في مطلع القرن العشرين قرع الطيب صالح باب إشكالية
الصراع بين الشرق والغرب وحاول جاهدا ـ ابتداء ـ وناجحا إلى حد بعيد ـ انتهاء ـ أن
يسبر أغوار هذه الظاهرة ـ المحنة في أول محاولة حبرية له في مجال الرواية.
من الروايات التي انتشرت في العالم العربي والدولي
انتشار النار في الهشيم، رائعة الأديب السوداني الطيب صالح بعنوان " موسم
الهجرة إلى الشمال" التي تُرجمت إلى العديد من اللغات الحية واعتمدت الكثير
من الجامعات تَدريسها ضمن مقرراتها الأدبية، في حين مُنِع تداولها في العديد من
الدول العربية بدعوى تضمنها بعض الإيحاءات الجنسية.
تتناول الرواية سيرة رجل سوداني أسماه "مصطفى
سعيد" أثناء الاِحتلال الإنجليزي للسودان. وهذا الرجل له قصة طويلة.
إذن... دعوني أبدأ من النهاية.
حينما تنتهي من قراءة آخر صفحة من الرواية
وترتسم في ذهنك صورة عامة عن مضمون الرواية يتبين لك كم كان الطيب صالح ناجحا في
اختيار العنوان حتى كان حقا عتبة إلى متنه المحوري.
أحداث الرواية تدور حول شخصية مصطفى سعيد
الذي ظهرت عليه أمارات التفوق والنبوغ وضاقت عليه أرض السودان بما رحبتْ فلم تقدر
أن تحتضن مواهبه، فاصطفى القدر لهذا الغرض امرأة انجليزية تدعى روبنسون، بعثت به
بمساعدة زوجها (المستشرق الذي اعتنق الإسلام)
إلى مصرومن ثَم إلى انجلترا لاستئناف رحلته الدراسية وليبدأ مغامراته
النسائية.
تكلم النقاد، هل مصطفى سعيد هو اختزال للطيب
صالح؟ أم تمويه لشخصيته؟ لأنه يبدأ الرواية بقوله "عدتُ إلى أهلي يا سادتي
بعد غيبة طويلة. " ص5 وحتى يغير الأسلوب ويتكلم بضمير الغائب، اختلق هذه
الشخصية.
إلى حد بعيد أتفق مع هذا الرأي، فهو يحكي عن بطله موضحا جزئيات نفسية لا
يمكن أن يطلع عليها إلا صاحب الشخصية نفسه.
يسافر مصطفى سعيد. يكثر الترحال بحثا عن
ضالته دون وجل أو ارتباك. من السودان إلى القاهرة ومن ثَمَّ إلى بريطانيا، وهو ما
أعرب به لزوجه حُسنة حين قالت: "لكنه قال لا داعي للخوف وإنه يجيد
السباحة" ص97 .
سافر مصطفى سعيد إلى الشمال مصطحبا معه بشرته
السوداء وصرامة نهجه في الحياة، فيعيش هناك بنمط
جدي ينتقم فيها لجهله الذي خلفه في بلاده فيمتح من شتى العلوم بنهم يساعده
عليه نبوغه، وينتقم فيه لعرضه الذي دنسه الجنود الإنجليز إبان احتلالهم للسودان
فيضاجع هذه وتلك ولا يجد صعوبة في إسقاطهن في شباكه.
ولأنه متأرجح في دخيلة نفسه بين أصله وجذوره
الشرقية وبين العالم الذي أوقعه فيه مآله، فهو مرة يضاجع هذه باسم أجنبي محاولا
إقناع نفسه أنه تخلص من إرثه وتخلفه، لكنه لا يلفي من ضجيعته إلا النفور والاِحتقار
لجنسه ولون بشرته الذي لا يمكن أن يغيره وإن غير لسانه وطباعه، فهي لا رغبة لها
فيه إلا لإخماد فورانها الجنسي ولا تتحرك مشاعرها تجاهه أبدا، فهي تنظر إليه نظرة
دونية، فإلى عهد قريب كان آباؤه عبيدا لآبائها. هنا، لا يجد مصطفى سعيد إلا أن
يأوي إلى محضنه الأول بكل مكوناته الحضارية وخلفياته الإديولوجية. فهو في مسيرته
الإنتقامية لعِرض بلده، يضاجع فتاة أخرى باسم حسن، تأخذ هي منه ما تريد ـ فحولة
الأفارقة في النكاح ـ ولا يلفي هو منها إلا الصد، فهو مرة أخرى أسود إفريقي، وهذه
المرة دون قناع، فاسمه حسن، اسم عربي.
مصطفى سعيد، رغم نبوغه لا يعرف ماذا يريد،
ترك أمه ـ وطنه إلى أرض تأقلم معها بسرعة خاطفة، تماما كسرعة تعلمه اللغة
الأنجليزية التي ساعدته بدورها على هذا الإندماج، حتى صارت هذه الأرض أمّاً ثانية
له، فالغربة أم كما تقول أحلام مستغانمي في "ذاكرة الجسد"، وهذه علة
أخرى لتقمصه مرة أسماء عربية ومرة أخرى أسماء أجنبية.
لنخْلُص إلى مِثْل هذه الشخصية ـ شخصية مصطفى
سعيد ـ في مثْل هذه الظروف ينبغي أن تكون نتاج بيئتين متباينتين كل التباين
ومتناقضتين تمام التناقض.
ولهذا الغرض، فإن الراوي يقصد وَضْعَنا في
الصورة، يصف لنا قرية سودانية ـ أم درمان ـ على ماذا تعتمد في عيشها في مختلف
جوانب الحياة، الإقتصاد والتعليم والدين والجنس.
اقتصاد القرية يتركز أساسا على الزراعة على
ضفاف النيل في حين تتعدد مِهَن الناس في انجلترا، والتعليم فيها محدود جدا بخلافه
في الشمال إذ يوصل الطالب إلى أعتاب جامعة أكسفورد.
أما الدين فهو في قرية ـ أم درمان ـ عنوان
بارز، ومطية لأطماع ورغائب يجتاح بها الإنسان بعض الحدود سنأتي على توضيحها بعد
قليل.
فالغريب الغريب في المسألة، هو كيف استطاع الطيب
صالح العثور على هذه المرأة التي تسكر جهارا وتتحدث في تفاصيل جنسية بحضور رجال هم
أيضا طاعنون في السن مثلها وتروي لهم عن مناوراتها الجنسية مع أزواجها الذين قضوا
نحبهم وتُفاضل بينهم بتعليلات تضعك تحت دثار الممارسة، كل هذا وجدُّه جالس يجاذبها
تفاصيل الكلام دون استحياء، وهو العابد الزاهد القابع في محراب تنسكه لا يفتر عن
ذكر الله.
هذا هو الدين في أم درمان، إدراك الناس له
فُقاعي وفهمهم له جزئي، إذ حين يقف حاجزا يكبح ويهذب جشعهم الجنسي، يتجاهلونه، وفي
أحسن الأحوال يتحاشونه بصراحة، ألم يقل ود الريس" أيام نقضيها على وجه الأرض
وبعدها ربنا يفعل فينا ما يشاء"ص88.
ولنفس الغرض يتخذون الدين مطية، وهذا ودالريس
يقول" الله سبحانه حلل الزواج وحلل الطلاق وقال خذوهن بإحسان أو فارقوهن
بإحسان " ص82 هذا لسان حالهم، حتى أُرغِمَتْ أرملة مصطفى سعيد على الزواج من
ود الريس فانتهى بهما الحال إلى ما انتهى إليه. عنف بشع، قتلته وقتلها، وقتل مصطفى
سعيد جين موريس. إنه القاسم المشترك بين الشمال والجنوب، الجنس وعنفه أو الجنس
وحده، يسافر مع الإنسان حيث حل وارتحل، لا يعرف لونا ولا حدودا. في هذه الحالة،
بخلاف غيرها من الحالات، تتطابق أم درمان مع لندن. ود الريس يصول شرقا وغربا بين
أحضان النساء ومصطفى سعيد يتلذذ بغرامياته النسائية في لندن.
يموت مصطفى سعيد في ظروف غامضة، في وقت يفيض
فيه النيل ويغزو المساحات اليابسة، قد ينجلي هذا الغموض ولو بالنزر القليل حين
يعود الراوي ليوقِّع موته في ظروف واضحة لها علاقة بالنيل نفسه. فهذه إماءة ـ ربما
ـ أرادت منا أن نفهم ويتسرب إلى أذهاننا بشكل لطيف، أن الراوي ومصطفى سعيد على أقل
تقدير هما جسدان في روح واحدة.
يأتي الطيب صالح على ختام الرواية ليختصر
الصدام بين الشمال والجنوب في الصفحات القليلة الأخيرة وبأسلوب أكثر وضوحا من
الأسلوب الطاغي على الرواية حسب ما أرى.
