"الرواية تاريخ متوقع" هذا هو التعريف الذي يقترحه
أندريه جيد للرواية، لكن كيف تكتب ذلك التاريخ بمشاعر اللحظة المساوقة له حتى يتم
نقل حيثياته بنفس الفوضى والقلق فلا تهدأ مع تراخي الأيام، هو ما تحاول رواية
" أوراق الرماد " الصادرة عن شركة مطابع الأنوار المغاربية للروائي محمد
العتروس أن تنجزه على مدار سبع ورقات تقاسمها المتن.
وأنت تخطو خطواتك الأولى لتلج إلى
متن الرواية يلفت انتباهك الضمير الأدبي الذي يتقمص روح حرباء، وهي الإشكالية ـ
إشكالية الضمير في الكتابة الروائية ـ التي تناولتها أقلام النقاد على نطاق واسع.
فهو في البداية يغوص في السرد تحت مظلة ضمير الغائب "فيستيقظ طفل مشاكس في
الغرفة ....يتثاءب ....يمدّ .... يحك .... ثم ينسحب في هدوء" ص7، بنفس ذلك الهدوء ما يفتأ فيحرف السرد إلى
ضمير المتكلم الذي استطاع من خلاله أن يبث مكنونات التجربة فيجعلها تطفو فوق السطح
" أنا كنتُ ذلك الطفل .... أتذكر ـ مازلت ـ قبلتها على جبيني" ص8، بهذه الطريقة يوكل ضمير الغائب لكل من
شاركوه لعبة الحياة، يهيم يشرح تفاصيلها، نكباتها، عثراتها، إخفاقاتها المتتالية،
حتى لكأنه تعب من كل هذه الشروخات التي أصابت نفسه ولم تُبق منه شيئا، عاد في
الورقة السابعة والأخيرة ليفر من نفسه، يريد أن يقول: هو لم يكن هو. ولكي
يوهم نفسه أولا ويقنع القارئ تاليا، يحرف الضمير الأدبي مرة ثانية من ضمير المتكلم
إلى ضمير المخاطب، يستهل الورقة قائلا " حزينة كانت أمكَ حين خرجتَ أنتَ من
غرفتك ذاك الصباح" ص97.
هذه الورقة السابعة التي أنكر في
حياضها أناه ، سبقتها ورقات تمخضت عنها هذه الحال، فكما أن هذه الورقة كانت معنونة
باسم علي، كانت الورقات الأخرى باسم عباس الحماس وعمي بوطيب
الحجام وأحلام ودنو وسامي لالماني ولكانوخ، مما
يجعلنا نجزم أن توزيع هذه الورقات استدعى إسقاط المتن على معادلة عسيرة، ففي
الورقة الأولى يسرد جملةً من أصدقائه الذين قاسموه جرائم الطفولة ليأتي تاليا
ويمنح كل واحد منهم ورقة تشهد على جريمته. وفي كل ورقة يظلون رفقته في درب الطيش
والطفولة "المقدسة"، بل شركاؤه في معالجة طفولة قاسية ظلت آثارها عالقة بشخصياتها حتى بعد أن
تجاوزوا سن الصغر، فكان ذلك واضحا على مستوى العبارات والألفاظ المتداولة على مدار
النص، فحينا يصف مراوغة الطفولة بالخبث " ثم أضيف في خبث واضح" ص9، وحينا يصف مشاكسة بريئة بالجريمة النكراء
" خبأت بيضتي ...سأعترف لها بجريمتي النكراء"ص10، وحينا آخر ينعت حركات طفولية فيقول " تدليت
كقرد مشاكس"ص11، ثم يرسم صورة
لصديقه النزق قائلا" لأن عباسا كان يحمسنا على الأعمال الشريرة القذرة"
ص12. وحتى بعد أن تراخى الزمان وتباعد
المكان والتقى الراوي " أحمد" بصديقه الكانوخ في باريس لمعاقرة الخمر،
هاجر معهم قاموسهم اللغوي لنسمع الكانوخ يداعب أحمدا فيقول " اسمع وصايةْ
المجرب يا واحدْ المعفانْ" ص89
. ولا ضير أن نجد في ثنايا هذه البيئة التي أنتجت مثل هؤلاء الأطفال مفارقة عجيبة
تستفز الإنتباه، فعلاقة أحمد/الراوي بأمه يلفها الوئام والحنان، حتى لأنني لم أومن
بهذه الوشيجة السَمحة في الصفحات الأولى ورُحْتُ أضرب في الصفحات الموالية علِّي
أجد ما يعكر صفو هذه العلاقة، والداعي إلى ذلك هو أنها تقول له عندما ارتطم بالسلم
وتحطمت البيضة " الكلب ما يأكلها حتى يْمرمدها"ص11، هنا نكتشف أن قسوة الألفاظ هذه لم تكن نتاج
مشاعر حانقة، بل هي حصيلة البيئة التي تستمرئ مثل هذه التعابير ولا تجد أدنى حرج
في تداولها حتى صارت من جملة العادات الكلامية وبدا ظلها واضحا وارفا على وجه
الرواية فلم تشرإب بعض العبارات الشاعرية إلا على استحياء" ميتة كانت
نجمتي" ص60 " وذات
فضيحة" ص49 "هل نملك
أن نصبح بشرا"ص94 وتتضح هذه
الشاعرية الحيية في ذروتها ـ من حيث مضمونها لا شكلها ـ حين يأتي الجناس التام بين
إسماعيل الملك الذي صورته مقررات التاريخ بطلا وما هو إلا صانع وهم في عقول الناس،
وبين إسماعيل النبي الذي وافق أن يكون ذبيح أبيه فداء لأمر الرب سبحانه " أنا
لست مستعدا لأن أكون الأضحية التي بموتها تغفر كل ذنوب الكون. لست مستعدا لأن أكون
إسماعيل جديدا" ص61
وفي غمرة هذا النص الذي نجح في أن يؤدي فروض الولاء
لقواعد الكتابة الروائية، ظلت المقاربة بين المحلية والعالمية تضج كلما كلما حاول
النصُّ أن يرسم صورة واضحة ـ إلى حد بعيدـ وعميقة ـ إلى حد ماـ لكل الخلفيات التي
صنعت شخوص الحبكة السردية، وذلك ابتداء من الحمّاس قاتل القطط إلى أغاني مرسيل
خليفة وقعبور وناس الغيوان مرورا بأستاذ التاريخ الذي يراه مزيفا وملفقا. وكذلك من
باب اتخاذ المحلية مدخلا إلى العالمية ظل الكاتب يُضَمِّنُ نَصَّهُ جملةً من
المفردات التي قد لا يفهمها الساكن في المدينة المجاورة بَلْهَ البعيد النائي،
وذلك تارة في جرد منه لأسماء بعض الألعاب التي كانت تسلي طفولتهم المرتبكة"
نلعب الورق أو "الزْلاقوفْ" أو "سَبْعْ
حْجيراتْ" أو "كَامَا" أو "صوطْ موتُو" أو "الدَّنْكْ" أو غيرها من
الألعاب" ص68 وتارة أخرى يوغل في المحلية أكثر فيرسم خريطة
جغرافية للمدينة المنهكة المتعوبة بطريقة لا تتأتى إلا لمن عاش تفاصيلها "
وانحرفت يمينا حتى وصلت إلى محطة البنزين "جَعْرَة" وانحرفت يمينا حتى وصلت "الطحطاحة" وهناك دخلت
في الأزقة الضيقة لـ"لكَرابا"، مررت على مدرسة السّي البوخاري واتجهت يسارا وفي زنقة
المدينة المنورة ركضت نحو البيت كالسهم"ص39 /40.
ننتهي من الرواية وقد فهمنا ـ إن صحّ فهمنا ـ أن أحياءنا
التي صنعتها أيدي النظام البوليسي ـ الذي
لم يَخْلُ النص من كشف الكثير من مهاتراته ـ مازالت تحتاج إلى من يسدل الستار عنها
حتى تطل علينا بشاعة الشخوص التي أنتجتها،وكم كان الباب مشرعا ـ لو اقتحمه الراوي
ـ لسبر أغوار تلك النفوس وكشف خفاياها ودوافع طيشها الذي حرفها عن طفولتها، لاسيما
عباس الحمّاس قاتل القطط وآكل الجيف وكل الشخوص التي كانت تستمرئ صنيعه. وهي ـ أي
هذه الشخوص ـ كانت بخلاف أحمد/الراوي الذي كان حظه وفيرا إذ عثر على حضيرة للأبقار
تركها المستعمر ليتمدرس فيها، أما ألائك الذين لم تتنازل لهم الأبقار عن مكانها
فهم كثر. وهذا ما حاول أحمد/الراوي أن يؤكده لنا ويؤكده لنفسه قبلنا في الصفحات
الأولى " لكنني مع كل هذا لم أكن الأسوأ بين أقراني في الحي ... حتما لم
أكن الأسوأ" ص11، وستشهد
الصفحات أنه لم يكن الأسوأ بين أقرانه، خاصة ذلك القرين الوسيم الهادئ الوديع
"سامي لالماني" الذي لم ترحمه هذه البيئة العنيفة وجنتْ عليه براءته إذ
أسلمته إلى أحد الوحوش حتى يغتصبه، ولذلك يخصه بالذكر فيقول " ولا كان حظي
أسوأ من حظ سامي لالماني.." ص16. لكن
مثل هذه البيئة لا تكتمل بشاعتها إلا إذا خلعت على البراءة أسمالها وألبستها روح
الوحشية، وقد استمر ذلك زهاء عشرة أعوام وسامي لالماني يتربص بغريمه " وفي
أول فرصة انقض عليه كالأسد الجائع، نهش لحمه ونكل بجثته ثم قطع قضيبه ورماه
للكلاب"ص44... الآن، مرحبا بك يا
سامي في حينا.
لم تخالط قتامة هذا النص العنيف ـ باعتبار صدقه وجرأته
في وصف مشاهد الحي ـ إلا ريح باريسية، إذ ظل النص ينضح بإشارات تضفي عليه نكهة
الرواية المهجرية، إلا أنه ما يلبث أن يحجم عن الإسترسال في نفس السياق الإغترابي
ويعود إلى تيمته المحورية، وهي التيمة التي تأخذ برأس القارئ تجره إلى عقر ذلك
الحي التَّعِبِ المنهك السادر في بوهيميته الحديثة.
إدريس يزيدي - شاعر مغربي مقيم في بلجيكا
Drisss.yazidii@gmail.com
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire