ما ان تنتهي من قراءة المجموعة القصصية (
الشيخ قارون ) للكاتب المبدع - أحمد بلكاسم - حتى تراودك رغبة ملحاحة في العودة اليها من جديد لاسترجاع حدث شيق أو تأمل عبارة آسرة أو
استجلاء أسرار فكرة جميلة، أو فقط للاستمتاع
باستعادة أجواء واحدة أو أكثر من قصص المجموعة الاثني عشر، وما ذلك إلا لما
تتميز به هذه المجموعة من جزالة في اللغة و سلاسة في الصياغة و انسياب للسرد، مع
بناء قصصي محكم وزوايا نظر فريدة وساحرة في نفس الان .
و
الحق أن الكاتب لا يتركك تشعر بأنك تتابع حياة افتراضية على الورق، وإنما يجعلك
تحس و تعيش ما يكتبه لحظة لحظة ، و موقفا موقفا، و حالة حالة ، كما لو أنه لا
يستعمل قلما في الكتابة وإنما يلتقط مشاهده و صوره الاجتماعية بكاميرا خفية تحول
القارئ الى شريك في المشاهد و الصور، منفعلا بالأحداث و متلبسا بالحضور في ثنايا
الوقائع.
هي اذن قصص من صور و مشاهد لنماذج من البشر ، لحالات و مواقف .. قصص ترى و
تعاش، مما يجعلها جديرة بالانتساب الى سلالة ذلك الأدب الأنيق و الرشيق الذي
تتناغم فيه عفوية المعاش مع انسياب ماء اللغة رقراقا صافيا في نهر الابداع الأصيل ،
وجديرا بمخاطبة كل الأعمار و ملامسة الأوتار الحساسة لكل الفئات.
مشاهد و صور من الحياة المعيشة ، و الذكريات المستعادة ، تترى أمام عين
القارئ ، الواحدة بعد الأخرى حتى يكتمل العدد السعيد لأشهر السنة ..
فلنقرأ اذا .
1
خطيب يدعو التابع و السامع للزهد في الدنيا
الملعونة و المطارح المخملية الوتيرة ، مذكرا بسيرة الرسول الحبيب الذي ما شبع أبدا
من خبز الشعير، و لا نام إلا على الحصير، بقدمين متورمتين , بينما هو( الخطيب)
يسكن الفيلا ، و يركب السيارة الرباعية الدفع، و يعيش في نعيم الخمسة نجوم .
2
الفتية المحتارون في اختيار وسيلة لتزحية
الوقت الطويل أيام الصيف و الحر ، فلا يجدون حلا غير منازلة الأب العجوز،و ياله من أب عجيب ، يتركهم جميعا
مجندلين، و هم الفتية المعتدون بقوتهم .
3
المتسول شبيه الأديب العقاد ، و الذي تختلط
نداءاته المستجدية بحلول الكلمات المتقاطعة ، يعرف أن الجوع هو السغب ، و لا نعرف هل هو مخ ....أ م مخبر.
4
الفتاة التي تجد اسمها باليا و عتيقا فترغب
في استبداله باسم يساير العصر ، دون أن تنسى وضع حبوب منع الحمل في حقيبة يدها. فلكل
شيء سبب , و لكل شيء ثمن .
5
الصبي الذي يصنع سيارته من أسلاك النشير و
عرى الدلاء و مطاط النعال ، ثم يتباهى
باختراعه بين أبناء الدوار، حتى اذا انتهى شغفه بها قايضها مع شغوف آخر بعصفورة
موثقة الساقين.
6
أستاذ التربية التشكيلية الذي يكلف تلامذته
برسم الأسد كما شاهدوه ، فيكتشف بأن واحدا من التلاميذ رسم الأسد و هو يركب سيارة كبيرة و جميلة و يرتدي ثيابا أنيقة
و يلوح بيديه , فهل أخفق التلميذ في الرسم؟ و ما الفرق بين أسد و الأسد؟.
