قراءة
في المجموعـة القصصيـة "نزيل في التراب"
لمؤلفهـا :
مصطفى لمودن.
حين يستطيع القارئ أن يقيم ألفـة ما، حميمـة وغير
مصطنعـة، مع عمل إبداعي ( نزيل في التراب بالنسبة لحالتنا ) يكون الكاتب قد نجح
فعلا في جذبـه إلى عالمـه ورؤاه وسلب لبه بقصصه وحكاياه. وفي غمرة انتشائـه بسحر
القصص والحكايا، يكون القارئ أيضا قد انخرط في ذلك العالم الخفي، حيث ينسج الكاتب
الأحداث ويرسم الشخوص، ويقيم بناء المعمار السردي لبنة لبنة، من عبارات وجمل
بهيجـة متألقـة.
في غمرة انتشائـه ذاك بسحر الحكايـة، يجد القارئ نفسـه
متعاطفا مع الشخوص، متأثرا بالأحداث، متفاعلا مع المواقف.. فقد استطاع الكاتب
إثارة اهتمامـه، وإيقاظ همتـه للانشغال ببعض قضايا الناس والمجتمع، وهذه واحدة من
المهام التي لا يزال على الأدب أن يضطلع
بها في مجتمع يصبو للحريـة والكرامـة وإن كان لا يزال بعد يحبو نحو عصره
مطأطأ الرأس دامي الركب.
وإذا كانت الأعمال الإبداعيـة التي ترقى إلى هذا الدور،
وتوفق فيه، قليلـة كأعز ما يطلب، فإن نزيل في التراب واحدة منها. فما إن تسلس القياد
لدفق حكاياتها حتى تسلمك إلى عالم مألوف لديك، بفضاءاته وشخوصـه ووقائعـه
وأحداثـه، فالأمكنـة هي نفسها التي يعرفها المغربي ابن البلد، سليل الطين والتراب،
ابن حر الصيف وبرد الشتاء، حارس بيض السمان وأعشاش الحجل، ابن السنابل والمنجل و
ابن الكد والجد وبذل الجهد من أجل خبز الأولاد ودفاترهم. والشخوص / الأبطال هم
أنفسهم، أهلنا وناسنا، جيران وأصدقاء، أو مجرد عابرين لخط الأفق. الأمر الذي يجعلك
تقتنع بأن الكاتب لم يتسلل إلى الواقع
المغربي من الشقوق والأثلام، كما يحصل مع أولئك الذين يرصدون المجتمع من أبراجهم
العاجيـة وبنظارات مستعارة .. الكاتب، عكس هؤلاء، يعرف مغربـه العميق والبسيط
والحقيقي، ويكتب عنه بصدق من يشغلـه حالـه ومآلـه، كما أنه ليس من تلك العينات التي
تقبل على الكتابـة مدججـة بترسانـة من القوالب النقديـة والفنيـة، تريد أن تحشر
الواقع فيها حشرا، فتحجز حركتـه، وتكسر ألقه وتحجر على صوتـه وكلمتـه. ولا هو أيضا
من تلك العينات التي تندلق الهلاوس من
أقلامها فتفيض بما فاضت به مكبوتات الأنفس من الهوس والعقد. الكاتب يستشعر ثقل
مسؤوليـة الانتماء إلى المجتمع، ويعبر عن ذلك بأمانـة، كأحسن ما يكون التعبير
الأدبي عن قضايا المجتمع. بدء بعنوان المجموعـة "نزيل في التراب" إنه
نزيل الحكاية، يحمل هم أهلـه، وينطق بلسانهم كما لو أنهم يكتبون عن أنفسهم وينطقون
بألسنتهم، يجأرون بالشكوى ويحكون الآلام والأحلام، و الخيبات والإخفاقات.. وبعض
الأماني التي يستحيل تحقيقها.
ينحاز الكاتب إلى الفقراء والمظلومين والمحرومين وينحاز
إلى العمال الزراعيين وصغار الفلاحين والموظفين البسطاء انحيازا إيجابيا، لا مكان
فيه للكليشيهات المتوارثة عن زمن"الواقعيـة الاشتراكيـة" ، إذ ليس هم
الكاتب أن يعلن عن موقف أو يرفع شعارا، وليس همه أن يتهم جهـة أو فئـة أو طبقـة ويدافع
عن أخرى، وليس همه أن يدين أو يستنكر أو يحتج أو يشجب تصرفا أو سلوكا، وإنما همه
أن يقدم عملا إبداعيا أصيلا وحقيقيا مستوفيا لجماليـة الإبداع وشروط الأدبية ومبدئيـة
الالتزام والانحياز، إنه يجيد تصريف الرؤى الفكريـة من خلال العمل الإبداعي دون أن
يسقط في المباشرة.
الكاتب لا ينبش أو يفتش في قعر البئر الاجتماعي عن حثالـة
ما يعرض أمراضها وعاهاتها استجداء لرضا صنف من القراء واستدرارا لعطفهم أو
تعاطفهم. كما أنه لا يرفع إلى الأعلى كؤوس أنخاب المرفهين ليتملى بطلعة قشدة
المجتمع أو رغوتـه أو يتسلى بأعطابهم الخاصـة تشفيا وانتقاما، فتلك فقاقيع لا مصير
لها إلا مصير الزبد، ومن حقـه أن يفعل ذلك إذا شاء – وقد يشاء ويقدر – ولكنه يفضل
انسجاما مع اختياراته الأدبيـة والفنيـة أن يكشف للناس ما ينفع الناس، فينطق بلسان
نساء في مهب العواصف والرياح، ورجال متشبثين بالجذور، وبلسان أصحاب الجلابيب
وأصحاب السواعد .. أصل المجتمع وقاعدتـه وطمي أوديته وصهارة بركانه.
وإذا كان الصبح الجميل يبشر بالنهار الجميل، مثلما يحمل
الخطاف تباشير الربيع فكذلك المجموعات
القصصية الجيدة تعرف بمجرد رفرفة أجنحة خطاف قصتها الأولى، فنجد أنفسنا في القصة
الأولى من أعمال المجموعـة أمام نساء يزاحمن الرجال في محطات الحافلات بالمدن
المنسيـة من كل تنميـة، يتصيدون زبونا للمبيت في ضيافـة نساء/بضاعة، نساء يبعن النساء ويتاجرن في
فقرهن، نساء يكسبن لقمـة القوت من عرق الجبين المنزوع الكرامة والفخذ المغسول بماء
المهانة.
يعبر السارد بيت الأجساد وينصرف.
وعليه الآن أن يشهد ويعترف بأن ما يراه هو أيضا وطن. وطن
من أفخاذ تزاحم الأفخاذ ... وفي الخارج تلمع الشهب الاصطناعيـة في سماء حالكـة.
· تقول العجوزـ
في القصة الأولى ـ : "أنتم أولاد اليوم لا تفهمون .. أنا من يعيلني، وهي من
يعيلها ؟ والأخرى ... والأخرى من يطعمها .. والأخرى والأخرى ."
هي حالات / ظواهر .. عينات من واقع اجتماعي.
ثم تتوالى القصص .. يتعاقب الشخوص / الأبطال .. و تأتي
الأحداث تترى مضيئـة في طريق سيرها وسردها الأركان المظلمـة، والزوايا الخفيـة لحيوات
متروكة للنسيان.
شخوص أبطال .. معطوبو حرب طبقيـة مستدامـة،يقاومون
النسيان.
شخوص / أبطال يبحثون عن مخرج بأقل الخسارات، ويفكرون في
الكرامـة وحفظ ماء الوجه قبل أي شيء آخر.
عائشـة الهاربـة من طلاقين إلى معامل النسيج، أحمد
الهارب من كماشـة القروض، طالب امعاشو العائد إلى بيت العز والشرف، البطل الرياضي،
الموطن البسيط، النقابي المتعفف المستنكف عن الصدقـة، المعطي حارس شجرة الأسلاف،
رحمة صاحبة الدجاجات وغيرهم...
أبطال مصطفى لمودن إيجابيون، مكافحون، منفتحون على
الحياة، صامدون في وجه العواصف، يملكون كحد أدنى وعيا جنينيا بأوضاعهم، وكحد أعلى وعيا
مكتملا وناضجا بالمخارج والحلول.
ذلك هو شأن السارد مثلا في القصـة المذكورة آنفا ، إذ يخرج إلى الأفق الحالك لمدينـة بلا
أفق، تتعثر خطاه بين أجساد شبه عاريـة وشعور مسدولـة، وسيقان تلمع .. لقد سقط سهوا
في بيت للدعارة، لكنـه يغادر المكان دون شبهة نزوة، ولا تفكير في انتهاز لذة
محرمـة تزفها إلى غرفتـه العجوز متوسلـة، لقد اكتفى بعرض الحال، واعترف.
وعلى القارئ أن
يفكر ويتأمل الوقعـة، القصـة مرآة للحياة،
مرآة للحقيقـة، ولذلك فهي لا تصف غير ما يقف أمام جهها، بلا تزييف ولا تشويـه ولا
تزوير.. وليس هدف الكاتب أن يصور العاهات ويستدر العطف، وإنما هدفـه أن يشخص
الأعطاب والأمراض، فالجنس في بيوت الدعارة ليس جنسا اختياريا ولا جنسيا طوعيا، إنه
جنس تحت إكراه وذل الحاجـة، إنه ليس فقط فاكهـة محرمـة .. بل هو على الأصح فاكهـة
فاسدة.
لقد كان السارد
إيجابيا في موقفـه من واحدة من أكثر الجراح إيلاما في جسد المدينـة / المجتمع /
الوطن.
قـدم شهادتـه وانصرف.
أما في القصـة الثانيـة من المجموعـة فيجترح الكاتب أسلوبا سرديا يزاوج بين جودة
تقطيع الأحداث وتعاقب المشاهد وحسن توزيع الزمن – ماض/حاضر- ليرسم مسار انعتاق
امرأة وكفاحها من أجل بناء حياة من اختيارها. فعائشـة بطلـة القصـة تهجر بلدتها
مخلفـة وراءها ماضياً أثخنها بالجراح .. وهي البريئـة الغرة الساذجـة لم تكن إلا
صبيـة ممزقـة بين طيبة الأب ورقتـه وتسلط الأم وانتهازيتها، أم اتخذتها سلعـة
وباعتها مرتين.. زيجتان فاشلتان.. عاشت المرأة الفتاة الضحية فريسـة بين مخالب
وأنياب الزوج الأول، ثم عاشت خادمـة في بيت الثاني، انصرف الأول عنها لما أرهقته
الأم بالمطالب، وطلقها الثاني لأنها لم تنجب، فطلقت عائشـة طفولتها وهجرت بلدتها
لتبحث عن أفق جديد لحياتها، يكون هذه المرة من اختيارها وصنعها، في مدينـة تلتهم
الأجساد، مدينـة غابـة بلا نهايـة، ولم تسقط .. لم تختر الطريق السهل، ولم تعرض
لحمها للبيع في دكاكين باعـة اللحوم، ولا في مطاعم أكلتها، لم تدخل المقاهي
الرخيصـة ولا البارات النتنـة .. لم تشمر على فخذيها وإنما شمرت على ذراعها وشرعت في العمل .. قصدت معامل النسيج لتشتغل
..تعمل وتكسب رزقها خير لها من كل شيء ... تحصل على مال من عرق الجبين وتعشق
القراءة والأناقـة.. ولا تحمل في صدرها غلا لماضيها، ولا تفكر في التفريط في
والدتها.
وكذلك الأمر بالنسبـة لطالب معاشو / عامل الموقف، فهو
يعي مأساتـه بكل أبعادها وهو قادر على تشريحها بكامل عناصرها، وبالنسبـة له فقانون
السوق الهمجي كقانون الغاب لا يرحم الضعفاء. وهو مجرد طالب معاشو / يعيش حربه
ويخوض معاركـه التي لا تنتهي مع الرزق
والخبز والمرق، تطارده الضروريات من متطلبات الحياة –الزيت والسكر والدقيق- تقتحم عليه صحوة نهاره وغفوة نومه، وتتحالف ضده
نفقات الطفلين، وفواتير الماء والكهرباء. أيامـه لفحات من صهد الانتظار تشوي اللحم
ويتفصد لها الجسد من العرق، الانتظار في الموقف ولوك الكلام في السياسـة والتعاسـة
والرياضـة، وكل ما يطالـه اللسان من رغبات صغيرة، وأحلام موؤودة مع أشباهـه من
طلاب العيش.
ثم تأتي نساء
لينخرطن في العمل إلى جانب الرجال، ويأتي الشباب المفتولو السواعد، وتضيق المساحـة
على من صار في مثل سنـه ووهن عظامـه. يضطر للصبر على برد لا يرحم، والصبر على السب
والشتم طوال اليوم. فعلى مدار اليوم يمتهن كرامته الجيرا (مسير الضيعـة) مسبوقا وملحوقا
بالشافات الصغار .
الصندوق الحديدي مربوط إلى الظهر، مملوء بعناقيد العنب،
وهو وغيره من الحمالين يفرغون الصناديق في الشاحنات، تبدو العاملات وهن يجنين
العنب كالنمل الصغير منتشرات في الحقول من أجل جمع أكبر قدر من المنتوج ونقلـه
للمعاصر، ليجني صاحب الضيعـة أرباحا لا يصلهم منها شيء.
يعرف طالب معاشو هذا / عامل الموقف، بعد أن انتهى به
المطاف في حقول العنب قادما إليها من أعمال شتى لم تعد تقبل به، بأنه ضحيـة سوق
همجي لا يعترف بالضعفاء ولا يرحمهم، ولذلك
فهو يعود إلى بيتـه المتواضع مساء / يعود إلى حضن أسرتـه، بكامل شرفـه ونخوتـه
وعزتـه.
إنه يعرف.
القصـة إذن تشريح دقيق لواقع العمال الزراعيين في ضيعات الأسياد الجدد. هي قصـة عبيد
العصر الجديد، عبيد السوط والحديد وقيود الضروريات وشروط السوق.
وفي هذا السياق نفسـه الذي يمجد كفاح وصبر وإيجابيـة
الفئات السالفـة، تندرج ثلاث قصص أخرى، تستلهم محنـة الفلاحين الصغار، في مواجهـة
قساوة الطبيعـة، وشظف العيش، وكماشـة القروض، وتواطؤ الإعلام والسلطـة والأعيان،
وتقدم تشريحا آخر، دقيقا وافيـا ومستفيضـا لأحوال الباديـة ومآسي ساكنتها. إنها
على التوالي "عين على المهزلـة" ثم "الثعبان والبيض المسلوق"
ف "الجذور والعاصفـة".
ففي "عين على المهزلـة" يجيد الكاتب صوغ
معاناة الفلاحين الصغار في قالب قصصي شيق، يفضح تحالف "الإعلام والسلطـة
والأعيان" ضد البسطاء الذين تنقصهم الحيلـة وذات اليد، فالإعلام يحابي السلطة
و يمشي في ركابها ، يتقدمها ليقرع الأبـواب ويرفع صوتـه ليصك الآذان بأبواقـه
القديمـة (البراح في الأسواق) ويأخذ بالأنفاس ويبهر العيون بمباخره ومراياه
الحديثـة (الكاميرات). والسلطـة تمالئ الأعيان وتخدمهم، إذ يتم ادعاء تنظيم
مسابقـة في الحرث يحشد لها الجميع، فتولم الولائم، وتبسط الفرش والزرابي، ليكتشف
الفلاحون المساكين بأن الأرض الوحيدة التي تتنعم بالحرث هي أرض كبير الفلاحين، لم
تكن المسابقـة إذا إلا خدمـة مجانيـة يقدمها المسؤولون الكبار للفلاح الكبير تحت
أعين الكاميرا التي تتمسح بأقدام الوفد ككلبـة مطواعـة. مسؤولون مستكبرون يعافون طعام الفقراء ويدوسون زرابيهم
بأحذية متعجرفة .. حينها .. وقد انكشفت الخدعـة .. يتصدى الفلاحون الصغار للمهزلـة،
لا حل غير الرفض والاعتراض، وطرد الوفد والكاميرا التي تمشي في ركابـه.
أما قصـة الثعبان والبيض المسلوق، فتترسم خطى الشقاء
والعوز التي ستقود واحدا من هؤلاء الفلاحين إلى الهجرة من باديتـه الرؤوم، إلى
مجهول المدينـة، بحثا عن كرامـة مفتقدة، له ولأبنائـه. فبين مطرقـة القروض وسندان
متطلبات العيش وقساوة الطبيعـة، لا يبقى للفلاح الصغير من حل غير بيع ما تبقى
يربطـه بالقريـة ومغادرتها، تاركا وراءه مهجتـه وعقلـه، حاملا معه قوة الساعد،
ليرفع بها عمارات جديدة للمستثمرين في هواء الأرض، بعد أن استثمروا في ترابها. ويأوي
هو والأولاد إلى كوخ من قصدير ومتلاشيات يسد بها ثقوب الرئـة والبطن والحياة.
وبدل الهجرة وترك الأرض نهبا لمن يدفع أكثر من المستثمرين
في الإفلاس، يقدم الفلاحون في قصـة "الجذور والعاصفـة" درسا قيما في ثمار التعاون والتضامن، وفي التصدي
للذين يسعون لتطهير الأرض من أهلها
الأصليين، أو في أحسن الأحوال تحويلهم إلى رقيق لسادتها الجدد. لقد قرروا الصمود
في وجه العاصفـة التي اجتاحت قريتهم لتقتلعهم من الجذور .. ومن بينهم تبرز شخصيـة
المعطي، الذي يلهمهم الحل فيلمهم حول شجرة
الأسلاف، ويشترط عليهم عدم اقتلاعها، فهي
رمـز وحدتهم وتحديهم وهي رمز استمرار المكان مزهرا منورا بأهلـه.
هي ثلاث قصص إذن، متكاملـة، حتى وإن كانت كل واحدة منها
تنفرد بموضوعها وأحداثها، ثلاث قصص تقترح كل واحدة منها اختيارا معينا على الفلاحين
الصغار لمواجهـة معيشهم وضمان الاستمرار، فإما خلع جبـة الاستكانة والرضا
بالمهانـة، وهو اختيار القصـة الأولى حين يجعل الفلاحين ينتفضون ضد من يستغل
بساطتهم ويسخر من براءتهم، ويحتجون ضد تسخير الإعلام وتوظيف السلطـة في خدمـة
الأعيان.
وإما حمل ما تبقى من متاع ومغادرة القريـة، وهو الاختيار
الذي تقترحـه القصـة الثانيـة التي تجعل أحمد الفلاح ينهزم أمام ضربات الطبيعـة
المتتالية القسوة وتكالب القروض ومتطلبات الحياة.
وإما التشبث بالجذور وإنشاء تعاونيـة من أجل المحافظـة
على الأرض وحمايـة شجرة الأسلاف، وهو اختيار / اختبار القصـة الثالثة.
والعجيب في هذه الاختيارات / الاختبارات، هو أنها تكشف لنا
عن أن الفلاحين الصغار كلما كانوا مجتمعين
متحدين، انتصروا لكرامتهم ووجدوا حلا لمشاكلهم ..وكلما واجهوا مشاكلهم منفردين،
هزمتهم الظروف واقتلعتهم من جذورهم، ورمت بهم في الآفاق الحالكـة، بعيدا عن مجد
الاستقرار في الأرض والانتفاع بسخائها.
