مقدمة:
أول ما تستقبلك به المجموعة القصصية
"الشيخ قارون" هو التنويه إلى عدم الخلط بين شخصيات المجموعة التي تكتسي
طابع خياليا
و شخصيات واقعية حقيقية. و التنويه لغة هو الدعوة بصوت مرتفع بما يجعله يرادف التحذير. و مثل هذا التنويه يوحي بأن المجموعة تتضمن فاكهة محرمة ينبغي إحاطتها بسياج متين يحظر كل قراءة آثمة من انتهاكها.
و شخصيات واقعية حقيقية. و التنويه لغة هو الدعوة بصوت مرتفع بما يجعله يرادف التحذير. و مثل هذا التنويه يوحي بأن المجموعة تتضمن فاكهة محرمة ينبغي إحاطتها بسياج متين يحظر كل قراءة آثمة من انتهاكها.
و
الحال أن هذا التنويه أشبه بما يوضع على ملصقات نوع من الأفلام من منع يخص الذين
تقل أعمارهم عن ثمانية عشر سنة. بيد أن هذا المنع يصبح عمليا إغراء بالإقدام على
مشاهدة ما يقع عليه المنع بالذات. و هكذا يصير التنويه الذي يتصدر المجموعة إغراء
بالبحث في ملامح شخصياتها عما يوازيها في الواقع من شخصيات حقيقية. يصير هذا التنويه
إذن دعوة صريحة إلى اقتراف نميمة أدبية يلتبس فيها الواقع بالخيال، فيصير من ثم
اثر التحذير عكسيا أي فاقدا لكل مبرر يستدعي وجوده لا سيما أنه يحمل في طياته
تمثلا استصغاريا لقدرة القارئ على التمييز بين الواقع و الخيال. غير أنه يقوم من
وجه آخر كمؤشر على أن ما سيأتي من نصوص سيتخذ منحى واقعيا مباشرا.
قراءتي لهذه المجموعة التي تضم اثنتي عشر قصة، لن تنطلق من "عراء
موقفي" و لكنها لا تدعي أنها ملزمة بصرامة نقدية منهجية. فلن تعدو أن تكون
حوارا مع نصوص المجموعة و تفاعلا معها استلطافا
و استهجانا.
و استهجانا.
سأحاول من خلالها إظهار الرؤية الشاملة التي
تثوي في ثنايا نصوص المجموعة التي تقوم، من هذا المنظور، كرؤى جزئية يمكن تركيبها
في إطار بنية أكثر شمولية. و ليس ثمة بد من التأكيد على أن الأمر هنا يتعلق
"بالرؤية كما يعبر عنها في بنية العمل ذاته، و ليس انطلاقا من مخططات الكاتب
الواعية أو من الفكرة التي يكونها عن كتاباته الشخصية" (مفاهيم نقد الرواية
بالمغرب، فاطمة الزهراء أزرويل، ص:173)
سيتم التعامل مع هذه نصوص هذه المجموعة
كأثر أدبي تساهم في بنائه مجموعة من العناصر. لذلك لا بد للكشف عن الخيط الرابط
الذي تأتلف حوله هذه النصوص من رصد تقنيات الكتابة التي اعتمدها الكاتب في
نسج قصصه و الأغراض التي اصطفى لها.
1) الدوران مع حركة
الشمس:
من أين
يبدأ الحكي في نصوص هذه المجموعة؟
سيكتشف قارئ هذه المجموعة أن نصوصها تبدأ فيما
يشبه طقسا ثابتا بمقدمات متشابهة حيث يبزغ النص مع بزوغ الشمس.
تحضر هذه التقنية (التي يمكن أن نطلق عليها
اسم "بزوغ النص مع بزوغ الشمس") في أغلب النصوص مع تفاوت بسيط بينها على
نحو ما يلي:
1- الشيخ قارون:"و ذهبت مبكرا إلى
المسجد العتيق لأحضر درس العالم العلامة..."
2- ليندا: "تستيقظ كسلانة و متأخرة
كعادتها.."
3- اختراع: يبدأ الحكي فعلا في هذا النص بعد تقديم وصفي قصير لحالة الطقس بما
يلي:" استيقظت باكرا كما تعاهدنا.."
4- الحلاق: " من عادتي ألا أغادر البيت قبل أن أتناول فطوري، و لا دون حلق
ذقني، ذلك هو دأبي منذ نعومة أظافري و منذ رهافة صغري و منذ رهافة زغبي. غير أنه
في ذلك اليوم أيام دجنبر الباردة الشاحبة و المقتضبة حصل العكس فقررت أن أتناول
فطوري خارج البيت" أي في الصباح الباكر ...
5- بهاء: استيقظت بهاء صباح اليوم الذي تلا العاصفة متثاقلة..."
6- حظ سعيد: بعد وصف قصير لحالة الجو و الزقاق و البيوت و الناس يبدأ النص كما
يلي:" هذا الصباح الحالك و هو في طريقه إلى حيث أمرته أمه.."