7
زبون يفكر في الاسفنجة التي تتبختر راقصة في
المقلاة ، و حلاق تتعقب عيناه الشبح المتلفع بالبياض ، شبح المرأة التي ترتدي
الحايك ، و تمرق أمام حانوته منتشية بصوت حذائها.
8
تمساح متعجرف أبله يتسلل الى غرفة العانس
ليسحق بين فكيه صخرة الانتظار، بينما الأحلام تتبخر كقطرة ندى في جوف الصحراء.
9
صفحة بيضاء... وهاتف عجيب ، أصوات حروب وندوب
، صور وقائع ومواقع ، عظماء بلا أضرحة وشعوب تجر
خيباتها وأسماء زعمائها..وفي نفسها
شيء من حكاية سقوط فرعون القرن الحادي والعشرين..
ينفذ اعتماد البطاقة..ولا تنتهي الحكاية.
10
حكيم يحاول استئصال الورم الخبيث من صدر سقيم،
فيكتشف بأن له قلب ملاك ، يدق تسبيحا ويضخ صلاة.
11
الحظ السيء الذي يقود الولد الشغوف بالكتب
والمجلات الى حتفه، حين ينفجر الكتاب /اللغم بين يديه.
12
جسد بض..استحم وتوضأ فصلى ثم تضرع حتى صار
شعاعا شق برزخ السماء الى الفردوس الأعلى...جسد
الشهيدة التي اختلطت أشلاؤها
بشظايا القنبلة...جسد الشهيدة التي انفجرت في وجه المغتصبين القتلة.
*****
وأنت ما ان
تنتهي من قراءة قصص هذه المجموعة،
حتى تصبح معنيا بما يفيض عنها من تداعيات
في نفسك، تجعلك تولد من كل قصة قرأتها عشرات القصص التي عشتها أو سمعتها من أفواه
من عاشوها الى جوارك أو حواليك.
فالشيخ قارون مثلا ليس في النهاية غير نموذج
مجتمعي لأولئك المنافقين والوصوليين الذين يمتطون كل الدواب ( سياسة ..دين.. مجتمع
مدني) ليقضوا أوطارهم ومصالحهم على حساب السذج الغافلين، وفوق أكتافهم ومن وراء
ظهورهم ..انهم كل أولئك الذين يأمرون الناس بالبر والجهر، وينسون أنفسهم ، وإذا
كان الشيخ قارون في المجموعة القصصية لأحمد بلكاسم مجرد خطيب يدعو أتباعه للزهد،
بينما يرتع هو في بحبوحة العيش الرغيد ،فان له نظائر وأشباها في المجتمع .فالشيخ
قارون هو أيضا تلك النسوانية التي تحاضر وتناضل من أجل حقوق النساء في كل
المنتديات فإذا عادت الى قواعدها غانمة من الأعطيات، كوت ثم شوت لحم خادمتها
بأسياخ الحديد..لقد ناضلت حقا ، ولكن فقط ، لكي تستبدل اسم الخادمة أو (المسخرة)
باسم ( المساعدة المنزلية).
وهو أيضا ذلك السياسي اليساري التقدمي
الاشتراكي اليميني السلفي الشيوعي الليبرالي الاسلامي الذي يحج بيت الله ويلبس الجلباب ويجلس على الحصير، يقطر
نضالا وجهادا من كل مسام الجسم، حتى اذا أبلس النضال وأفلس الجهاد وانتهى المطاف
بالتابع والسامع والمريد والمنخرط الى المعتقل أو المخفر أو تائها في أنفاق الحياة
، عاد هو الى ضيعته ومربط خيله يقرع الكؤوس مع الأهل والأحباب....فلا حصير ولا خبز
شعير، ولا سبحة ولا جلباب، وإنما هو كافيار وتشيفاس وسيكار، حتى مطلع النهار.
الشيخ قارون نموذج...حالة معبرة ..ظاهرة.
ومن حسنات أحمد بالكاسم أنه رسم لنا الصورة/
الظاهرة لكل القارونات والبارونات وان اختلفت أحجامهم وألوانهم وأشكالهم.
