، ولكنها احتفلت بلا كذب .
3) هي ..هي  رصيف الأرواح التي تنتظر أخذ العزاء في موتها ، رصيف الأطياف التي تسكن كل ركن من البيت والذاكرة ، رصيف اللقاء بالأموات الذين يقاسموننا الكلام والأيام،   رصيف أول لفاطيمة ورصيف  ثان للكاتبة التي ظلت وفية لقصتها ،فاطيمة التي لا تزال تجوب أروقة المستشفى وخيط دم رفيع كالنزيف يزفها لموتها .
4) رصيف لاختبار قوة الإيحاء  في علاج أعطابنا ، حيث تكفي كلمات للملمة الشتات : " أنا لاباس ..أنا لا باس ..جرحي برا .  أنا لاباس، جرحي برا، قلبي لا باس ،جرحي برا ." تكفي كلمات لتخف حدة الألم وتلتئم الجراح، أو على الأقل تتوقف عن النزيف  .
5) رصيف لكنس غرفة القلب ، رصيف لغسل الذاكرة ، رصيف للعلاج بالكتابة رصيف من......... تضاريس التيه.
هي كل ذلك وهي غير ذلك أيضا  .
هي في الأخير تضاريس للمفارقات القصيرة جدا .
                      
د)  تضاريس التيه والوقوف على حافة المفارقة *

حافة المفارقات في  مجموعة " تضاريس التيه " حادة  تشرف على الأغوار العميقة ، حادة ومضيئة تشرق بالمعنى كشمس من تحت الماء.ليست الشمس في الأعلى  فقط ، فكثيرا ما تكون صفحة الماء سماء إن جربنا الغوص إلى الأعماق.
التضاريس أيضا تضاريس للمفارقات :
1) الماكرة :
حين يسأل الطالب الجامعي عن فتوى تبيح للجائع السرقة .....لأنه يريد أن يسرق تفاحة تشبع..... جوعه الجنسي .
2) المذهلة :
حين توحي صورةُ رافعة البناء للزوج بحبل يتدلى منه رجل منتحر ، وتوحي للزوجة بوردة تدور في الهواء ، أو براقصة بالي تدور برشاقة على رجل واحدة
3) الذكية :
يوم تلتقي المرأة وجها لوجه بعدوها السابق في الجامعة على مائدة للحوار والعمل فيقول مستغربا :" اليمين واليسار، ماذا جمعهما معا؟ " فترد عن صواب : " لقد كنا مجتمعين معا منذ البداية ..فقط كنا صغارا ولم ننتبه لذلك "
4) الساخرة :
إذ تطلب الحبيبة من محبها المتنور جدا زهورا برية من ضفاف الأمازون كهدية رمزية على قدر الحداثة التي يدعو إليها بدل مهر من ذهب ومال ..فحتى هي لا تهتم بكلام الناس ، ولكنها تحسن رفع قيمتها في عينيه هو الذي قال بأنها أغلى من المال والذهب .
5) المضحكة /المبكية :
إذ تشكو الزوجة لصديقتها باكية ما تعانيه مع الزوج البخيل والبغيض ، والذي جعل من البيت غارا أسود  مظلما مات فيه الحب ومات فيه الفرح .فتذكرها الأخيرة ضاحكة،بأن أغلى ما كانت تتمناه في الصغر هو أن يطير بها فارس الأحلام إلى مغارة في  أعلى الجبل ......وقد فعل .
6)المربكة :
حين تشعرك شارة الانتساب إلى المهنة بالخجل بدل أن تعزز لديك روح الانتماء
7)غير المتوقعة :
إذ يدخل  الإبن ووالداه  إلى بهو المحكمة لإجراء معاملات الطلاق.....طلاق الرجل المسن من المرأة العجوز .ياللمفارقة .
8)الحالمة :
بزمان آخر تحت شمس أخرى  يصيرفيه الابن مهندسا أو رئيس عمال ، يجلس في المكتب المريح ويركب السيارة المكيفة ... هكذا يحلم الأب  بمستقبل لابنه  بينما يحمل الطوب والحجر على كتفيه تحت أشعة الشمس الحارقة ..
9)البليغة :
لرجل وامرأة لم يلتقيا أبدا ولم يفترقا ، ماتت قبله بيوم فدفنوه في اليوم الموالي.
10) الوقحة :

حين يصبح " ادهين السير " أفضل طريقة للسير السريع ولا يهم أن لا يشد السير الحذاء ، إنما المهم أن ندوس بالحذاء على المبادئ والقيم ونحث السير لقضاء المصالح . ونغض البصر عن الوقت الأفضل للدهن ، أبعد الصلاة أحسن أم قبلها .؟
                                
ه) تضاريسٌ لبحرِ المآسي
هي إذن تضاريس تصعد من أغوارها صرخات المقصيين والمهمشين والمستضعفين والمسحوقين .
وهي تضاريس تجوب أرصفتها أرواح عاشقة تحن إلى إلفها أو صغارها أو تحن إلى نفسها .
وهي تضاريس تقف على حافتها المفارقات الجارحة أحيانا والمتأرجحة بين النزول إلى الأغوار أو الصعود إلى الرصيف .
هي تضاريس لبحر الناس ومآسيهم .
لقد أعطت الكاتبة للصراخ صوتا لعله يصل إلى كل الآذان .
وأعطت للحنين والشوق بعض الحق في الدفء.
وأعطت للومضة  العابرة بعض الوقت لتستريح فيه من دهشتها .
قصص الكاتبة مريم التيجي إنسانية /اجتماعية وواقعية بامتياز، وقد وفقت المبدعة في سردها بأسلوب واقعي وسلس ينفذ إلى العمق مباشرة ، بالقدرنفسه الذي يوفي فيه التفاصيل حقها من العناية سواء تعلق الأمر بالقصص القصيرة الثلاثة عشر أو بالقصص الاثنتي عشر القصيرة جدا .
أسلوب الكاتبة يتفوق في غالب القصص على الصورة نفسها، في نقل الواقع وعرضه على الأنظار ، وهذه من المرات النادرة التي تستطيع فيها الكتابة التفوق على الصورة ،وليس ذلك إلا لأن الكاتبة تنظر إلى الواقع بعين القلب فيجعلها إحساسها البليغ بالفجائع والمواجع والآلام ،  تقدم هذا الواقع حيا يصرخ ويتوجع ويتألم كأنه يتكلم عن نفسه ويقدم شهادة عن مآسيه .
إنها قصص تفتح الدمل الاجتماعي بقلم / مشرط لتنظف الجرح من قيحه وصديده ، وتفتح  معه أبواب الأقبية المغلقة على عفنها لتطرد الهواء الفاسد والدماء الفاسدة أيضا ....فما أكثر الدماميل الاجتماعية التي لا تزال تخفي قيحها وصديدها  عن الأعين ، وما أكثر الناس الذين لا تزال تجري في عروقهم دماء فاسدة .
لقد بثتنا الكاتبة شكواها وفتحت أعين القراء على  حقيقة " حالتنا الاجتماعية "
المزرية .وهي بذلك قد رفعت أمانة الشهادة على هذا الواقع عن عنقها وطوقت بها أعناق قرائها ، لقد طوقتنا بواجب الأمانة ، وهذا منتهى ما تطمح إليه  كل كتابة جديرة بهذا الإسم ، ــ" أن تجعل الارتقاء بالمجتمع وتغيير العقليات مسؤولية مشتركة " ـــ
وأخيرا فإذا كان لا بد من وجود كاتب "ة" يجيد قراءة الواقع ، فإنه لا بد أيضا من وجود  قارئ"ة" يجيد الإصغاء للكتابة .
