06/09/2012

الفقيه الجديد


  كنـا مصطفين و بين أيدينا ألواحنا كالدروع، واقفين على حصر دبغتها السنــون و كثرة القعود فأمست كظهر حمار مدبور.
  كنـا صفين مرصوصين متقابلين يتقدمنا قيـم الجامع المسن. لقد كنا أشبه بجنود قلقين تنتظرهم مهمة خطيرة. عيوننا متجهة صوب الطريق المغبرة التي تكاد تكون بلا نهاية في هذه الأرض الجرداء المترامية الأطراف.
  عند الفجر أيقظني أبي و قال: اليوم سيحـل سيدكم الجديد.
  أخذت لوحتي و قطعة صلصال و قلما ثقفته بكل ما أملك من مهارة فصار كالرمح المسنون. و اتجهت نحو الجامع و النوم يغالب جفنيّ.
  أحسست بهبات النسيم البارد تتسرب من بين ثقوب جلبابي و تقضي على ما تبقى في جسدي من كسل و نعاس. و في غبش الصباح رأيت رفاقي كقطيع أشباح ينحدرون نحو المسجد.
  عند وصولنا شرع أربعة غلمان غلاظ شداد يمدون الحصر، التي توارثها الطلبة جيلا بعد جيل ، على مساحة الفناء الخارجي للجامع.
  كانت الحصر بلون الأرض الرمادية المتشققة، حتى أني صرت أرى الأرض كلها مغطاة بالحصر، فكنت أحك عيني لأتأكد مما رأيت، فلا أرى سوى التراب كأنه الرماد.
  حشرت بين الطلبة في أحد الصفين، فصفعتني رائحة البول من جانب
 و لما أدرت وجهي إلى الجانب الآخر لفحتني رائحة الروث و الضروع. همست لمن يقف على شمالي:
-        اجعل لأحلامك الشاردة راعيا.
  و همست في أذن من يقف على يميني:
-        أما زلت تنام في الزريبة؟
  نظر قيم الجامع إلى الصفين نظرة القائد وسط ساحة الحرب. و سارع بحزم و صرامة إلى تقويم القامات المعوجة، و خفض الرؤوس الشامخة، و تسوية الصدور الناتئة.
  بـت أقرأ في وجوه رفاقي علامات الحيرة و الاستغراب، لأننا لم نألف مثل هذا الاستقبال لأسيادنا السابقين. اغتنمت اقتراب أحد الغلمان الشداد فسألته:
-         لماذا كـل هذه الفوضى؟ 
تفحصني مليا. و لما فطن إلى ما يحمله سؤالي من حيرة، أجابني بكل يقين:
-        إن سيدنا الجديد من الزاوية.
  تظاهرت بالفهم، بينما ارتسمت في ذهني علامة استفهام كبيرة عن معنى الزاوية. فكل أسيادنا السابقين كانوا يحفظون القرآن و يلتهمون الطعام،
 و لا يختلفون إلاّ من حيث أسلوبهم في استعمال العصا و اختيار أنواعها. فهل معنى الزاوية أسلوب جديد في استعمال العصا؟
  و أخيرا وصل سيدنا الجديد على بغلته الشهباء بعد أن أعيانا الوقوف. توقف في مواجهة الصفين ثم جال ببصره بين الوجوه، و كاد أن يسمع لدقات القلوب رنين في صدور الطلبة. عندئذ انفلت ضراط من البغلة قبل أن يتبعه انفلات قدر مهم من الروث. فسارع أحد الغلمان الغلاظ إلى جمعه بيده و هو يوشك أن يعثر بجلبابه، و وضعه بعيدا عند شجرة صبار مجوفة.
  ترجل سيدنا عن ظهر بغلته بوقار مدروس. انحنى قيم الجامع لتقبيل يديه، فمدها له بلامبالاة متكلفة و نظره مسدد إلينا.
 لا تختلف هيئته كثيرا عن هيئة الأسياد السابقين. قامة قصيرة. بطن منتفخ. وجنتان تفشيان عن كثرة الحضور للولائم و الدعوات. بيد أنه يمتاز بلحيته الخفيفة التي تنم عن العناية البالغة التي يوليها لها. و قد جعلني هذا أغير ما رسخ في ذهني من اقتران صورة الأسياد بكثافة اللحى و طولها.
  أخـذ سيدنا الجديد يمد يده ذات اليمين و ذات الشمال ليقبلها الطلبة بخوف يمازجه الإجلال. و بدا أن سيدنا يستمتع بالتقبيل، فصار يتفنن في تقليب يده لمزيد من الاستمتاع و التلذذ.
  و بالرغم من تسارع دقات قلبي، و إحساسي بالمرارة في حلقي توشك أن تصيبني بالغثيان، كــدت أن أضحك لمرأى غلام فارع الطول و هو ينحني كشجرة صفصاف قصمتها ريح عاتية، ليمرغ شفتيه في كف الفقيه.
  شعرت بجسمي الضئيل ينكمش و يزداد ضآلة و صغارا. انسحبت خلسة من الصف ثـم وقفت خلف بقايا حائط منهار أتابع مشهد التقبيل. لقد سبق لي أن قبلت يد أحد الأسياد السابقين، فاصّاعدت من ذلك التقبيل معدتي بسبب رائحة حامضة مقرفة اخترقت أنفي كالسهم المسموم. سأعرف عندما أكتشف بلوغي جنس تلك الرائحة.
  دخلت مع الداخلين و بي خوف و هيبة من أن يفتضح أمري. و فجأة أحسست بيد خشنة تمسك بكتفي بشدة. سألني قيم المسجد بصوت يمتلئ بالوعيد: أين اختفيت؟
أجبته متلعثما: كانت بي حاجة قضيتها.
-        ألم تجد حاجتك وقتا غير هذا؟
 جلست مع الجالسين على الحصير البارد محتميا بلوحتي.  جلس سيدنا على المصطبة العليا متربعا على فروة خروف  ناصعة البياض كثيفة الصوف. و دونه جلس الفتيان الأربعة الشداد الغلاظ.
  تـلا الفقيه بعض الآيات فإذا هي مليئة باللحن و التحريف. ارتبت أولا في ما حفظته من الذكر. و لكني لما استرجعت ما اختزنته و رددته طوال سنين،
 و استظهرته سرا تأكدت مما لاحظت حد اليقين. نظرت يمينا ثم نظرت شمالا فإذا الرفاق مسمرون في أماكنهم كالأوتاد و أبصارهم شاخصة إلى الفقيه الذي أتانا من الزاوية. استبد بي القلــق و هاجت نفسي لقول الحق
، فهذه آيات تمسخ في فم الفقيه. انتظرت لحظة أن يتجرأ غيري ممن هم أقدم و أحفظ مني على تصويب هذه الزلات، و لكني لم أتلق سوى صمت أعمق من الموت.
  تأبطت لوحتي و وقفت مستقيما كالعمود مصححا ما سمعت من لحن
و تحريف، فلم أكد أتـــم قولي حتى شعرت بنفسي مطروحا على الأرض خارج المسجد.
  اندهش أبي لما رآني واقفا جنبه في الحقل. رويت له ما جرى. تأملني لحظة ثم ابتسم ابتسامة عريضة. و قال لي: ها هو ذا المحراث بجنبك اعتبره قلمك. و ها هي ذي الأرض أمامك اعتبرها لوحتك، فخـط عليها ما تشاء مما ينفع الناس و ينفعك.

                                  
       بركان. الخميس 24 يناير 2002 




الجيلالي عشي



عصا موسى


الطبعة الأولى 2009
شركة مطابع الأنوار المغاربية وجدة
رقم الإيداع القانوني: 0508/2009