نصّ مداخلة ألقيت في حفل توقيع ديوان : مدّ الكلام جزر السكون، يوم 02 يونيو 2013، ضمن أنشطة الملتقى الوطني الأول للشعر، الذي نظّمته جمعية أبركان للثقافة والتراث
مدّ الكلام جزر السكون شعر الحسن رزوقي لوحة الغلاف : محمد سعود منشورات ديهيا : 6 مطبعة الجسور وجدة الطبعة الأولى 2013 |
وبعد ديوان أوراق مصلوب اشتهى العشق ها هو الشاعر الحسن رزوقي يطلع علينا بديوان جديد وسمه ب : مد الكلام جزر السكون ويضم اثنتين وثلاثين قصيدة يبدو فيها شاعرنا أنه ماض في خوض غمار كتاباته الشعرية مؤمنا بأنه يكتب داعيا إلى تقديس الكلمة النبيلة الشاعرية فالكلمة لديه لا ينبغي أن تبقى حبيسة الحناجر وإنما لا بد لها من البوح لا تغير في هذا العالم المتقلب إلا من خلال الكلمة .
جملتان اسميتان مركبتان تركيبا إضافيا استوحاهما الشاعر من مد البحر وجزره وخير الاشعار حين إلقائها ما كان مدا ..وجزر السكون نقيض المد وهي دعوة من الشاعر إلى نفض غبار الصمت والتواكل والأنانية والانخراط في مد الكلام الذي يعقبه مد الفعل الذي يغير العالم ومجرى التاريخ
والمد من معانيه المساعدة والعون والفيض ومعناه الفونيتيكي :في علم الأصوات :إطالة الصوت بأحد حروف المد : و-ا-ي والمد والجزر يحيلان على الصراع وغن الحياة مبنية أساسا على المتناقضات.
ولعل الناظر إلى ديوان الحسن يجد ه ينسج خيوطحقوله الدلالية والفنية ممتدة على قرابة 105 من الصفحات ..قصائد حافلة بالعطاء الشعري المتدفق عاطفة ..تختلف عوالمها التخييلية عبر محطات ضمن خط زمني يمتد من الثمانينيات زمن الرصاص كما ينعته البعض وينتهي الى 2012..
يستهل الشاعر ديوانه بفاتحة مد الكلام التي يفصح فيها عن أن الكتابة لديه ليست مجرد تسلية بل هي هوس وهم وأنه يكتب باسم قوافل التحرير بالسم الفقراء والشهداء..يقول في ص7 :
أكتب باسم كل الشهداء
اكتب فالكلمة تعلو سطح الماء
اكتب بالكلمة يعرف موطن الداء
اكتب أو احتضر..مت أو غير مجرى القدر..
والديوان يتمحور حول ثالثة محاور أساس : الكلمة / السؤال –الفعل /الالتزام – النصر/ الحرية
كما نلمس الحزن و القتامة والمرارة أحيانا وهي نابعة اساسا مما يعيشه الشاعر ويعانيه كل مثقف واع حال هذه الأمة وما تشهده من نكسات ونكبات متتالية من قمع واضطهاد وتشريد و...ولعل قصيدة ملاحم العرب في عواصم الطرب في عواصم الطرب التي تعبر عن زمن الحصار الصهيوني على بيروت حيث قاتلت المقاومة الفلسطينية واللبنانية جنبا إلى جنب وسطرت أروع الملاحم بينما كانت بعض الأنظمة في مصر وسورية تتغنى بنصر أكتوبر المزيف وتبعث الشباب العربي إلى أفغانستان يقول في ص:19 :وجوه تشرين تبخر ماؤها ..سقطت أنيابها..وأصبحت كالأقفاص..ثوب تشرين أصبح أطمارا لقد مزقه الرصاص..حزيران يا شهر النكسات ..
هذه المرارة التي يعيشها الشاعر يعتصرها لنا في كأس علقمي يتقاسمه معنا لنذوقه معه عبر قصائد النكبة والنكسة ..
اما صورة المرأة عنده من خلال قصيدة :خمرية العينين فإنها تمثل قيم الجمال والطهر والنقاء والشاعر لا يدري بالضبط هل هي مخلوق من لحم ودم أم هي كائن نوراني افتراضي يقتحم عليه وحدته وخلوته ويبدد وحشته ويعشش في كوامنه وثناياه يقول :ص 22 :من أنت ؟أامرأة أنت تدين لها القلوب وتنحني الأمكنة ..خمرية العينين من أنت ؟أامرأة أنت أم فكرة تنتابني في الظلمة الداكنة ؟
فبراير : هذه المرة يتغنى فيها الشاعر بليلاه محتفلا بعيد ميلادها كما لو كان عيدا قوميا والكائن الافتراضي أصبح امرأة يتمنى الشاعر لقاءها منتشيا بالاحتفال بميلادها :
ادخل وأجل العتاب..فباب بيتنا بلا حجاب ..أقبل شباط فعيون ليلى في انتظارك أعلن ميلادك ودعنا نتقاسم فرحة انتصارك .ص : 27
أما في قصيدة : أصدقائي ففيها دعوة صريحة لنبذ الخلافات بين القوى الحية في البلد وخارجه للاتفاق على مشروع نهضوي تحرري يعترف بحرية الفكر :/فساحة الأكوان وحرية المعتقد : /سماحة الأديان وبحرمة الكائن كرامة الإنسان..ثم ما يلبث الشاعر الحسن رزوقي ان يبين قيمة السؤال في معادلة التعلم في قصيدة : وصايا وليس ذلك غريبا لان شاعرنا خبير بقضايا التعليم ومفتش في حقله .