هذه هي الظواهر الاجتماعية التي تلتقطها عين
الكاتب/المصور.وهذا هو المجتمع الذي يكتب
عنه المبدع..مجتمع كباره صغار النفوس وضعاف الضمائر، وصغاره مخترعون بالفطرة وقيض
الصيف..مخترعون كبار، تكشف بعضا من عبقريتهم قصة أخرى للكاتب بعنوان ( اختراع )اذ
يسترجع السارد لحظة من طفولته ويستعيد
بعضا من الذكريات فإذا به في ورشة الصناعة تحت شجرة التين الوارفة الظلال يحاول أن
يتم تركيب أجزاء السيارة التي شرع في اختراعها..لا بد للطفولة من سيارة حتى تهون عليها حر الصيف..والسيارة تحتاج الى
مقود..والطفل لا يمكنه أن يقود سيارة الأمة بلا مقود.
لا بد من من مقود لكي تقاد الأمة..ولا بد من
عجلة لكي تتحرك الطفولة.
أحلام أطفال يستشرفون المستقبل تحت ظلال شجرة
التين الوارفة..مقود من أسلاك النشير أو
عرى الدلاء لقيادة الأمة، وعجلة من نعال المطاط لكي تسير الطفولة.
أمة الأطفال هذه تسير بأقدام من مطاط ومقود
من عرى الدلاء .هل هو وصف للعبة يتسلى بها
الأطفال أم هو وصف لأمة يتلاعب بها الكبار؟؟أمة/ سيارة..أمة الأطفال..لعبة
عجلاتها من مطاط النعال ، وأجزاؤها من
صفائح العلب ، ومقاودها من أسلاك النشير..
مجرد تلميح..يتابع الطفل تركيب أجزاء لعبته،
ويتوقف الكاتب عن تقريع أمته ، فاللعب عند الطفل جد..جد ساخر سخرية سوداء..ثم كما
يحصل دائما في حياة الأطفال / الأمم ، تنهار الأحلام وينتهي الشغف باللعبة ،
فيقايضها بعصفورة حلم جديد لا يكاد يفرح به حتى يختفي في بطن قطة شرسة خبيثة ولا
يبقى منه الا الريح والريش ..
قصة( الشيخ قارون) اذن والتي أحسن الكاتب
بإطلاق اسمها على كامل المجموعة ، وكذلك قصة (اختراع) ليستا إلا نموذجين لما يمكن
أن تولده قصص المجموعة كلها في نفس قارئ متواطئ من تداعيات يستلهم فيها ذاكرته
الخاصة وتجربته الفردية ، تداعيات حرة
وبلا قيود، عربون وفاء غير بريء للذاكرة المشتركة بين أبناء المجتمع
نفسه..المجتمع الواحد .
ومثل ذلك أيضا هي التداعيات التي تولدها عند القارئ نفسه ، صيغ التضمين للنص القرآني في
أغلب القصص ، فان لم يكن التضمين فالمثل السائر، والإشارة ، والتلميح ...وهلم فنا
أسلوبيا رائعا ورقيا بالكتابة يجعلك تستمتع بالوصف والترادف والاستطراد ، ويجعل
الأحداث في كل قصة صورا مرئية ضاجة
بالحياة والحركة الى جانب النفس الساخر سخرية مرة
أحيانا وأحيانا سخرية مرحة فرحة تدغدغ مشاعر القارئ دون أن تجرحه ، وتنتزع
منه مرة ابتسامة خافتة ومرة ضحكة تكاد تكون عالية.
*******
ثم ان الشيخ قارون قبل هذا وذاك ، من الأعمال
الأدبية القليلة التي تفتح الباب واسعا أمام شريحة عمرية ظلت دائما مقصية من
التمتع بأطايب الابداع القصصي، وأعني بها فئة الفتيان ، فالشيخ قارون من الأعمال
التي ستحبب الابداع القصصي ولا شك لتلامذة الاعدادي والثانوي وتجعلهم يتعرفون على
تلك اللذة الغامرة للقراءة، والتي لا يمكن أن تعوضها الفرجة على القنوات أو
المواقع التي يبحرون تائهين على يمينها أو شمالها آناء الليل وأطراف النهار.