                                                         * جمال الدين حريفي
                                                           القنيطرة : 21/03/2014
                                                            19/جمادى الأولى /1435
الهوامش :
    *" تضاريس التيه ": مجموعة قصصية ، صادرة عن دار فضاءات للتوزيع
والنشر ، عمان ، الأردن . الطبعة الأولى : 2013.
*" مريم التيجي " :كاتبة مغربية ،من مواليد مدينة الرباط 1969
ــ حاصلة على ديبلوم الدراسات العليا في الفلسفة / تخصص المنطق
ــ حاصلة على ديبلوم في التواصل
ــ اشتغلت بالصحافة الورقية طيلة عشر سنوات
ــ تتوزع اهتماماتها بين النقد الأدبي والاجتماعي والسياسي والفكري
ــ تكتب القصة والمقالة والخاطرة
ــ تعد للطبع مجموعتها القصصية الثانية ، وتشتغل على روايتها الأولى " ذات البعد التاريخي والاجتماعي والنفسي "
ــ تنشر في عدة منابر ( ورقية وإليكترونية )
 *الأغوار والأرصفة والحافات: تضاريس بحرية
*عناوين القصص وترتيبها حسب ما اقتضته القراءة:
حافة المفارقات 
رصيف الوفاء
 صرخة الأغوار
1) استفتاء ـ ص89
2) سر ـ ص91
3) مفارقة ـ ص 95
4) حداثة ـ ص99
5)فارس الأحلام ـ ص100
6)  شارة ـ ص 88
7)  مفارقة ـ ص 104
8)  حلم ـ ص 93
9)  حب ـ ص 105
10) ادهن السير ـ ص102
1) وفاء ـ ص97
2) عيد امرأة ـ ص75
3) فاطيمة ـ ص39
3) فاطيمة ـ ص 41
4) أنا لاباس ـ ص 81
5) تضاريس التيه ـ ص83
1) ولد ميتا ـ ص 7
2) مصاصو الدماءـ ص31
3) مستعجلات جدا ـص35
4) بيت الطاعة ـص47
5) اليتيم ـص77
6) اللاجئ ـ ص79
7)الله ينصر سيدنا ـ ص61
8) يوميات أم ـ ص67
9) انتظار ـ ص 87

06/02/2014

نــداء الجذور وسؤال الهويــة قراءة في روايــة الدكتـور مصطفى الورياغلي* *جنة الأرض

*جنة الأرض*
بقلم : جمال الدين حريفي
·       الإهــداء : "إلى المعلـم السِّي محمد الريفي"
**********************

هذه واحدة من الروايات التي تؤكـد رسوخ قدم الكتـاب المغاربـة في تربـة هذا الفـن  المتمنع الجميـل، وتشهد لصاحبهـا بسعـة المعرفــة والثقافــة  ، و عمق الاطلاع على تاريخ بلاده ومجتمعــه ،  وتشهد له ثانيـا بالقدرة على نحت الشخـوص والإحاطــة بالأحداث والوقائع  ، والدرايـة بالنفـوس، وحسن الإنصات لنبضـات القلـوب ،  والإمساك بومضـات الروح. وتشهد له في الأول والأخيـر بعلـو الكعب في الإبداع الفني والصنعــة الأدبيـة.
وهي روايـة تفتح أمام النقـاد إذا شاؤوا منافذ ومسالك ومُدخلات لقراءات متعددة وممتعـة، أذكـر لا على سبيل الحصر.
·       مدخـل الشخـوص :
فشخـوص الروايـة تملأ صورتهـا في مرآة الحكي بالألوان الحقيقيــة للحياة، شخـوص  مرتوية بمـاء  بيئتها ، ممتلئــة بذاتها وثقافتهـا الخاصـة والمتنوعـة، كما أن العلاقـات بينهـا تكـاد تكون أقرب إلى المجاز منهـا إلى الحقيقـة  إذ ركب الكاتب  من الواقع والمتخيل التاريخي مجازات حبلى بشتى الدلالات ومفتوحـة على أكثر من تأويل.
·       مدخـل التأريخ :
يَعْبُر الكاتب تضاريس الإيديولوجيات(148) ويقرأ خرائط المصالح راسما بذلك أوضح صورة  عما كان يعتمل في أحشاء عالم اختصرتـه  مدينة وطوتـه بين مقاهيهـا وفنادقهـا وإقامـاتهـا.. "الصراع الدولي كان حاضـرا هناك" . الذين يخططـون والذي يستطلعـون، والذيـن يتآمرون، والذيـن لا يشعـر أحـد بأنهم هناك ،  والذيـن يتحسرون على الثورات الضائعـة أو فروا من وجـه الاستبداد "كلهم كانوا هناك" في انتظـار من يضع جغرافيـا جديدة لمناطق النفـوذ.
·       مدخـل الأمكنــة :
إذا كـان البدن هو السكن الأول  للروح. فإن المكان هو السكن الأول  للأبـدان،  منه تنشأ، وفيـه تعيش.. وإليـه تعـود  لتنعم بإقامتهـا الأخيرة في التراب.
المكان سيـد الناس، سيـد أحلامهم ومآسيهم ،  والشاهـد على سعادتهم أو بؤسهم.
وطنجـة / المكان :  مدينـة  بسعة العالم، غير أنهـا مدينـة  سرقت منها أسماء كل الأمكنة ولم يعد فيها مكان لأهلها الذين أصبحوا فيها بلا أسماء ولا هوية ، فهم الأهالي وهم المسلمون ، وهم البدو ، وهم المهاجرون  وليسوا شيئا غير ذلك ، حتى إنه لا أحد يراهم أو يشعر بوجودهم(116) . الأغيـار وحدهم يسودون ويحكمـون ويعملـون، ولمـا غادرهـا الغربـاء سارع أهلهـا يزفـونهـا "كعروس / قربان"  لوحش المال والعقـار(217)، وحده  الحفيد بقي وفيـا للأسمـاء وللأمكنة  .. فسارع إلى حفظها   ،  قبل أن يطوي النسيـان المكان والإنسان ، وما كان .
طنجة لم  تعد مكانـا وإنمـا صارت ذاكرة .
ولا شك بأن  الحفيد وهو يشعـر بالنهايـة الوشيكـة لما كان يألف  ويعتاد منها ، لم يجد ولن يجد من وسيلــة لاسترجاع مدينة الجد وصومعتـه غير الكتابـة.
وهذه الأخيرة عصيـة على البيع .. لأنهـا تسكن في المكان الوحيـد الذي يبقى بعد أن يتم بيع كل شيء  :
إنهـا تسكـن في اللغـة..
اللغـة أيضا مكان  ، ومسكـن للحفيـد الزاهـد في حطـام الحياة . وليس من الغريب أن تكون جميع عنـاوين  فصول الروايـة أسمـاء أمكنـة .. إلا الفصل  الأخـير  فعنوانه " الحفيد "
فالحفيـد أيضا اسم مكان ..إنه  المكـان الأخير لحفظ الذاكـرة.
لأنه المكان / الإنسان.
****************************
تلك ثلاثـة نمـاذج فقط ، للمدخلات الممكنـة لقراءة الروايـة ،وإلا            فغيرهـا كثير ، كمدخل الثقافــة، والقيم،   والجمـال ومدخل الحب والحرب
 و الاستلاب ومدخل الهوية والحضارة والاغتراب والمدخل البنائي أو الحكائي أو اللغـوي، أو التاريخي ... إلخ .فالروايـة من الثراء والخصوبـة والغنى بحيث لا تكفي قراءة واحدة ولا  اثنتان أو ثلاثـة للإحاطـة  بعوالمها ، بل هي من ذلك الصنف من الأعمـال التي  تستحق عقد الحلقـات لتدارسهـا ولتعميق النظر فيها . خاصـة وأنهـا استوت على مهل ، وبصبـر جميل من صاحبهـا.
 وسأفرد هذه القراءة المتواضعـة لمدخـل الشخـوص. تحت عنوان :
"نــداء الجذور وسؤال الهويـة"
التعريـف بالشخــوص :
-       أول ما يستوقفنـا في "جنـة الأرض" أن الروائي خلق الشخـوص وأنشأهـا من  التاريخ "الواقعي  والمتخيل " لطنجة .بحيث لا نجد في الروايـة شخصيـة  نافلة أو متطفلـة أو مجانيـة، أو غير منحـوتـة أو مصقولـة بدقـة متناهيــة وعنايـة كاملـة تبرز سماتهـا ومزاجهـا وطباعهـا ومواقفهـا.
o        "فالليـدي مرغريـت" : انجليريـة خالصـة ،  ومن صميم الأرستقراطيـة الإنجليزيـة ،  في أناقتهـا ورقتهـا وقسوتهـا (38)وفي حنـوهـا واستذكارهـا وحنينهـا، وفي عنايتهــا بالنباتـات والذكريـات ،  وتنظيمهـا لليالي والأمسيـات.
o        أنا بيـلا : صحافيـة  مضمخة بعبق الحضارة و مغمـوسـة في ماء كل الثقافات(86) ، مرتويـة بآهاتهـا السريـة ومذاق أطعتمهـا وإيقاع الرقصـات .غرستهـا نزوة عروسيـن إيبيريين  في الضفـة الجنوبيـة لبحر الرغبات، هناك نمت وترعرعت في تربـة جديـدة وكأنهـا واحـدة من  نبتاتها الأصيلة ،" أنابيـلا الصحافيـة الشابـة/ أنابيـلا الطفلـة اليهوديــة الصغيرة"  تدخل بيوت النصارى والمسلمين (89)وترقص على إيقاع حضرة المريدين  بجوار الزاوية الناصريـة(91) .. تجوب الشوارع رفقـة أحمد(88)  ،  تكتب تقاريرها في المقاهي ، وتتمدد على سرير اللذة العارمـة في صومعـة  النساك الزاهدين في كل الرغبات ، إلا  اثنتين :  "ومضة العقل وشهوة الجسد"(102) .
o        فيديريكو : كاهن الثورة الأحمـر ذو الأصول الرجعيـة المحافظـة (73،)ترك هو أيضا البحر والثروة وراء ظهره وجاء إلى الجنوب يلهث وراء بريق
 الاشتراكيـة  ، ويلعن الرأسماليـة والعسكر ويغضبـه "مازحـا"  ألا يشاركـه الصديق فطـور الصباح أو يترك له على الأقل نصيبـه من حبات التشورو.
فيديريكو يرى الاشتراكيـة في كل شيء .. لكنـه لا يرى ما يفعلـه الاشتراكيـون بكل شيء(69)
o        عيـاد الريفي الأصيل:  وصخرة الجبل الخام، الصخرة التي لا يمكن لنتوءاتهـا أن تَمَّحي أو تختفي لمجرد تعرضهـا لشمس أو ريح المدينـة.
o        موشي السمسار: والتاجـر والمضارب الذي يعرف كيف يدخل الصفقـات وكيف يبيع ويشتري برصيد الذكـاء وحـده  ، وكيف يتنازل للآخريـن عـن نصيبهم المستحق وفي نيتــه أن يجني أكثر.(66)
o        أحمـد / هامت: الخلاسي و  المهر المهجـن،  الموزع بين أكثر من هويـة وأكثر من ثقافـة وأكثر من لسان، الممزق بين الجذور والثمـار، يميل مع الرياح ثم يستقيم واقفـا كشجرة لا تمـوت إلا واقفـة، وكذلك مـات...
أحمـد الذي  يخترق طنجـة  من أقصاها إلى أقصاها، يحترق شوقا لجذوره ويذري رماده فوق المدينـة ــ ليكشف كالساحر ما تخفيـه بين الثنايا والزوايا وفي  نوايا الفرقاء المتحكمين قسرا وقهرا وسرا وعلنا في رقبـة الصراع الدولي ــ  ثم كطائر  الفينيق يخرج من رماده ويطير عائدا إلى عشه في "بني حذيفـة"
      ْإيليـزابيت : المسكونة بحلمين ووهمين  . إيليزابيت عاشقـة المستحيل ،، إلهـة وأمـة(158). معبودة وجاريـة، تلهث خلف الثورات والمجاعات والبؤر الحمراء  والرقع الملتهبـة هريا مما لم تستطع فهمـه،  أو مقاومتـه، قدرهـا غير المكتمل.
o     ريبيكا و أنجلينـا : خطـافتا الربيع الأمريكي وبشارتا   طلائعـه، سيدتا الشباك، وقناصتا الفرص، فالدول الكبرى لم تعد تعتمـد على "الأخوات الطيبات" لتعليم الإنجيل وتضميد الجراح وتوزيع الجبن وأنواع الشكولاطة على الفقراء،  وإنما صارت تعتمد على "نساء المخابرات" (142).فوراء كل خطاف لبؤة تتربص بالطرائد ، وخلف كل بشارة عاصفة .
o    عبد اللطيف : الوطني الذي  يتزلف لبنات أمريكا  ويتأفف من أبناء  شعبه ووطنه.
o    ويليـام : المعلم الأول،  والملاك الشيطـان، ويليـام الميت قبل الأوان،  والحي أكثر من الأحياء، ويليام الصوت الفتان الذي يقود الأرواح التائهـة إلى أوديـة العشق والمعرفـة (56)، حيث يجب أن تقيم على حافـة اليأس أو على حافـة الالتباس.
o    المعلم السي محمد الريفي، السي حدو، عمي شعيب السي الفلاح، السي ميمون و علي و الهادي و  ....الآخـرون.
هؤلاء جميعا هم شخوص الرواية الذين  ملؤوها حياة وحوارا  وأحداثا .....عاشوها وجعلوها تحيا من خلالهم،  وككل الأبطال  منهم من لعب الدور الأول  فكان البطل الرئيسي ( عياد  . أحمد   وويليام )
ومنهم من لعب الدور  الثاني  فكان بطلا مساعدا ( أنابيلا ، الكونتيسة ، فيديريكو ، وإيليزابيت  )
ومنهم من كان دوره ثانويا فكان بطلا ثانويا ( السي حدو ، عمي شعيب ، المامون ، علي ، الهادي وآخرون .)
واحد فقط سيبقى خارج كل تصنيف ، إنه الشهيد " المعلم السي محمد الريفي"
 سيتضح المغزى من هذا التقسيم   مع تقدمنا في هذه القراءة . فرواية "جنة الأرض " تقوم على الأضلاع الثلاثة لمثلث أبطـالهـا الرئيسين . ( عياد /أحمد/ ويليام)لذلك أقترحه نموذجا لدراسة الشخوص وعلاقاتها ، في السياق السردي للرواية .
عيــاد : الذي لا يثير انتباه أحـد، "باستثنــاء أحمد" داخل الروايـة . مثلمـا قــد لا لا يثير اهتمام "القراء أو النقـاد" ، فقدره من قدر الشعب الذي يصنع كل شيء ، ولا يعترف له أحد بفضل أو وجود .
أحمــد / هامت : الذي يسرق الأنظـار ببريقـه وقلقه الدائم ،  وحدة ذكــائـه  ونهايته المأساوية ،.
ويليـام: الذي عبر الحيـاة كشهـاب ، ولما مات بقي أثـره وعطـره عالقـا بالثـوب والجسم والمكان واللسـان.
****************************
أ‌)     عيـاد : والهويـة / الأصل(196) -................../--- "الخصوصيــة"
يرسـم عيـاد بمسـاره في الروايـة حياة المهاجريـن من الريف إلى المدينـة / الوحش . أولئك الذيـن اكتووا بنـار الفقـر والفاقـة،  ولفحـت ظهـورهم سياط الحاجـة والعوز والجوع ، فجاؤوا يبحثـون عن ملاذ ، وعـن حلم  بالغنى والثراء،  أو عـن مجـرد كسرة خبـز يتقاسمـونهـا مع الضائعيـن مثلهم في الشوارع،  فباتوا في الشوارع،  وعلى عتبـات الفنادق والعمـارات، وأعاروا ظهـورهم لمن يركبهـا من المرفهيـن،  وأكلوا قمـامات النصارى. سكنوا في الجحـور والبيـوت الواطئـة، وانتشروا في أرجاء المدينـة/ الغـول كهواء ملوث يجرون وراء أحلام/ سراب.  ضاع الآلاف منهم، افترستهم المدينـة وفرشـت جـلودهم زرابي فوق   طينها وترابها حتى لا تتسخ أقــدام الأفاقيـن  من الأسيـاد الجدد.(60) .
أما الناجـون منهم بالكـاد، وبالآحـاد، فقـد أنقذتهم صدفـة مـا، لقـاء عـابر  بنجمة الحظ ، أو قـدر مكتـوب بظهـر الغيب ، فاشتغلـوا عنـد "معلميـن"،
ثم جمعـوا الفرنك على الفرنك فصـار لهم رأسمال على قدر طمـوح  طبقتهم وتطلعها ، واستقلـوا بتجارة رثـة تغني من بعض الجوع ، ثم أكتروا غرفـة وبيت مـاء،  وصار أقصى أمانيهم أن يلبسوا كما النصارى،  وأن تحبهم إحدى "الماريات" إن لم يعترض طريق حبهم أحـد، ولم تكسر العنصريـة ضلوعهم أمام أبواب سينمـا(186) تسلي المترفيـن من كل الأجنــاس بعرض صور جنسهم الفريـد بين الأجنـاس، ذاك الذي يسميه المستعمر " الأهالي" .
الناجون منهم سيأتي وقت  تصدح فيه حناجرهم في المظاهرات المطالبـة بالاستقلال، ثم تصدح مرة أخرى وهي تفضح غيـاب العدالـة بين جهـات الوطـن وأبنائـه بعد الاستقلال (221). عيـاد واحد من هؤلاء" الناجيـــن" .
بل هو الوجـه الأصل، الوجـه الأول والحقيقي لأحمـد قبل أن يحـول طقس التعميـد الجديد أحمد إلى " هامت "
وليس صدفة أن يلتقي أحمد بعياد في المحطـات والمنعرجـات الهامـة بالنسبـة لحياة كل واحد منها :
سيلتقي أحمـد بعيـاد الريفي فقيـرا ضائعـا جائعـا يتحلب ريق الشهـوة  البكر في فمـه وهو يرى الكأس المنعنع المعشب  بين يديـه.(16)
أحمـد سيطعم عيـاد الجائع ويتوسط له في عمل.
 ثم سيلتقي به وقد استقل عن معلمـه وصارت له تجارة صغيرة(93)، ويلتقي به  وقـد طـور تجارتـه واكتـرى معرضـا بين التجـار الصغـار(130)،  ويلتقي به وقـد أحـب، ويلتقي به  وقـد صـار كل همـه أن يلبس كالنصارى (133) ،ويلتقي به ليأخذه معـه للقاء الأمريكيتيـن ريييكـاو أنجلينـا وصديقهمـا الوطني .ــ أحمـد سيأخذ معه عياد عمـدا ــ لأنـه كان على موعـد معهمـا، وهما وصديقهمـا الوطني لن ينتبهوا لعياد ، بل إن صديقهما الوطني جدا  سيمتعض من وجوده بينهم(140)، ومن هم،؟ ومن هو عيـاد؟ . .
ذلك ما أراد أحمد أن  يكشفه .
عيـاد هو الأهالي، هو  المسلمون ،، هو الشعب الذي يتكلم الجميع باسمـه دون أن ينظروا إلى وجهـه أو يعترفوا بوجوده (144).
وسيلتقي أحمد بعيـاد وقد جاء لزيارتـه بقصر  الكونتيسة حيث كان أحمـد يرقد على فراش المرض بحب إيليزابيت التى غادرتـه، بلا حب، أو بحب  أكبر من قلبيهما معا(186).
وأخيرا  سيلتقي به لكي  ينقذه من رصاصـة "الشرطي" أثنـاء مشاركتـه في مظاهرة 1953 المطالبـة بالاستقلال(213)
عجيب هو هذا المصير المشترك.
أحمـد وعيـاد.
اثنان في واحـد.
تقاسما اليتم المبكر، والهجرة إلى طنجـة.
وتقاسما النجاة من مخالب وأنياب غيلان المدينـة وذئابهـا .
وتقاسمـا النجاح النسبي في حياتهـما.
وتقاسمـا الفشل المطلق لتجربـة الحب
تقاسمـا انكسار القلب.
وتقاسمـا المشاركـة في النضال الوطني.
كأن "هامت" لم يكن وجه أحمد المستعار وإنما  كان قناعا لعياد. .عينَـه التي يرى بها ما لم يكن مقدرا للأهالي أن يروه، ولسانا يعبر  عما لم يكن بمقدور الأهالي أن يعبروا عنه.
في أحمد تلتقي المتناقضات والمفارقات.
الظاهر : "هامت"
الباطن : "عيـاد"
الجوهر والشكل
 الجوهر عياد ، والشكل هامت .
وهذا واحد من أوجه المجاز في العلاقات  المركبة والمعقدة بين الشخوص/الأبطال الرئيسيين للروايـة.
**************************
ب )  ويليـام : الهويـة / المثال -.............---/ الكونيـة
هل كان لتربيـة الأب أثـر في ما صار إليـه ويليـام من التكتم على الأسرار والتحكم في المصائر(45)
ويليـام راهب القصر وعاهر الصومعـة (54)، الوسيط بين الثقافات والهويات ، نقطـة التماس بين القمـة والقعـر،  العقل والغريزة.  ملاك الرحمـة وشيطـان الفوايـة، ويليـام روح الروايـة الخفي وطيفها ،   النسغ الذي ترتوي منه الحكايـة و قـائد أوركستـرا الجحيم وزعيم جوقـة الشياطين الضاجة  الصاخبـة،  ويليام يرتق الشباك في صومعتـه ويلقيهـا على طيـور الأرواح الضالـة تارة ، وتارة  يقتعد صخرة المعنى ويرمي لحيتـان السراب بطعم الأسئلـة .