والسؤال فاتحة التعلم وفي التنزيل : يسألونك عن ...والحلم خزائن مفاتيحها السؤال كما ورد في الحديث والشاعر هنا يوصي طفله بالسؤال بالعتباره بوابة إلى المعرفة يقول في ص :33 : :
اسأل يا طفل ولا تخجل ..ما قيمة إنسان ..يحيى كالحيوان ؟.
قصيدتا : أيار نجمة تصبان في نفس الغرض الذي يتجلى في اقتسام الشاعر فرحته مع العمال بمناسبة اليوم العالمي للعمال .اما قصائد :أربع وريقات وباب ما جاء في الحجر وحارسة البقاء فهي تتناول القضية المركزية لدى كل عربي ومسلم :القضية الفلسطينية والإشادة بالمقاومة الصامدة وحارسة البفاء هذا عنوان استوحاه الشاعر من قولة الشهيد ياسر عرفات : المرأة حارسة البقاء والتي ترمز إلى المراة الفلسطينية المقاومة المنجبة للأبطال وتحرس الثورة متمسكة بالأرض ..يفول في صفحة 59 :
قومي للأب المتعب ..
لطفل آت وفي يده حجر ..
لوطن أقسم أن يتذكر..
لوطن أقسم أن يتحرر.
والقضية الفلسطينية تحتل في وجدان الشاعر منزلة مركزية ..ومن أجمل قصائده أيضا : قصيدة طائر التي ضمنها حوارا بين طائر يومن بقيمة العدل والشاعر وينتهي الحوار بأمنية للشاعر أن يصبح من رعايا مملكة الطير التي تقدس قيمة العدل :
يا معشر الطير هذا شاعر يهفو كالطير
يغني كالطير لمملكة الطير
فامنحيه تأشيرة دخول ..ص: 48
ثم سرعان ما يعود الشساعر الى أشواقه ومنولوجاته الداخلية في نصين عن العشق والجمال ..الأول بعنوان : دعوة يصف فيه لهفة الانتظار لمحبوبته والثاني :من شرفتي ..يصف فيها المرأة المعشوقة من خلال شرفة بيته وصفا معطرا بالندى الذي يسرق الهمس من شفتيها ويتحول جمرا فوق الثلوج فيحرق في لظاها :
من شرفتي أراك
تمشين ثابتة الخطى بين المروج
والشمس تسير في خطاك
من شرفتي أراك
يسرق الندى الهمس من شفتيك
يتحول جمرا فوق الثلوج
يصيبني ..فأحرق في لظاك ..ص 56.
يستلهم الشاعر هذه المرة تاريخنا العتيد موظفا خطبة طارق بن زياد في قصيدة رائعة سماها :خطبة منسية لطارق منسي موجها خطابه الى الذين يشتغلون في صمت من أجل أهداف سامية إبداعية ثقافية وحقوقية وغلى المدرسين دون ان تعلن عن ذلك وموضوعها يشي بذلك ..يقول : نبي يحقق حلم الصبيان ..نذرت نفسك للشطآن البعيدة ..زادك الصبر وسلاحك العرفان .. لا تعاويذ بعد الفجر ولا صكوك الغفران..لا تمائم لا طلاسم ولا دعوات كهان ..
ولعل قصيدة : معلمي من أروع ما كتب حيث يهديها إلى كل المعلمين ويريد من خلالها أن يرد الاعتبار لأشخاص أفنوا حياتهم وزهرة شبابهم في تهذيب الناشئة وتنكر لهم المجتمع إلى درجة أن كلمة معلم تعني لديهم كل شيء ما عدا العلم. ومما يميز هذه القصيدة أنها تجمع بين الأزمنة الثلاثة : الماضي :- يسألنا عن الأسماء والأفعال..الحاضر :- أبحرت سفينة نوح وسفينتنا يلزمها بعض الوقت كي تبحر..يلزمها بعض الألواح.المستقبل :-استعد لرحلة الألف ميل أيها الربان ..انطلق لرحلة الضوء وانقل الصبيان ..ص 92
وينسحب الشاعر من الالتزام السياسي إلى موضوع محبب إلى عقله وقلبه : تيمة العشق حين يتحدث عن حبيبة لم تزره كما وعدته تاركة الشاعر في عذاباته وآلامه .وهذا ما نلمسه في قصيدة عتاب ص67 وفي قصيدة نوستالجيا ص72 نجد حنينا قويا جارفا إلى حياة البساطة حيث كانت الجدة عضوا أساسا في تشكيل وعينا وخيالنا من خلال ما تقصه من حكايات قبل أن تنحي الشاشات الجدات من هذا المركز فيصبحن هن أيضا من المدمنات على التلفاز يقول:
كل مساء ..حين تنطفئ الشموع في بيتنا ويختفي الضياء ..بعد أن تنفد من صحن جدتي آخر ملعقة حساء..آخر رشفة شاي .. وبعد الصلاة والدعاء ..تخرج جدتي من ذاكرة السنين أساطير لا تملأ البطون ..لكن تروض الجفون .
حروب لا تنتهي: يقف الشاعر ضدا على الحروب التي تهلك الحرث والنسل مخلفة ضحايا وعطوب لا حصر لها وفي المقابل هناك من يستفيد من هذه الحروب من تجار الأسلحة وعباد النزوات الرعناء و دهاقنة تجارة القتل ..ومن القصائد التي جاءت في آخر الديوان :ربيع الفتى الحالم يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي حين يحلم الناس بفجر جديد لا يأس فيه ولا قنوط حتى تسترجع الأمة ريادتها ورسالتها ..وتخر الأصنام تعلو هامة البحر ويبتسم الغمام ص: 100 .
ومن أجمل قصائد الديوان :تلك التي تناولت الحديث عن البيئة المحلية لمدينة أبركان بين أمس أخضر يانع جميل حين كانت أشجارها أكثر كثافة من سكانها ويوم قاحل ذابل لا نرى فيه غير الإسمنت والحجر والحديد وزحف عمراني صارخ يشوه منظر : للبراكين حمم خضراء ولبركان الشاعر بحقولها الخضراء تغذيها الأنهار النابعة من جوف جبال بني يزناسن لكن الأمر ما عاد كما كان ..يقول : أصبح البرتقال كسيحا
بلا ورق بلا زهر ولا سيقان
زال عبق المروج
زحف الإسمنت
وعمت كآبة الجدران..
الصورة الشعرية :نسج الشاعر قصائده بخيوط طبيعية إنسانية موظفا عناصرها كالبحر والجبل والسهل والزهر والماء ..فلا تكاد تخلو قصيدة من ديوانه من لمحة تستند إلى الطبيعة ولا غرابة في ذلك لأن الحسن ترعرع بين أحضانها .
الرؤية الشعرية :ونقصد بها النظرة التي تبلورها القصيدة عن العالم وعن الحياة والعلاقات الإنسانية ككل وهي أيضا متصلة بالوعي وبالوجود تنبع من العقل وترجع إليه ومتلونة بالعواطف النبيلة الصادقة وتتمركز حولها وتتزيا بالخيال الجميل وهي تقوم بالأساس على رفض الواقع والحاضر المزري مستشرفة عالما طاهرا حرا عادلا سعيدا وليس هناك ملاذ أرحب من أجل تحقيق هذه الاحلام سوى مد الكلام ..كتابة الشعر ..
على المستوى الشكلي :استعمل الشاعر الايقاع الداخلي والجرس الموسقي المتكرر أحيانا متخلصا من الجزئية إلى الشمولية كما ضمن بعض قصائده آيات القرآن الكريم : لا تنفذون إلا بسلطان ..ملونا خطابه بين المتكلم و المخاطب والغائب في جمل اسمية تارة وفعلية أخرى لكنها تتميز بالقصر والإيجاز والتكثيف مما يزيدها تألقا وجمالا .
والديوان كوحدة هندسية كاملة في تشكيل البناء والجمال ينشطر على هندستين تكملان بعضهما وتشتركان في أدق التفاصيل منذ حفريات النص واللبنات الأولى على آخر نقطة ضوء قي جمالية الإخراج والإبداع بشموليته والديوان ببنائه ومعماريته يتجلى في وسطية النفس الشعري وجمالية المعنى واستثمار الواقع والوجدان والشعور الداخلي استثمارا موفقا ذكيا مبنيا على هندسة المعاناة وقوة العاطفة تستهدف المتلقي لتثير فيه كوامن الاستنهاض مستهدفا أيضا جملة من الاعتبارات تتصل بمفاهيم الانتماء لهذا الكون وللأمة وللمغرب ولأبركان ولعل الترتيب القصائدي لديوان مد الكلام جزر السكون يتدرج من العام إلى الخاص..وهنيئا لشاعرنا بمولوده الثاني الذي أضاف إلى مكتبتنا العربية رصيدا ثقافيا شعريا جديدا وجديرا بالقراءة ..
أكتب أيها الشاعر الحسن الصديق الغالي ومد كلامك عشقا وشوقا ولوعة يا شاعر الجلنار وبشعرك العذب يزهر الجلنار ويثمر رمانا سفريا حلوا لذة للىكلين وبشعرك تينع الكروم لابسة ثوبها السندسي الأخضر ويزهر البرتقال ويثمر آنئذ ستنعم بوصال خمرية العينين ..
عبد العزيز أبو شيّار