وأنا في الحقيقة لا أفهم كيف لا تهتم
المؤسسات التعليمية بهذا النوع من الأدب، كوسيلة ناجعة لتعويد الفتيان على القراءة
، وكيف لا تسارع الى تشجيعه واقتناء جديده لجعله يتصدر واجهة المكتبات المدرسية ،
وقريبا من أيدي التلاميذ وأعينهم وأفئدتهم.
ثم لا أفهم كيف نتباكى في الأخير لكون حظ
الواحد منا في القراءة لا يتعدى الست دقائق في السنة ، ونحن لا نعمل شيئا من أجل
دعم القراءة ودعم الفئات المعنية بها ، ولا أقصد الكتاب ققط وإنما أيضا الفتية من
تلاميذ وتلميذات مؤسساتنا التعليمية.
*****
ثم أما بعد.
فقد استضافنا الكاتب المبدع- أحمد بلكاسم- الى
عرس قصصي جميل ، فأكلنا هنيئا وشربنا مريئا وانتشينا طربا ونحن نتابع رقصة الكلمات
والحياة، اذ ترسمان على مدى اثني عشر قصة مشاهدا وأحداثا وشخوصا تفوح منها رائحة
الأمكنة المألوفة، والذكريات المستعادة ، والأحلام أو الخيبات المشتركة. فهل يجوز بعد كل هذه
المتعة التي تحققت لنامن خلال هذه القراءة/ العرس وهذا السفر الجميل، أن نبحث عن
عيوب وهنات كما يفعل أولئك الذين يحضرون الأعراس حتى اذا أكلوا وشبعوا وسكنت
أبدانهم عن الشطح ، نفضوا أيدهم من الطعام وأسروا لبعضهم بأن الأكلة ينقصها المرق
لكي تصير مستساغة أو بها ملح كلام زيادة.؟؟
أنا شخصيا أقرأ الابداع القصصي بغاية
الاستمتاع ، وليس لكي أبحث في ثناياه وبين طياته عن عيوب أو هنات، فما أكثر ما
يكون العيب في اللسان/ الناقد وليس في الطعام نفسه أو في اليد التي أعدته.
جمال الدين حريفي
شكراً للأستاذ الفاضل جمال الدين على هذه القراءة الممتعة، وعلى حسن ظنّه بمدوّنة البستان الشرقي ... مع التحية والتقدير
RépondreSupprimerتحية طيبة صادقة ملؤها المحبة العميقة العطرة للأستاذ الفاضل جمال الدين المبدع قراءة والممتع تعبيرا على هذه الشتلة الجميلة التي زينت بها بستاننا الشرقي ولك كل المودة والاحترام
RépondreSupprimerأحمد بلكاسم
إذا كان أحمد بلكاسم قد أبدع نصوصا جميلة من صميم الواقع المحلي و المغربي بشخوصاته و فضاءاته و همومه و قضاياه بلغة سهلة و مباشرة أحيانا و رمزية عميقة الدلالة أحيانا أخرى فإن الناقد جمال الدين الحريفي قد شرحها تشريحا دقيقا للكشف عن خلايها و أنسجتها و الأورام المجتمعية التي تتخفى وراء أقنعة الدين و الجهاد و النضال بينما هي في الواقع مجرد كائنات همها إشباع اللذات الدنيوية و الدنو من أصحاب الجاه و العز و القرار للحصول على مزيد من "وسخ الدنيا" و مأذونيات النقل و المراتب الرفيعة في أسلاك الوظيفة العمومية للأبناء و الأحفاد...و هو قد غاص قيها نصا نصا و كلمة كلمة و أعاد قراءتهاحتى يتمكن أي قارئ من الولوج إلى العوالم العلنية والخفية للمبدع أحمد بلكاسم......مع أصدق التحيات ........أخوك الحسن رزوقي
RépondreSupprimer