يقول:" وأخذت أسبح نحو الشاطئ
الشمالي" ص166 لماذا فكر في هذا الشمال؟ هناك شيء ما مُغْرٍ دعاه إلى ذلك،
المهم أنه عزم واقتحم، وكان لديه من الجرأة ما يؤهله لذلك فاستقر عزمه على بلوغ
الشاطئ الشمالي. في خطواته الأولى كان يسمع طقطقة المكنة التي تربطه بذكريات
جذوره، ولكن ما أن ابتعد حتى تلاشت تلك الذكريات وامحت....وتقع نفسه في دائرة من
الحيرة، فهو حي ميت، يعي ولا يعي.
ها هوذا يعود ويسمع طقطقة مكنة الماء، الشيء
الذي ينم عن قربه من منبت جذوره على الرغم من إشباع فضوله وبُغيته من معطيات ذلك
الشمال.
ولكنه لازال في الماء يسبح.
يقول:" تلفت يمنة ويسرة فإذا أنا في
منتصف الطريق بين الشمال والجنوب لن استطيع المضي ولن أستطيع العودة" ص166.
إنه تصوير رائع مذهل لهذا الضياع الذي يلفي
الإنسان فيه نفسه حين لا يستطيع أن يذوب في الحضارة التي اختارها لنفسه أو اختارها
له القدر، ولا يستطيع أن يعود إلى هويته التي ولد وألفى نفسه عليها وفيها، لأن
الغربة التي قضاها في الشمال، هي أمّ أيضا، اكتست إزار الأمومة من طول الأمد. أمٌّ
ألفها وألفته. بمحض إرادته أو رُغْماً عنه. وهكذا بين الأم التي خلفها والأم التي
ألفاها، تبقى له الحيرة والتيه.
وكل ما يستطيعه في هذه الحالة، أن يبحث لنفسه
عن طريقة تمكنه من الإعتياد على هذا التيه، يقضي بها الأيام التي بقيت له من عمره
بسكينة وروية، السكينة والروية والأناة التي تكون أحيانا نتاج حيرة وتعب وتيه،
وهذا ما عبر عنه بقوله:" انقلبت على ظهري وظللت ساكنا أحرك ذراعي وساقي
بصعوبة بالقدر الذي يبقيني طافيا على السطح" ص166/167.
في أحضان هذا التيه، وبهذه الأريحية التي
تخفي الكثير من الألم، لا يستطيع الإنسان أن يعيد الزمان إلى الخلف. ينتظر الإنسان
الموت، وهو شيء ينم عن النكوص إلى القعر" ووصلت إلى نقطة أحسست فيها أن قوى
النهر في القاع تشدني إليها"ص166.
ولكنه أراد لهذا الموت أن يكون في موطنه في جهة الجنوب " التيار يدفعني إلى الشاطئ الجنوبي في
زاوية منحنية"ص167.
لكنها آفة البشر، لا يجد عِضة في الأمم التي
سبقت، ولا يعتبر بالتجارب التي سلفت، فلا يزالون يقتفون نفس المسار كما يراهم الطيب
صالح. ليسوا فرادى، بل زمرا" رأيت أسرابا من القطا متجهة إلى
الشمال" ص167 الكل يبهره ذلك
الشمال، فهو ملجأه وقبلته.
نعم. إنهم أفواج اتجهت وتتجه إلى الشمال،
ولكن لماذا؟
"هل هي رحلة أم هجرة؟" ص167 هذا هو السؤال الذي طرحه
الطيب صالح على لسان ذلك الغريق الذي رغم وقوفه على حافة الموت، لازال يشغله هم
شعبه ومصيره.
هل هي رحلة؟ يكتشفون فيها ذلك المجهول
فيبهرهم فينغمسون فيه...وحين يشبعون ويتعبون ويكتشفون شذوذ مبادئه، ينشدون الراحة
فلا يجدونها إلا في بلادهم جهة الجنوب. ولكن هيهات حينها، كيف يتملصون مما انغمسوا
فيه وصاروا جزءا منه؟ وكيف يعلنون عقوقهم لمأواهم ومنبتهم؟
إنه نفس التيه إذن.
وهل هي هجرة؟ حياة جديدة وثقافة جديدة وامرأة جديدة،
ونسيان لكل ما مضى في الجنوب، الجارة وبنتها وأظلاف الحمير تهمس للأرض، وتكفير عن
تلك الأيام المنصرمة فيه وذوبان حتى النخاع في ما آلوا إليه.
وهل يأتي يوم يصيحون فيه ويستغيثون"
النجدة..النجدة" ص168. إن هذا لعمري أدهى وأمر. رحلة أم هجرة؟ تعب وضنك
كلاهما أمر من الآخر
إدريس يزيدي