وليس من المهم أو الضروري أن يكون الكاتب قد قصد إلى ذلك
وتعمده، لأن دور القراءة المنصفـة هو أن تكشف عن الخيط الفكري الناظم للنصوص.
ثم إن محاسن هذه التجربـة الإبداعيـة للكاتب مصطفى لمودن
لا تقتصر على إعادة الاعتبار للباديـة وأهلها وناسها ومآسيها – وهو أمر لا تحظى به
البادية إلا في القليل من الكتابات – بل تتخطى ذلك لتخرج بنا من الفضاءات
المألوفـة والسبل المسلوكـة في القول إلى مناح أخرى، تلوح بأيديها من تحت الماء
لكتابـة وتعبير يذهب بالمجاز إلى حدوده القصوى، حيث يشف ويرهف ويخف ، حتى لا يبقى
بينـه وبين الواقع حجاب.
فيفاجئـك بقصص لا يكسو فيها المجاز الواقع إلا لكي يجلوه
أكثر ويكشفـه ويوضحـه. مثلما تكسو قشرة الفضـة كأس الرصاص.
ففي قصـة "الكأس المستنسخـة" يفاجئك الكاتب
بمفارقـة الفضة والرصاص. وهي استعارة جميلـة ونافذة، يفضح من خلالها القيم المبتذلـة
لمجتمع يحتقر مسؤولوه كل طموح وكل نجاح ويستصغرون أبطالهم ويسخرون منهم سخريـة
قاتلـة سوداء. مشرفون ومدربون ومسؤولون يهتمون بالواجهـة، ويعمدون إلى قلب الحقائق
وتزييف الوقائع، بلا حياء ولا خوف، ولا خجل من أن تكون حقيقـة أعمالهم مكشوفـة
للجميع. إنها قصـة فتى رياضي يكتشف ( وهو يستنسخ عند صديق سباك، الكأس التي فاز
بها من أجل أن يحتفظ هو بالأصل ويسلم النسخـة لرئيس الجامعـة الرياضيـة) بأن جميع
الكؤوس مستنسخـة إنها مجرد رصاص مطلي بقشرة الفضـة، لقد طوحت الأيام بالفتى بين
المعطلين فأضرب واعتصم وانتهى به المطاف مصورا صحافيا يغطي الأحداث الرياضيـة،
وذلك ما جعلـه يكتشف هذه الحقيقـة الخطيرة، كل الكؤوس مزورة، مجرد رصاص مطلي
بالفضـة، حتى الكأس التي يحتفظ بها تحت رعايـة جدتـه . والتي اعتقد بأنها أصليـة و
من معدن مختلف عن الرصاص، ليست كأسا حقيقيـة من فضـة.
لا حقيقـة إذن لما يراه الناس، كل صورة جميلـة ليست إلا
قشرة لقالب من القبح والدمامة.. وحلقات الزيف والغش مستمرة بلا نهايـة .. لا بد
من مطرقـة لنقر كل الكؤوس كي تفصح عن معدنها، وكي تسقط قشرة المظاهر التي تخفي
الواقع الفعلي عن أعين الناس.
إذ حين تسقط قشرة الفضـة تظهر حقيقة الرصاص.
ومثلما يفاجئك الكاتب بتقشير رمانـة الواقع، وكشف
التدليس والمكر والخديعـة، وفضح المظاهر الزائفـة من خلال نقر كأس القيم
المستنسخـة، يفاجئك أيضا وهو يفرد أجنحـة الخيال ويحلق فوق نهر واقع آخر أكثر
حضورا في المسارات المختلفـة من حياة الناس، واقع
الأمل والحلم، ومسارات أفراد وجماعات يتشبتون بالأول ويسعون لتحقيق الثاني.
يحلق الكاتب فوق
نهر واقع مختلف ويقرأ على لوح الماء حيرة السؤال فوق شفاه الشهود، ممن حاولوا
عبوره.
أيكون نهر الواقع مجرد وهم في مرآة المجاز؟.
وهل يجب أن نصدق روايات الشهود ؟ وبأيـة روايـة يجب أن
نأخذ ؟ هل حقا تم عبور النهر ؟ ! وأين مضى الذين عبروه ؟ ومن كان يقودهم ؟ وما الفرق بين من كروا و
من فروا، ومن نجوا ومن هلكوا، إذا كانت الحمى تفترس الجميع وتقودهم إلى الهذيان
الذي يجعلهم ينكرون حتى أنفسهم، ولا يعرفون هل حقا كانوا أم لم يكونوا؟ .. وهل
الذين ظنوا بأنهم عبروا قد عبروا فعلا نهر الواقع أم نهر الأوهام؟ وهل لا زالت
رؤوسهم فوق أكتافهم أم تكسرت على الصخرة الوحيدة العتيدة التي تغرس أقدامها بعيدا
في بطن النهر.
هكذا هي قصص مصطفى لمودن ، أو هكذا تبدو لي أنا على الأقل
، وليس ماتناولته منها غير غيض من فيض الحقيقة والخيال والواقعية الجريئة الصريحة
والمجاز القابل لكل تأويل .
إن المجموعة القصصية ـ نزيل في التراب ـ تشهد لصاحبها
بأنه كاتب مقتدر، ينصت لنبض الحياة بقلب الشاعر، وينظر إلى الواقع بعين الباحث
الاجتماعي، كما يمتلك قلمه ما يكفي من الذكاء الإبداعي لحل معادلة التوفيق بين
متطلبات الأدب وشروط الالتزام الاجتماعي.
إن الزمن الحقيقي للقصة لا يبدأ إلا حين ننتهي من
قراءتها.
فهنيئا للكاتب وللقراء بهذه المجموعة.
جمال الدين حريفي
القنيطرة: 14/08/2012
الهوامش :
* الأستاذ
مصطفى لمودن: كاتب ومدون وفاعل جمعوي وحقوقي.
من مواليد مدينة سيدي قاسم.
يكتب القصة والمسرحية والمقالة
الاجتماعية والسياسية.
نشرت له عدة منابر وطنية.
يصدر مدونة سيدي سليمان وله حضور وازن في الكثير
من المواقع الإليكترونية.
*نزيل
في التراب: مجموعة قصصية ، الطبعة الأولى 2011 /لوحة الغلاف من فيضانات 2010بمنطقة
الغرب/ صدرت عن التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع/ مطبعة rabat net maroc
* (ملهاة الفضة مأساة الرصاص) تحوير
لعنوان قصيدة للشاعر الكبير محمود درويش
(مأساة النرجس ملهاة الفضة)
*نزيل
في التراب تضم القصص التالية:
ـ نزيل في التراب /تاء التأنيث
المتحركة: عائشة غير السعيدة / حالة: فاصلة من حياة مواطن/ عين على المهزلة /
لماذا تلوح فقط؟ / تاء التأنيث المتحركة / حيرة / الشباك الآلي / الثعبان والبيض
المسلوق / الكأس المستنسخة / المعروف على الرصيف / الجذور والعاصفة / هروب الحاكم
.
قصص قصيرة جدا ( دجاج أمي رحمة /
الفايس بوك / تكشيطة / حالة صغيرة / المسابقة / الحلزون رجل ـ عفوا حشرة ـ السنة /
متصفح / بطاقة / شظايا / شواظ/ شجن )
شكراً للأخ جمال الدين على هذه القراءة الممتعة، وهنيئاً للمبدع مصطفى بلمودن ... شكراً لكما على حسن ظنكما بمدوّنة البستان الشرقي، وأهلاً وسهلاً
RépondreSupprimer