7- وميض: "استيقظت وميض استيقاظ المقبل على الحياة.."
هكذا تتواتر هذه التقنية
في سبعة نصوص من أصل اثني عشر في انسياق
مع الحركة الفلكية للشمس بما يؤدي إلى استنتاج أن العالم الذي الذي يسود في هذه
النصوص هو عالم نهاري صريح و مباشر ليس فيه ما هو جدير بالستر و الإخفاء، بينما
يغيب فيه الليل بما يتحرك فيه من أطياف و أشباح و ما يكتنفه من رعب و خوف و ما يحف
به من أخيلة وشكوك.
إذا كانت هذه النصوص تبدأ
على هذا النحو فكيف تنتهي؟
يبدأ الحكي في كافة النصوص رتيبا في حركة زمنية خطية لا تراجع فيها و لا
وقوف لينتهي بعبرة و موعظة تشبه المغيب أي بما يدعو للتوبة و المآب في انتظار عودة
الصباح و في حركة دائرية تتكرر فيها
البدايات و المواعظ و العبر.و للاستدلال على هذا أقدم ألأمثلة التالية:
ü
القصة التي تحمل عنوان الشيخ
قارون تنتهي بالدعوة إلى تقوى الله و الحذر "من زخرف الدنيا و من ملذاتها
الفانية"
ü
الأب العجوز تنتهي بالتحذير من مساوئ الخمرة.
ü
المتسول تنتهي بالتنويه بمحاسن الصدقة.
ü ليندا تنتهي بإبراز
العواقب الوخيمة لعقوق الوالدين.
ü حظ سعيد تنتهي بإظهارالنتائج
العمياء للإرهاب في البلدان العربية الإسلامية (اغتيال الأطفال).
ü
وميض تنتهي بالانبهار بنتائج العمليات الاستشهادية أو الإرهابية في إسرائيل وسط المدنيين.
2) أنا يحكي:
يتواتر
استخدام ضمير المتكلم في اغلب نصوص المجموعة بما ينسجم مع نسق السرد الذي
"يعتمد على فاعلية العين الرائية (الفوتوغرافية) حيث تقترب الكتابة القصصية
من الكتابة السينمائية، و تغدو اللغة وصفية إخبارية، في الدرجة الأولى. و يحضر
القاص عبر هذا المنهج، راويا
و محورا" (نجيب العوفي/ الكرمل 8/1982)
و محورا" (نجيب العوفي/ الكرمل 8/1982)
"لكن واقعية الضمير التي انطبعت بها
جل [نصوص هذه المجموعة] تقنع و تكتفي بتصوير الواقع بما هو عليه، مضافا إليه بعض
"النوايا" الشخصية الحسنة " (العوفي، المرجع نفسه أعلاه).
في
النسق السردي الذي يتحكم في هذه النصوص «تتحد الذاكرة و المخيلة في مجرى و قناة
واحدة تقود نحو المرئي المباشر" (أحمد المديني، آفاق 5/1980). أما اللغة التي
يتشكل بها هذا النسق فهي تجنح بصورة عامة إلى أن تكون غاية في حد ذاتها بدلا من أن
تكون في خدمة الحكي داخل هذه النصوص. لذلك تكاد هذه المجموعة أن تنسلخ عن السياق
الفني الحالي لتعود إلى سياقات فنية سابقة.
3) شخصيات هامشية:
عمن تحكي هذه النصوص؟
يلاحظ فرانك أوكونور في كتابه "الصوت
المتفرد" أن القصة القصيرة خلافا للرواية، "لم يكن لها بطل على الإطلاق
و إنما لها – بدلا من ذلك- جماعة خاصة معزولة لها مزاجها الذي يميزها عن
غيرها" (ص7) يطلق عليها اسم "الجماعات المغمورة" و يمثل لذلك
بمجموعة من القصاصين الذين اشتهروا باهتماماتهم الخاصة بفئات اجتماعية محددة، فقد
اهتم غوغول في أعماله الأدبية على نحو خاص بفئة الموظفين و اهتم موباسان بفئة البغايا و تشيكوف بالأطباء و
المدرسين. فبأي فئة يهتم كاتب هذه المجموعة على وجه الخصوص؟
لا تكاد شخصيات هذه المجموعة و المجموعة
السابقة "لعنة باخوس" أيضا تنفلت من عداد الفئات الهامشية التي تعاني من
شتى الضغوط الاجتماعية التي تتكون من المدرسين و المتسولين و الأطفال و الفقهاء. و
لكن إذا كان بالإمكان التعرف على هذه الشخصيات من خلال الأسماء و الأوصاف التي
يقدمها القاص عنها، فهل نجح في النفاذ إلى معاناتها
و رصد مشاكلها الحقيقية؟
و رصد مشاكلها الحقيقية؟
تقتضي الإجابة على هذا السؤال عرض المواضيع التي تناولها القاص في نصوصه. و
في سبيل ذلك أقدم الأمثلة التالية:
ü قصة الشيخ قارون
موضوعها أخلاقي يتعلق بالنفاق و مخالفة القول للعمل.
