الأستاذ مصطفى السباعي فنان تشكيلي مغربي يقطن حاليا بتطوان، و يعيش في أحضانها وبين ظهرانيها منذ عقود بعيدا عن مدينته الأصلية و مسقط رأسه أبركان
إنه رسام بارع، معروف بنزعته التي تميل إلى رسم المباني العتيقة، والممرات القديمة وكل ما يتعلق بالتراث المغربي الأصيل، مما يضفي على أعماله صبغة مغربية محضة. إن شهرته تتعدى الحدود، لهذا فهو لا يحتاج إلى تقديم مسهب للتعريف بشخصيته خاصة و أنه طبع العديد من الأروقة داخل المغرب و خارجه بلوحات متميزة استحقت جوائز قيمة، ذاع صيتها بسرعة و تركت صدى طيبا لدى المهتمين و المولعين بالرسم و أسالت مداد كثير من النقاد المحليين و الأجانب. وقد اعتبره بعضهم فارس الألوان بامتياز، و أجمعوا على أنه خارج التصنيف يملك خاصية انتقائية لا تخضع لأسلوب محدد، و يمتاز بجرأة كافية تسمح له بالانطلاق بحرية والنفاذ لعوالم خاصة، و اختراق الأزمنة الغابرة، ومسح فضاءات تغلب عليها عتمة مطلقة تفرضها على أجوائها بقوة تلك الألوان الباهتة و القاتمة، وتتسم بحميمية للأماكن المهجورة و الدروب الضيقة العذراء، و غارقة في سكون دائم يرخي سدوله من خلال أزرق سماوي نقي و صاف... يصبغ كل الأشياء بما فيها شخوص منطوية داخل أزياء تقليدية مغربية يطبعها الوقار، وتطغى عليها الحشمة و تبسط أطيافها على شكل تقاطعات لونية لامعة تأخذ توهجها من الشمس و تلتحم مباشرة مع نخيل ظلاله وارفة يزرعه المبدع في شتى اللوحات، للإشارة للشموخ و العرق الأصيل، و تنصهر تدريجيا في العمق و داخل الكتلات ، فتمنح دينامية لا متناهية لجميع المكونات و العناصر كانت جمادا أو غير ذلك ... و تحلق إلى جانب ذلك ثنائيات الانعكاسات بين المناطق الخلفية و الأمامية و تضع كذلك ومضات تمتد تلقائيا لتملأ كل الفراغات حتى تلك التي تشكل عيوبا أو حالات شاذة على أقمشة سميكة و رحبة تتسع لمجموعة من الأشياء، و تختزل صورا لا تحتفظ بنفس الهيئات تتغير أحجامها حسب المسافات و تبدو في ترحال مستمر و المثير أنها لا تؤدي نفس الوظائف لاسيما أن الفنان أسقطها برعاية فائقة في مناطق دقيقة لتقوم بأدوار مختلفة رغم أنه تبدو أحيانا متشابهة للعيان
و تفاديا للتكرار عمد إلى إحاطتها بألوان تختلف من حيث درجة الكثافة و من أجل ذلك سخر أسلوب التكثيف و التخفيف لاستحضار الزمن الذي لا يغيب بتاتا عن إبداعاته ، فالأصفر الداكن مثلا ، لون القمر الآفل يذكر بالغبش و بداية النهار ، و الأحمر القاني يوحي بالشفق و دخول المساء ، و الأسود الكثيف يحيل على الليل و الظلام الدامس، أما الألوان الأخرى الغامقة فتشير إلى فصول السنة ، وهذه إشارة واضحة بأن الدهر يتغير و لا يقبع في محله بل يتحرك مع كل المحتويات ، و هذا ما يجعل الأمكنة تعج بالحركة، و جميع الرسومات و الأشكال تتفاعل مع الأطياف اللونية التي هي عبارة عن إشارات دالة تنبعث بدون حرج من داخل المساكن ومن عمق المساكن خدشات من السكينة و مسحات من الفرشاة تخترق بقوة أبوابا خشبية موصدة بإتقان و تنساب بين الأقواس و جدران الأزقة و تسري على جنبات الحصون المنتصبة عمدا في زوايا معينة لتفرض حزمها و صرامتها و تحبس غوغاء العصر ، وتحد من صخبه و تراقب عن كثب معالم أثرية و مباني موغلة في القدم تتراءى للعيان صامدة و غير متهاوية و لا يشوبها أي تآكل بفعل التقادم و تعاقب الأزمنة و الحقبات
إن نزوع مصطفى السباعي إلى تجسيد كل هذه الأشياء ليس صدفة و لا اعتباطا و إنما هو اهتمام ، و عشق للمدن المغربية و ما تحتضنه من مواقع تاريخية مفعمة بالمشاهد و المناظر ، و تبقى تطوان مدينته التي يستلهم منها مجسماته، و يقتفي بين ممراتها خطوات ساكنتها و مرتاديها و ينقل طباعها ليقدمها في طابق فني رفيع يعتمد على المباشرة في منأى عن التجريد، و يلاحظ ذلك على الخصوص في لوحته " حفلة مغربية " . إنها بمثابة شاهد عيان على لحظات الغبطة التي عمت أرجاء مكان غير محدد لا يريد المبدع أن يوحي إليه ولو بإشارة خفيفة ليعطي بعدا شموليا لهذا الحفل البهيج الذي أتاح للأجساد فرصة التلاحم من خلال تمايل وازن لا يخرج عن الإيقاع ... يشكل رقصة فولكلورية تعبر عن الأجواء المريحة و لحظات الانتشاء التي تشمل المكان كله و يتضح ذلك من خلال ألوان متوهجة تطمس حتى ظلمة الليل و تخلق احتفالية مستمرة و غير متقطعة
عبد السلام الصديقي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire