17/09/2011

أوطو- سطوب

 مهداة إلى نساء ورجال التعليم الأشاوس

"لابد من صنعاء وإن طال السفر" الإمام أحمد بن حنبل


 
كعادته، يجد نفسه مجبرا على الوقوف في نفس المكان الذي نزل فيه صبيحة الاثنين المنقرض. أحيانا يخيل إليه ولمن اعتاد رؤيته متسمرا هناك، أنه لم يبرح مكانه قط. سيان هو والشجرة العارية المتجذرة على حافة الطريق، التي استأنس بجوارها متخذا منها مثله الأعلى في الصبر والتجلد، كلاهما صامد في وجه الزمان العاتي، وصروفه المتغطرسة، لا يتزحزح عن موضعه إلا قهرا.لم يكن يعبأ بما يدور حوله، منذ أن قذف به هناك والصمت يلفه من كل جانب، ويثقل كاهله. لا يسمع سوى خشخشة الكيس البلاستيكي الأسود، الذي تتناوب عن حمله يداه، وقد حشاه ببعض القوت، والجرائد التي قد يلتهمها قبل نهاية الأسبوع. بجوارها تقبع أكياس أخرى من نفس الحجم، والنوع واللون، له فيها مآرب شتى. بفعل التكرار الذي بفضله يتعلم الحمار، ألف نظرات المارة المبطنة بالشفقة والاستغراب إزاء هذا الكائن الغريب، الذي ألقت به الأقدار في هذا المكان البئيس من أرض الله الواسعة. مما لا شك فيه أنه أضحى مثلا سائرا، تلوكه ألسنتهم في غير ما مناسبة، فهو رمز للإنسان الصبور، القنوع، الذي لا حول ولا قوة له، والذي تكفيه كسرة من الخبز اليابس، وحبيبات من الزيتون "المرقد"، ليحافظ على بقائه في الوجود تحت زمهرير الشتاء، وحر الصيف. منذ ساعتين أو يزيد وهو ينتظر في صبر جميل، كصبر أيوب، مرور سيارة أو شاحنة، تقله نحو وجهته المعلومة الملعونة.

ها هو يتمتم بشفتين ذابلتين" بسم الله الرحمن الرحيم يس والقرآن الحكيم... جعلنا من بينهم سدا ومن خلفهم سدا.... " لعل وعسى، سائق السيارة القادمة، يلين قلبه فيتوقف لنجدته. يلوح له بيده نظير غريق يتحسس حبل النجاة، لكن السيارة تمر بسرعة كالرصاصة، فتصفعه بغبارها، ينكس أعلامه، مطأطئا، رأسه متحاشيا عيني صاحب الدكان المجاور، الذي ما فتئ يمدد عنقه كالزرافة ليتعرف نوع السيارة المارقة، فلم يلمح شيئا، عدا زوبعة من الغبار المتطاير، تلف شبحا يحاول عبثا بث الروح في جسده المتفسخ. تمر اللحظات بطيئة، رتيبة، عسيرة، ملفعة بالضجر، تثقل كاهل الشبح الحالم بعودة الحياة لجسده المتحلل. مع مرور الوقت، بدأت همومه تكبر، وتزداد غورا، وتعاسته تزداد تشعبا واتساعا. عند سماعه لأزيز شاحنة آتية من بعيد شرع يتلو ما تيسر من آيات الذكر الحكيم. "بسم الله الرحمن الرحيم. طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى..." تمتزج الآيات بالأدعية والتوسلات بالآهات: يا حنان، يا منان، هون على عبدك الغلبان، يرفع ذراعه عاليا، يلوح بها يمنة ويسرة دون أن يتوقف لسانه عن القراءة، " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين، في سدر مخضود وطلح منضود. يقف متضرعا مبتهلا، يتمطط كبطل الجمباز، مرددا يا ربي يا ربي ... ثم يعقب ذلك ب" أخ خ خ .. ع ع ع ت ت ت ف ووو، كمارة الجوع، ما ينفع ما يشفع كحليب الحمارة. الله يعطيك شي بروصي أكحل". تمر الشاحنة كسابقتها، ليبقى هو وحده، يعوم في بحيرة من غبار ودخان خانق. يبصق على وجه الأرض. يلعن حظه العاثر المتعثر. يلعن اللعنة التي ما انفكت تطارده بمخالبها المحمومة، وأنيابها المسمومة، منذ أول صرخة له في هذا الوجود، أو بالأحرى العدم الموجود. يسب هذا وذاك، وكل من كان سببا في تعينه هذه المنطقة النائية المنسية، وسط ركام من التخلف والركود والحرمان. في حسرة ما بعدها حسرة، ويأس وقنوط، يسأل نفسه إلى متى سيظل نابتا كجلمود صخر تأكله عوامل التعرية، في هذه الطريق العاقرة، الشحيحة، العابسة، المسمومة، الكثيرة المنعرجات، والمتمددة كثعبان، لا تجود إلا بالويل والثبور، والغم والغبار.؟