ü الأب العجوز موضوعها
أخلاقي يتعلق بأضرار الخمرة.
ü ليندا: عقوق الوالدين
ü اختراع: الرفق
بالحيوان
ü درس في التربية
التشكيلية: موضوعها قومي يتعلق برئيس دولة عربية.
و باقي النصوص تتراوح بين المواضيع
الأخلاقية و القومية العامة. فهل بمثل هذه المواضيع يستقصى الواقع المعيش و ما
يعتمل فيه من عوالم مضمرة و مغيبة؟
لا شك أن قارئ هذه المجموعة سيلاحظ غياب
السياق المحلي و الوطني الراهن سياسيا و اجتماعيا و فلسفيا و فنيا عن هذه النصوص
إذ أنه سيلاحظ غياب تفاعلها مع ما يزخر به هذا السياق من أحداث و متغيرات و مشاكل،
فلا وجود لنضال و لا نقابة و لا مظاهرة و لا إضرابات و لا سجون و لا سجال فكري
فلسفي و لا قمع سياسي و لا حب و لا عشق
و لا عجب و لا غرابة و لا قلق و لا خوف و لا سخط و لا كراهية...
و لا عجب و لا غرابة و لا قلق و لا خوف و لا سخط و لا كراهية...
لا يمكن تفسير هذا الغياب سوى بالرؤية الشاملة
الثاوية بين طيات هذه النصوص و التي تحددها مختلف العناصر المتدخلة في بناء هذه
النصوص نفسها. تقوم هذه الرؤية في شكل محافظ يستند إلى مرجعية دينية واضحة و هي
تتميز باستسلامها للواقع الذي يبدو في امتداد نظرها واقعا ثابتا لا ضرورة لتغييره،
هي إذن رؤية مطمئنة متوحدة لا سبيل للقلق و الغضب و الدهشة إليها.
بيد أن هذه الرؤية الدينية المحافظة لا
تكاد تنجو من مآزق من حيث عجزها عن بناء نصوص متحررة يستوي فيها الإبداع معيارا
أوحد. تشكل القصتان حظ سعيد و وميض مثالا صارخا لذلك المأزق، ففي حظ سعيد يدان
الإرهاب الذي لا تحدد القصة هويته فهو غفل بدون أي هوية دينية أو سياسية لأنه يحدث
في بلد يرجح من خلال اسم الطفل سعيد أنه بلد عربي يعيش فيه المسلمون.و لكن في قصة
وميض تنقلب هذه الرؤية على نفسها فتجيز العمل الإرهابي الذي تتحدد هذه المرة هويته
الإسلامية (وميض: توضأت و تطهرت من كل رجس و دنس و تلفعت بالبياض و قامت فصلت
ابتهلت ، تضرعت سبحت و ذكرت ربها..) دون الشعور بأي أسف على ما سيحصد هذا العمل من
مدنيين في إسرائيل التي يعيش فيها أيضا عرب مسلمون ; (يمثل
عرب إسرائيل ما يقارب 20% من سكان
إسرائيل قد يكون الطفل سعيد واحدا منهم مادام البلد الذي ينتمي إليه غير محدد في
النص "حظ سعيد" ). و الملفت في هذه القصة وميض التي تمتد على صفحتين و
نصف التكرار لوصف الإسرائيليين بالقردة
و الخنازير 6 مرات على نحو يوحي بأن لتكرار الكلام أثراً سحريّاً من شانه أن يؤدي إلى هزيمة العدو الصهيوني.
و الخنازير 6 مرات على نحو يوحي بأن لتكرار الكلام أثراً سحريّاً من شانه أن يؤدي إلى هزيمة العدو الصهيوني.
كما يتجلى مأزق هذه الرؤية في قصة الشيخ
قارون التي تقوم على التوازي بين الشيخ الخطيب و قارون. بيد أن القصة اصطدمت
بالأفق المسدود لهذه المقارنة فقارون خسف الله به الأرض عقابا له على تكبره و بطره
و بغيه، فهل سيخسف الله الأرض بالشيخ الذي يدعو الناس للزهد بينما هو يرفل في
النعم. لذلك سيكتفي الراوي بالدعوة إلى
اجتناب الحسد و الالتزام بتقوى الله دون أن يبلغ به ما لاحظه من نفاق في خطبة
الشيخ حد الدعاء عليه بالثبور و الخسران.
بركان
في: 07/06/2012
إنجاز: الجيلالي عشي
شكراً جزيلاً للأستاذ المبدع الجيلالي عشي على إذنه بنشر هذه القراءة الجادة على البستان الشرقي
RépondreSupprimerوانا أيضا أشكر الأستاذ الجيلالي عشي على هذه القراءة الواعية
RépondreSupprimerمع عميق المحبة والتقدير
أحمد بلكاسم