من الغريب أن يكون" الطعام"  أول طُعم أراد أن يغوي به أحمد حين قدم له قطعـة "الحلوى" يوم أتى أحمد لقصر الكونتيسـة رفقـة حدو الميكانسيان(36). أهي بدايـة الاستدراج؟  في تلك الطفولـة التي كانت تبدو بريئـة وجميلـة لطفليـن لا يوجد ما يجمع بينهما في طنجة، غير طنجة "جنة الأرض"
     عن طريق ويليام سيصير لأحمد أكثر من لسان(53) ، وسيصير له أكثر من جناح يحلق به فوق الخلق ويرقب ما يسكن وما يتحرك بعيني  هدهد يرى ما خلف حجاب الظواهر، يرى حقيقـة القوى المتصارعـة ، ويرى المصالح وراء بريق الشعارات والايديولوجيا المزيفـة للوعي.
ويليـام سيعبـر الحياة كنيزك، كشهـاب سيشتعل وينطفئ في اللحظـة نفسهـا،  ولكنـه كالنجم سيظل مضيئـا حتى بعد موتـه، وتحت ذلك الضوء ستعيش
الكونتيسـة ويعيش أحمد وتعيش إيليزابيت(179)، قبل أن تظلم طنجـة بكل ما فيها في أعين الجميع.
حياة ويليـام ستكـون أسرع من برق ، وأعمق من بحـر، وكثيفـة كضوء وهاج.
لعل ويليـام هو الحلم الوحيـد الذي لم يفارق أحمد/هامت في يقظتـه وفي نومـه.
لعل رغبـة هامت في أن يكون ويليـام ولو لمرة واحدة ، كانت أكبر عنده من رغبتـه في أن يكون هامت آلاف المرات، ولكن ذلك كان... مستحيلا .
 ويليـام كان بلا شبيه ولا مثيل وبلا بديل،  خالط الأجسام والأرواح وامتزج بها، ثم  انسحب . لكنـه بقي ساكنـا في الشراييـن وبين الضلوع، موته كان أشبـه بالانتحار، موت قبل الآوان، موت تحت الطلب.
مـات ويليـام لأنـه شبع  من  الحياة ولم يعد فيها شيء يغريه .ربما مات،  فقط لكي يجرب الموت (57).
ويليـام كان يقـود الأفكـار بدريـة قائد أوركستـرا ما هر إلى التخوم حيث يتردد العقل وتتزعزع  يقينياته ، ويفقـد هيبتـه وسطوتـه.
كان ويليـام سقراطـا حقيقيا في ثوب شيطـان ظامئ لا يرتوي من المعرفـة(56).
موتـه المبكرو المتوقع جعلـه أكثر حياة من الأحياء أنفسهم.
 بدون ويليام كان وجود "هامت" مستحيلا. إذ لم يكن في طنجـة إذاك من مكان لغير عياد أو أمثال عياد من البدو المهاجرين والتائهين في دروب المدينة الغول.
كان أحمد مجرد واحد من هؤلاء مجرد عيـاد من بين "عيادات" كثيرين. أحمد/هامت. .
أحمد هامت ؟ أم  أحمد عياد ؟
 الأصل إذن ..
  الجوهر أم الشكل ؟؟؟..تلك هي القضية(196) .
وذلك هو السؤال.............../ سؤال الهوية .

********************************
 ج) أحمـد / هامت : ...... إخصاء الإسم وتخصيب الهوية .
    سينصرف ذهـن بعضٍ مباشرة بعد قراءة الرواية ،  إلى استحضار غرفـة "مصطفى سعيد" بطل موسم الهجرة إلى الشمال ، ومقارنتهـا بصومعـة ويليام وهامت ، حيث سهرات الجنس والمجـون(55). وقد يرى في أحمد/هامت استمرارا أو تكرارا لمصطفى سعيد، "عطيل العربي الإفريقي" فحل الجنوب أو الشرق،  ومروض النسـاء، الذي يفترش إناث الغرب المتعطشـات لرائحـة الجنس التي  تنز مع العرق واللهـاث ، فتذكرهن بسحر الأساطيـر الشرقيـة وخرافات  السلاطين والحريـم.
وقد ينصرف الذهن أيضا إلى أبطال آخرين أرخوا في الروايـة العربيـة لتأثير فحل الشرق على إناث الغرب، ولذلك اللقاء الفريد من نوعـه  للرجل الشرقي بالمرأة الغربيـة.
الشرق والغرب.
المستعمـر والمستعمـر.
المتخلف والمتقدم(117).
حيث لا سبيل لرد الاعتبار للذات،  والانتقام ممن اغتصب الأرض وهتك الهويـة إلا بتركيع  نسائه  المحرومات وتقييد أيديهن بحبال الفحولة المزعومة  إلى فراش اللذة.
لا سبيل  لرد الاعتبار للذات المهزومة إلا بافتراش النساء ثم افتراسهن.
" طقس بدائي/ حيث يعوض  الالتهام الرمزي لأجساد النساء( الغربيات) ،  الالتهام الفعلي لجسد العدو (الغرب المستعمر) " 
قد ينصرف الذهـن لاستحضار ذلك، خاصـة وأن الروايـة تغري بالمقارنـة. فالبطل وحتى دون أن يغادر وطنـه سيجد نفسـه أمام الآخر الذي استوطنـه، "استوطن الأرض والذات والهويـة".
  ( الإنجليز يسودون والفرنسيون يحكمون والإسبان يعملون(116)،  قبل أن يأتي الأمريكان وفي نيتهم أن يستولوا على كل الوظائف والمهام).
سيعيش أحمد قلقـه" الوجودي " الخاص،  ممزق الوعي بين حضارتين وثقافتين وهويتيـن (100). الشرقيـة المتأصلـة في الذات،  وذرات الدم وخلايا الدماغ.و الغربيـة التي تعرض مفاتنهـا في الأحيـاء الراقيـة لطنجـة الدوليـة وفي فنادقهـا وشوارعهـا وحدائقهـا.
   الشرقيـة التي أنجبتـه من رحمها و غدته بلحمها و دمها  وروحها ،  والغربية التي كفلته و أرضعته  حليب  ثقافتها  وحضارتها  ولغاتها .
 "  أحمد ابن الْأُمَّيـْنِ وغَريقُ البَحْرَيـْنِ." .
   أحمد ، ليس مصطفى سعيد، ولا هو واحد من أولئك الأبطال الذين تحيل عليهم تحريـة مصطفى سعيد،  لأن أحمد سيؤدي الثمن غاليا . .  ثمن  تجربته الخاصـة.
ثمن التجربـة التي رعتها  الكونتيسة وقادها ويليـام.
 سيكون الثمن :  إخصاء الإسم .
أحمد الريفي :  اليتيم الأبي، الذي جاء إلى طنجـة مسكونا  ببذرة الجهاد و بروح أبيه ووصاياه(119).  
أحمد الريفي الذي جاء إلى طنجـة يحمل في عينيـه صورة عيني  الجدة الشاخصتيـن إلى السمـاء . . وصورة الأب الممدد على سرير " الاستشهاد "
سيصبح "هامـت" .
سيتم  تذويب الاسم و تليينه وتطويعـه وصهره وإعادة سبكـه وصياغتـه.
أحمد – أهمـد – هـامتهكذا سيصير .
هل هي مجرد لعبـة تتسلى بها الكونتيسـة (39)؟
أم هو طقس رمزي يطال الإسم لإخصاء الفحل من أجل تهجينـه أو على الأقل تدجينـه ؟
سيتم تعميد أحمد بماء هذا الطقس وبناره. .
طقس  سحري بامتياز . . ليولد ولادة جديدة. .
سيتحول أحمد من  معدن خام إلى جوهرة تزين عقد الأماسي والليالي الساهرة ،  ويسرق بريقها الأبصار في المنتديات والمجالس. . سيتعلم ويتكلم فيخطب وده النصارى واليهود والمسلمـون والصحافيون والألمان والأنجليز وعملاء المخابرات وأصحاب المقاهي والسماسرة والمضاربون (58).. . . . . . . . . إلخ.