قبل أن يستشير عقله وقلبه، لملم شتات أفكاره، ونظر نظرة رحمة واستعطاف لقدميه المتورمتين، فقرر أن يعلق أشجانه وخيبة أمله في "الأطو-سطوب" على مشجب اللامبالاة، ليطلق العنان لساقيه كي تعانقا الريح والطريق. لقد أضناه المكوث لساعات طوال، في ذات المكان، تحت رحمة قرص الشمس الملتهب، حيث لا ظل إلا ظله. التفت وراءه عسى أن يرمق من بعيد سيارة تائهة، قد ساقتها الأقدار لنجدته، أو شاحنة دواب تزحف نحوه لتنتشله من براثن هذا الجحيم، فلم ير سوى السراب يتلألأ مستفزا عينيه بقسوة وإلحاح. حتى صاحب الدكان اليتيم في هذه المنطقة العجفاء، والقابع بين أكياس الدقيق والسكر، كتمثال أبي دعبل، سئم التفرج عليه طيلة هذه المدة. أخيرا انفتحت أبواب السماء، ها هو قد أوتي سؤله

هو ذا يركب سفينة الشرود. ها هو قد أصبح واحدا من أبطال العدو الريفي لا يشق له غبار. إنه يعدو بسرعة، لم يعد يبالي برتابة الزمن المتعفن، مع كل خطوة يخطوها، تزداد دقات قلبه شدة وحدة، وجسده يتفصد عرقا. ليس مهما أن يتبلل عرقا، المهم أن يحطم الرقم القياسي. تصفيقات المشجعين المحتشدين على جنبات الطريق تذكي النخوة الخامدة في كيانه، وتلهب مشاعره، ليرفع لواء التحدي بإصرار، ويقتحم خط الوصول في أسرع وقت ممكن. شيئا فشيئا، بدأ ينفلت عن الكوكبة التي بدت ككلاب صيد تلهث وراء فريسة. أحس بنشوة الفوز تدغدغ وجدانه، وهو يقتحم خط الوصول، عدسات المصورين تترصده حيثما التفت، تلتقط له الصورة تلو الصورة. أسئلة الصحفيين تتساقط عليه أفقيا وعموديا، زخات زخات... فتيات جميلات، يرشقنه بالورد والقبلات. اقتداء بسنة زملائه الأبطال، يريد أن يجثو على ركبتيه، ويخر ساجدا لبارئه، شاكرا إياه على جلائل نعمه، وعلى النصر الذي حققه بفضله وجوده. لكن السجدة تحولت إلى غفوة، والغفوة إلى غيبوبة، والغيبوبة إلى سكرات الموت. فتحول البطل إلى مجرد إنسان، والإنسان إلى علامة استفهام

- من هذا؟
- إنه سي فلان الفلاني .. معلم بدوار أولاد فلان.
- ماذا حدث له؟
- لقد عثر عليه أحد الرعاة مسجى على قارعة الطريق كما ترى.
- يا لطيف.
- إنه في حالة غيبوبة عميقة.
- لا...قل مات.
- إنا لله وإنا إليه راجعون.
- من فضلكم يا ناس، أفسحوا للفقيه ليقرأ على روحه ما تيسر من الذكر الحكيم.
- أين سيتم الدفن يا جماعة؟
- يستحسن أن يوارى جثمانه في القسم الذي يزاول به عمله.
- نعم الرأي والصواب، ذاك هو المكان الأليق والأنسب لرجل تعليم.
- هيا أسرعوا، قبل أن تجنح الشمس نحو المغيب، فيدركنا الظلام
- أجل.. ولا تنسوا تثبيت الشاهد جهة الرأس.
- ليكن الشاهد محفظته.
- حسنا فعلتم
بعد مراسيم الدفن التي تمت في جو مفعم بالأسى والخشوع، تفرقت جموع المشيعين. لينام المعلم قرير العين في مثواه الأخير.. و قد ارتدت السبورة ثوب الحداد، وبكته كراساته، وجرائده، وأقلامه تلك الليلة الليلاء.
 
في صباح اليوم التالي، حضر مدير المجموعة ذو السحنة المترهلة، والذي يشبه إنسان سلالة منقرضة من حضارة بائدة، ممتطيا صهوة دراجته النارية، لما اقترب من القسم الضريح لفت نظره الباب والنوافذ المغلقة، نزل من على الدراجة بعد أن أسكت محركها، وأسندها على الحائط- كونها معطوبة الرجلين-. قرع الباب ثلاثا، ولما يئس من انفتاحه كما يئس الكفار من أصحاب القبور، أخرج مفتاحا كان يدخره لوقت الشدة والأزمات، ففتح الباب. أثار انتباهه قبر البطل الهالك، تريث هنيهة، وعقد ما بين حاجبيه، واتجه بهدوء نحو الشاهد، حيث فتح محفظته الجلدية الحبلى بالأوراق والخواتم، واستل منها ورقتين، فتمتم ثم وقع وختم، فغمغم. انحنى على الشاهد بخشوع، مثلما ينحني واضع إكليل الزهور على قبر الجندي المجهول ليثبت الورقتين عليه. بعد ذلك حدج في أعلى السبورة، ثم نظر إلى ساعة معصمه ثلاثا، قبل أن يخرج من جيب معطفه الرث مذكرة شبيهة بالتي يستعملها صاحب الدكان السالف الذكر، ليكتب فيها ما شاء الله أن يكتب وهو يغمغم ويبتسم.

لما خرج أوصد الباب بإحكام، وما كاد يغادر القسم حتى سقطت الورقتان، الأولى تحمل في طيها استفسارا عن تغيب بدون مبرر قانوني، أما الثانية فكانت عبارة عن إشعار بانقطاع عن العمل. غادر المكان وعلامة الارتياح بادية على وجهه، ذلك ما أوحت به فرحة مقموعة تلألأت في عينيه كما البرق في ليل بهيم
...

أحمد بلكاسم

 من المجموعة القصصية لعنة باخوس



3 commentaires:

  1. تحية بيداغوجية إدماجية
    وكل عام ونحن بالف خير
    أحمد بلكاسم

    RépondreSupprimer
  2. أهي قصة قصيرة أم مأساة بالمفهوم العلمي..وأنت يا بطل في كل بطل

    RépondreSupprimer
  3. هذا حال واقعنا التربوي أو بالأحرى التعليمي لأن التربية لا مكان لها في منظومتنا التربوية التعليمية
    مأساة ولا مثلها مأساة
    تحياتي لأستاذنا المحترم
    أحمد بلكاسم

    RépondreSupprimer