سيصبح هامت : إنسانا كونيـا . .
إنسان المستقبل . . . كما قال ويليام(99)
سيصبح واحدا من السادة . هو التلميذ سيتفوق على أساتذتـه .  ويثير إعجابهم .  لكنه في هذه الأطوار كلها من تقلباته في  الحياة لن تفارق الغصة حلقه. غصة الأصل  غير المعترف به.
إنـه هامت نعم . . ولكنه أحمـد أيضا (100). أو أحمد أكثر .
إذ لم يتمكن الإخصاء  من إلغاء الهوية.
 بل و عكس ما كان مطلوبا  ومنتظرا من التجربـة "تمكن من تخصيبهـا ".  فجعلهـا أكثر  رسوخا ووضوحـا.
سيصبح أحمد / هامت لفترة من حياتـه واحدا من السادة ومن الأساتذة . . ومن "علامات الزمـن الطنجي". ولكنـه في النهايـة،  سيرمي شهادات السادة والأساتذة وراء ظهره ، ويعـود على عقبـيه من حيث أتى . و ـ كما دخل طنجـة خائفا سيخرج منها خائفا ـ     سيعلق معطفـه الأنيق وقبعتـه الغربيـة على أبواب طنجـة وينصرف ،  وفوق رأسـه وحول  رقبته مئات الأسئلـة المعلقـة  كالأجراس . .
·       هل يمكن تحديث مجتمع على حساب كرامتـه.؟  
·       هل يمكن تحديث مجتمع لا  يُعترف حتى  بوجود أهله كما لو أنه مجتمع بلا بشر ؟
·       هل يمكن تحديث مجتمع وهو مجرد رقم في الحسابات الدوليـة المتضاربـة.؟
·       هل يمكن تحرير شعب ونحن نضع في يديه القيود وفي  أعناق أبنائه الأغلال؟ .
·       هل يمكن الكلام باسم شعب نمتعض من مجرد النظر إليه( كما فعل عبد اللطيف الوطني ) أو  نعتبره مجرد شيء مثيـر للتعجب والاستغراب كما فعلت الأمريكيتان ريبيكا وأنجلينا.(139)؟   
كل الذين لم يدركوا بأن الشعب هو عيـاد وليس هامـت .لم يعرفوا حقيقـة أحمد(144).  
"أحمد هامت" ليس "مصطفى سعيد".
أحمد هامت ليس فحلا مهووسا بالجنس أو لا هم له غير أن يفترش  أجساد النساء ويفترسهـن بأنياب جوعـه الشرقي  المشبع بثقافـة الحريم والجواري.
وهو يصرح بذلك مرارا. لقد كان شاهدا على ما يحصل في الصومعـة ولكنـه لم يكن أبدا قادرا على مجاراة ويليـام وملاحقة خطاه أو مسايرتـه(57) .ناهيك عن العهد الذي قطعه لوالده بأن يحفظ وصيته ويحذر الغواية والغيلان.  
و الصومعـة التي وصى بها ويليام لهامت بعد موتـه ليست  الغرفة/ المصيدة . فلا بخور فيها ولا عطور غير عطر الجذور التي تناديـه بأقصى ما فيها من شوق إليـه . .
"عـد . . فلا يمكن أن تصير إنسانا كونيـا على أنقاض هويتك . .
عـد فلا يمكن أن تلغي هويتك مـن أجل هويـات لم تعترف بك وإنما أرادتك نسخـة لصورتهـا . .
عـد حتى يتم الاعتراف بهويتـك بين الهويـات.
-        " أحمـد / عياد" – وليس –" أحمد / هامت"
 عد فقد لا يكون الانصهار في الهويات الأخرى إضافة بل إعاقة . وقد لا يكون ثراء إنسانيا وثقافيا بل إخصاء وإلغاء .
  هذه هي الأسئلـة التي رافقت تجربـة أحمد / هامت وسكنته . .  وأقلقتـه(197) .  وقضت مضجعه ، ثم في الأخير عادت به إلى الريف . . إلى قريـة " بني حذيفـة ". . مسقط الرأس والقلب  والأب .
أحمد / هامت نموذج للبطل الإشكالي – أم  نقول المأساوي ــ  ؟!  والذي  يندمج في الهويات المختلفة ويذهب في التماهي معها إلى أقصى مدى .. ولكن بذرة الهوية الأصل لا تموت ولا تذوب في قرارة نفسه ،  بل ولا تنتظر سوى قطرة تستفز  تربة الروح وشهوة الحياة لتهتز و تربو وتزهر . تلك البذرة
.. بذرة الأب الشهيد .. وتلك الروح روحه .. تلك الروح التي تسكن الريف ولن تبرحه .. ريف أولئك الأفذاذ الذين يغلقون أبواب البيوت من الداخل  على أهلهم ويثبتونها بالمسامير ثم  ينتظرون وإياهم الموت الرحيم(141)، ولا يمدون اليد للتوسل أو التسول ، ريف الكرامة والإباء .. الريف الأشم .
لم يفرط أحمد أبدا في هويـته ،  ولم يشعر أبدا بالراحـة والاطمئنـان تحت جلد هامت ،  وباسمه المستعار.  فقـد كانت حقيقـة شعبه وأهله وبلده ترافقه حيثما كان أوأقام .تُمزق وعيه ووجدانه . لقد تعلم سبر أغوار العوالم
المختلفة بثقافاتها وعاداتها وإديولوجياتها ونواياها الخفية والعلنيـة ولكنه عاش فيها ك "هامت". وحين استفزت نخوتـه ،  خلع جلد "هامت" عن جسمه وترك اللحم والعروق عريانـة لتشويها شمس الحقيقـة.
 تقول له الحقيقـة ويقول له التاريخ .
يقول له الأب الشهيد "المعلم السي  محمد الريفي"
ويقول له الفتى عياد..
يقولون له جميعا باسم "عبد الكريم الخطابي" بطل حرب الريف:
"أنت ريفي بكل ما تعلمته وما عرفته.. ولن تنصهر أو تذوب في عوالم الآخرين.. فأنت الذي تتمثل ثقافاتهم وتستوعبها وليست هي التي تستوعبك،  أنت الذي تصهرها وتذوبها في هويتك وتجعلها جزء من معرفتك بالعالم
وجزء من ثقافتك الإنسانية ،  لأنك ريفي متمنع عن أن تكون ديكورا في صالونات الغرباء وزينة للياليهم.. ومهما أحبوك.. فإنهم يحبون فيك  تلميذهم       وصنع أيديهم.. يحبون فيك " عبقرية حضارتهم " يحبون التلميذ ولا يحبون الند والقرين. وينظرون  إليك كشيء لهم.. كشيئهم .
لكن عبقريتك أنت،  هي أن تجمع بين الأصيل و  العميق في خصوصيتك و الإنساني المشترك في كل  الثقافات والحضارات..
أنت الملتقى..  ومركز الدائرة . .
أحمد/هامت/أحمد هذه هي حقيقة اسمك المضاعف.
*************************
  د) هامت / ايليزابيت / ويليام
في علاقتـه بالنساء لم يكن هامت داعرا ولا عاهرا ولا ما جنا  ولا زير نساء مهووسا بالجنس.
 لم يكن نسخـة من "مصطفى سعيد".
كان أحمد / هامت عقلا ثاقبا وذكـاء متوهجـا وعينـا ترصـد المفارقـات
لم يعرف من الحب غير تجربتيــن ، والثالثـة كانت زواجـه  من ابنة  خماس بقريتـه "بني حذيفـة"(219).
لم يكن "هامت" غـريزة جامحـة  ، وإنمـا كان روحا تائهـة ووعيـا ممزقـا بين ما  يعيشه وما يحسـه وما يطمح إليـه.
أحب أنابيلا ، حبـا ممكنـا وعاديـا . ."كأنـه لا حب " وهي كذلك أحبتـه . . ربما دون أن تحب.
   أحب أنابيلا دون أن تغادره صورة إيليزابيت ورائحتها . . ودون أن ينسى شذى الياسمين والصنوبر وريح الشرقي  المضمخ بعبق  الجنة (97)
 وأحب إيليزابيت حبا مستحيلا . . مثلمـا أحبتـه هي أيضا ،  حبا مستحيلا  ، لأن ويليام جعل حبهما مستحيلا. فقد كان ويليام جنة هامت  وجحيمه .
حب هامت وإيليزابيت نما في أحشاء حبهما لويليام ، كل من جانبـه على طرفي نقيض  . . ثم نما أكثر على  أنقاض حبهما لويليام حين مات ويليام . .
وإذا كان ويليام قد جعل بموتـه ذلك الحب واقعا ممكنا فإنه قد جعله أيضا  بحضور طيفه بينهما ،  حبا مستحيلا . لأن هامت لم  يستطع قتله لم يستطع قتل ويليام الذي يسكنهما معا (174) . . فأصبح حبه  لإيليزابيت كفاكهة محرمة يقول هامت :
"لكن ويليام كان بيننا . . ينبض في شرايينها ويخفق بين ضلوع صدري،، كنت أحبـه،، أحبها  ، أحبها لأن ويليام يحبهـا ،، ولأنهـا تحب ويليـام "(97).
هو، "هـامت" يرى فيها ويليـام.
وهي، "إيليزابيت" ، ترى فيه "ويليـام"
ليس ذلك فقط، بل هو يراها بعين ويليام وهي  تراه بعين ويليــام.
ويليام الميت الحي، الغائب / الحاضر،  النسر / السمكـة. هي، هو، هما، هم جميعا في الآن نفسـه ،  مجرد ذات واحدة، مجرد ويليام في مختلف أوجـه تجليـه  وحضوره في الآخرين، عقل و غريزة  في بدن واحد . . اثنان حيان في جسد ميت ، هما الجسدالذي كان "يضطرم بالشهوات"ثم صار باردا كالصقيع ،   وهو الغريزة والعقل معا .
 هما الشفتان وهو القبلة المحرمة بينهما .حب جارف وملتهب ونار مستعرة تفنى في نفسها فلا يُرى منها غير الجليد ولا يحس بغير  يرودة الموتى . . حب متقد مشتعل لكنه مستحيل لأن الموتى لا يحبون ، هو ميت وهي ميتة ، ويليام
وحده حي فيهما معا ، لقد خدعهما ، فقتلهما قبل أن يقتلاه ، جعلهما عاجزين عن القتل وعن الحب ، ولا سبيل لحبهما إلا بقتله . ويليام الفتان ، والملاك الشيطان من يقدر على قتله . فلا وجود في هذا الحب  لإيليزابيت ولا وجود لهامت، لا وجود  إلا له ...وله وحده .
وو يليام لا يمكن أن يحب  نفسه . . لذا ربما، مات قبل الأوان وجعل حبهما أقرب ما يكون لزنا المحارم(173) . . .ويليام / الأخ ، إيليزابيت/الأخت
لو . . لو قتل  هامت ويليام . . لأحبها وأحبته . . لكنـه لم يقتله . . لذلك افترقا .

                                                 *******************        
   هـ )عياد / هامت / ويليام.
      لولا عياد لما استحضر هـامت ماضيـه، وصورتـه الأولى وهويتـه ،  ولما عرف حدود تحولاتـه الممكنـة.
    ولولا ويليـام لما أدرك هـامت أبعاد صورتـه الجديدة  ، بضوئهـا وظلهـا وألوانهـا.
ولولاهما معا   ما عرف حقيقـة " جنة  الأرض".
جنـة خاليـة من أهلهـا . . جنـة  يرفل الغرباء في نعيمهـا وحدهم ، جنـة محرمـة على  أبنائها.
       عاش هـامت شقيـا بوعيه وممزق الوجدان بين عيـاد الريفي وويليام الإنجليزي، لكن  انحيازه الدائم  و انتماءه الصريح كان دائمـا لعيـاد.
       ومـن الضروري في هذه العلاقـة المركبـة والتي هي أعقـد من علاقـة (إيليزابيت / هامت / ويليام) أن ننتبه جيدا إلى واقعتيـن  موحيتين
·       الموت  المبكر لويليـام : إيـذانا بقرب  نهاية التجربـة "المسماة" هامت، فهامت لم يكن إلا تجربـة في سياق التحولات العسيرة والصاخبة  التي عاشتهـا البلدان المستعمرة مع مستعمريهـا، بمختلف تلاوينهم وإيديولوجياتهم وثقافتهم.
     تجربة لعبت  فيها الكونتيسـة دور "الأخت الطيبـة" ولعب فيها ويليام دور العراف الكاشف لما  بغيب النفس وما في أغوارها.
·       الموت الذي كاد يطال عيـاد أثنـاء مشاركتـه في مظاهرة 1935 المطالبـة بالاستقلال لولا تدخل "هـامت" الذي حال دون إصابتـه برصاص الشرطي.
               حيـــن مات ويليام بكاه هامت بحرقـة(46)، بكاه  بين امرأتين  ، بكاه مع إيليزابيت ومع الكونتيسـه(47)، لأنـه أدرك بما يشبه الحدس بأنـه يبكي موته الوشيك ونهايتـه القادمـة.
              وحين كاد عياد يقتل، امتدت يده لإنقاذه إيذانا بولادة جديدة . . هي ولادة أحمد. وإيذانـا بالعودة إلى الأصل،، إلى الإسم الأول، الإسم الحقيقي،  والهويـة الحقيقيـة، لقد قام احمـد بطقس مضاد . . لقد خرج من إسم أحمـد بطقس الإخصاء – ذلك ماقامت به الكونتيسة وهي تستقبلـه في قصرهـاـ وعاد إلى إسمـه الأول من خلال طقس آخر، هو طقس العتق – "لقد افتدى نفسه بإنقاذعياد  " وصار من حقه أخيرا أن يسترجع هويته و أن يعيش.
مات أحمد ثم عاد إلى الحياة . . لقد بُعث من جديد –" انبعاث الوعي الوطني"- وعاد إلى الريف ليصل سيرتـه  بسيرة والده
فإذا كان المعلم السي محمد الريفي قد استشهد من أجل الوطن.
فإن أحمد الريفي سيسشهد من أجل العدالـة بين جهات الوطن وبين أبنائـه.
********************
الكتابـــــــــة والتجربـــة
وبعـد،
فإن نــداء الجذور هو ما عــاد بأحمد إلى اسمه وأصلـه وقريتــه بني حذيفــة في الريف.
وهو الذي قــاد الحفيد إلى الصومعــة لينفض الغبــار عن مذكرات جده ويخرجهــا للناس( 222).
وسؤال الهوية لم يكن في سيرتيهما سؤال الماضي فقط  ، بل هو سؤال الحاضر أيضا.
إنه سؤال الجد وسؤال الحفيد.
لقد حاول الجد أن يجيب على هذا السؤال من خلال "التجربة" ( هامت )
 أما الحفيد فقد أجاب عليها من خلال "الكتابة"  ( جنة الأرض )
وأما الرجل الذي يحق له بأن يباهي الناس بتجربة ابنه وكتابة حفيده . . فهو من دون شك المعلم السي محمد الريفي.
الرجل الذي مات ككل الابطال ميتة شريفـة.
ودفن بقريـة بني حذيفـة.
لقد استطاع هذا الشهيد في حرب الريف  بقوة روحه أن يجعل نداءه يتخطى كل الحواجز  ليسترجع الإبن أولا ثم ليصل إلى الحفيد ، ، ،   كما استطاع أن يجعل نداءه يعبر الأجيال. .  وينتقل إلى الناس تحت إسم " جنة الأرض"
فلينم قرير العين بأبنائه وبالشهود والقراء الذين فهموا الرسالـة.
وإذا لم  تكن هذه الرواية العميقة والشيقة  تحمل إهداء خاصا على صفحتها الأولى فإن أجمل ما يمكن أن تقدم به للقراء  هو أن تهدى إلى روحه .
جمال الدين حريفي
القنيطرة في 26/01/2014
الهوامش :
·       الأرقام التي توجد في متن القراءة تحيل على صفحات الرواية .
الكاتب : الدكتور مصطفى الورياغلي:
- أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بطنجة.
 - حاصل على الدكتوراه في النقد الروائي من جامعة عبد المالك السعدي بتطوان سنة 2005
. - المؤلفات:
كتاب نقدي: الصورة الروائية، دينامية التخييل وسلطة الجنس، منشورات العبارة، 2013
 رواية : جنة الأرض، منشورات العبارة، 2013
 مقالات ودراسات نقدية وأدبية في مجلات وجرائد مغربية وعربية.
موجز  عن رواية " جنة اأرض "
      " السي محمد الريفي" سيستشهد في حرب الريف التي قادها البطل " عبد الكريم الخطابي " غير أنه قبل أن يسلم الروح لبارئها راضيا بجهاده واستشهاده في سبيل الله والوطن ، لن ينسى أن يوصي ابنه " أحمد " بالالتحاق بطنجة حيث ستتسلمه اليد الحانية للسي حدو شريك الوالد ، كما لن ينسى أن يوصيه ككل الآباء الصالحين الأتقياء بالصلاة والحيطة والحذر من معاقرة الخمر أو الثقة في المدينة الغول التي لا خيار له إلا أن يقتحم دروبها . مدينة جنةٌ للغرباء / مدينةٌ جحيمٌ لأهلها الذين يكاد لا يأتي لهم ذكر عند التفكير في مصيرها لأن القرار إذاك في يد الأغراب .إسبان /فرنسيون /أنجليز /ألمان ...........ثم الأمريكيون حين آلت المقادير والمصائر إلى يد الأمريكان .كل خيوط الصراعات الدولية كانت تنسج وتحاك هناك لأنهم جميعا جاؤوا إليها واعتبروها جنتهم " جنة الأرض " ....السياسيون والفنانون والصحافيون والمثقفون والانتهازيون والثوريون والأفاقون والجواسيس والوطنيون .....طنجة وحدها من بين المدن كلها كانت قادرة على جمعهم تحت سمائها وفي مقاهيها ومنتدياتها ..طنجة وحدها كانت قادرة على الإصغاء لحواراتهم وخصوماتهم ومكائدهم ودسائسهم ونبضات قلوبهم حين تنبض القلوب بالحب أو بالأحقاد التي لا تموت ..
       هذا هو العالم الذي ستدفع اليد الحانية للسي حدو بالولد إليه بمجرد أن أدخله معه قصر الكونتيسة وعلمه كيف يلقي عليها التحية . سيتعرف الطفل الريفي " الخام "على ويليام ابن الكونتيسة وسيتعلم ويستوعب العالم الجديد ويتأقلم مع أجوائه وطقوسه ونواميسه ..الطفل الريفي سيفهم اللعبة وسر النجاح فيصبح أكثر نضارة وحضارة من أصحاب القصر .. سيصبح نجم المجتمع الطنجي .يجد طريقه إلى حفلات القصر والصومعة بنفس السهولة التي يجد بها طريقه إلى الدروب الخلفية للمدينة الغول ...لا فرق لديه بين الطبقات ..سيصير نجم المجالس يحاور ويناظر ويسهر ...يحلق في سماوات الأفكار ليعصر غيمها بيديه ثم يغطس إلى أعماق الشهوات والنزوات دون أن تنكسر ريشة من جناحه.. لذلك ستحبه الكونتيسة  ، سيحبه ويليام ، ستحبه آنابيلا ، سيحبه فيديريكو ، سيحبه الهادي ، سيحبه حدو ، سيحبه عياد وإيليزابيت .....ستحبه طنجة كلها ...لأنه يستطيع أن يكون كل هؤلاء جميعا
سينطلق الفتى كالسهم من وتر مشدود إلى أقصاه وسيصل إلى أقصى ما يمكن أن يصله  فتى ريفي  مثله..صعودا إلى سقف سماءالمعارف أو نزولا إلى جحيم أرض النزوات
 ..سيخترق السماء والأرض في شوق وبعشق لا مثيل له وسيجرب كل ما يمكن لشاب في سنه وثقافته أن يجربه ويختبره .
وسيجرب الموت حين سيخفي الموت ويليام ...ويجرب الفقد ..ويجرب الحب المستحيل حين ستعود إليزابيت إليه ثم ترحل عنه لأنه لم يستطع الاحتفاظ بها .
لكن الفتى الريفي لن ينسى أبدا جذوره وهويته ، ترابه الأول وهواءه ، لغته ودمه وأرض أحلامه.
ففي لحظة من تلك اللحظات التي يقال عنها بأنها تغير مجرى التاريخ ، تغير مجرى حياة أحمد / هامت ( كما أسمته الكونتيسة وهي تهيؤه لدخول عالم ابنها من باب المحبة ) سيصادف أحمد مظاهرة تطالب بالاستقلال ــ هو الذي كان إلى حين يناقش مع رفاقه كيف أن القوى الاستعمارية تتآمر ضد بعضها وتنسج في طنجة الأحداث وتخيطها على مقاس مصالحها  ـــ سيلعلع الرصاص ويسقط الشهداء وسيجد أحمد نفسه وهو يحاول إنقاذ ريفي مثله  من رصاصة شرطي وقد حول الرصاصة إلى صدر الشرطي .....سيموت الشرطي ويهرب أحمد ثم يُهرب خارج المدينة .........سيعود الفتى الريفي أخيرا إلى بلدته عودته الأخيرة .
خرج أحمد وعاد أحمد ، أما هامت فقد عاش في طنجة " جنة الأرض " ومات بها.
عاد أحمد الآخر ..بعد أن تعلم أكثر وفهم أكثر ، عاد يعمل بالنهار ويتأمل ويتفكر ويكتب بالليل .
تزوج وأنجب ثم مات .
قتل أحمد في أحداث الريف سنة 1958ادعى القتلة بأنه كان ينظر للمتمردين ويحرضهم .
كان أحمد ريفيا مسالما .ولا يرضى بالذل.لذلك مات ............
......................................................
بعد سنوات تكفي لكي يكبر الابن ويتزوج وينجب .
وسنوات أخرى تكفي لكي يكبر حفيد أحمد الريفي
سيعود هذا  الحفيد إلى الصومعة لينفض  غبار النسيان عن مذكرات الجد وينشرها في الناس تحت عنوان ............( جنة الأرض )