19/08/2012

المرأة ـ القصيدة في ديوان" لو نبهني الحب" للشاعر الطيب هلو


وأنا أقرأ ديوان شاعرنا الطيب هلو الذي وسمه بعنوان "لو نبهني الحب" أحسست وكأني أدخل حدائق أحلام ورؤى جميلة متلونة بألوان رحلة لمؤنث يمتلك الشاعر وجدانه وذاته الفحولية لتذوب في جسد شبقي مشتهٍ، إذ تعتبر المرأة محور اهتمام شاعرنا، وهي تشكل كل بناء لمعمار قصائده التي يأخذ فيها شاعرنا بناصية الشعر الغزلي الرقيق امتلك فيه هوية المؤنث وأخرجها من حدود أبعادها الجنسية، سواء كانت هذه القصائد حقيقية أو تجربة متخيلة، فما زالت المرأة/الحلم ملهمة للشاعر، شاغلة الحيز الأعظم من وجدانه. وحضور المرأة في قصائد شاعرنا يرتكز على ثنائية المرأة ــ القصيدة، حيث مارس فيها خياله الغني الحافل بالمجازات والصور الآخاذة، معلنا في كثير من قصائده أنه ماض في رحلته الدونجوانية الطويلة إلى أبعد مدى، ليثور على الطلل البالي ويكسر الطابوهات المعهودة في الشعر الغزلي القديم، باعتبار هذا الغزل المحتشم العذري في نظره أصبح متجاوزا (ص 27) وعلى اعتبار أن غزله بالمرأة ينمو وفق منطق داخلي مشحون بالعواطف الجياشة ولأن حياتنا الإلكترونية السيليكونية المكهربة أكثر شحنا للعواطف من شمس التلاع ووهج الصحراء التي كان يعيش فيها قيس وبالتالي يشكل شعره خصوبة رمزية في الممارسات الإنسانية، يمنحه الإحساس بالتحول واكتشاف الذات من خلال الحب والعشق.
ولعل حقيقة الشعر أو التجربة الشعرية عند الطيب هلو كنسق لا يمكن أن ننظر إليه بمعزل عن الإطار الاجتماعي والثقافي الذي تتبلور معالمه يوما على صدر يوم من خلال تطور السيرورة الشعرية لديه (4 دواوين) ما يشكل رصيدا وتراكما شعريا هاما من خلال التطور التكنولوجي (الإنترنيت) وهذا الفيض من المعلومات المختلفة ومنها الشعر على وجه الخصوص..
كل ذلك أتاح لشاعرنا ذلك التفاعل مع المرأة وذلك الفيض من المشاعر والشوق الشبقي إلى الأنثى الذي ينسكب عبر قصائده الجميلة، هروبا من المباشرية لينسج مكانه عالما آخر يختبئ فيه وراء صور شعرية فنية أنيقة، ووراء رداء الشوق ولوعة البعد ومناجاة من يحب. فإن كان لامرئ القيس فاطمته ولطرفة خولته وانزار قباني بلقيسه، فإن شاعرنا الطيب هلو لا يبوح باسمها ولا يفرد إحدى بنات حواء بالعشق والحب، ولكن تسكن وجدانه امرأة مجهولة المعالم، نساء في واحدة يجري وراءها إى أبعد مدى، وتظل روحه عطشى إليها، وكلما زاد لهيب الشوق للحبيب، شع الشعر وانسابت قصائده الغرامية حبرا يدمي أوراقه في مملكة الهوى، وما نسجله كملاحظة هامة في ديوان "لو نبهني الحب" أن الشاعر الطيب هلو يريد أن يكسر رتابة الصورة المعهودة في الشعر الغزلي العربي المليء بالآهات وأنات البعد وبالوقوف على الأطلال، ربما ليرسم لنفسه مذهبا غزليا مميزا ويشق طريقا غير الطريق التي شقها من سبقوه من العذريين الأقدمين، وهذا ما ستحدثنا عنه دواوينه المقبلة. ربما ! ربما قصائد أكثر إيروتيكية مادام تسونامي الإعلام والأنترنيت الأنثوي المفاتني يجرف أعيننا وآذاننا بالذي يجوز والذي لا يجوز (ص25)
والشاعر أيضا ريشة في يد الشعور الذي يعتمل في عمقه الإنساني فيرسم ألوانا وعبارات من ذلته المفعمة بغزل فياض يحيى فيه مع المرأة الحبيبة متحررا من قيود المكان والزمان ليعيش لذته الغامرة ولحظته الشبوق، وليس غريبا أن يتعرض كل شاعر للنقد حين يتناول موضوع المرأة في مجتمع عربي يعتبر فيه الشعر من المقدسات. وإذا كان شاعرنا يثور على الغزل العذري القديم محاربا الأطلال والخيمة، كافرا بالقيود المكبلة له، فإنه هو نفسه لا يجرؤ على الاختراق، فقصائده ما زالت لم تخرج عن عباءة التلميح إلى غلالة التصريح، فإن اخترق احترق. وحبيبته لا تحمل اسما غير للاّ أو ياء المخاطبة أو كاف الخطاب أو نداأت: يا امرأة ـ يا غرامي... تنم عن حلم جميل يعيش الشاعر أحداثه ولا يحب هو أن نوقظه منه، وهذا ما نستنتجه من خلال العنوان، ف(لو) أداة امتناع الشرط، وهذا الامتناع هو سر البوح بمكنون الشاعر، وإنه لم يصدّر عنوانه ب(إن) أو (إذا) مثلا، لأن (لو) تفتح أمام الشاعر متاهات من الخيال البهي ليركب أجنحة الرؤى من خلال نفسه الظامئة للعشق، وهو يطارد وهما أو خيط دخان. والخوض في غمار الحب عنده مغامرة لا تنتهي أحداثها العاطفية، ويستحيل أن تنتهي مادام أنه لم يدرك ولم يحقق بغيته، فإن استفاق شاعرنا وانتبه من غفوته وأحلامه ووصل إلى ما يريد كف عن التغريد وعلى حد قول جبران في مواكبه:
لا يسعد الناس إلا في تشوقهم إلى النبع فإن صاروا به فتروا
وما السعادة في الدنيا سوى شبح يرجى فإن صار جسما مله البشر
يقول شاعرنا الطيب هلو (ص 10)
لو نبهني الحب أني سأعود لعشقك ثانية
ألقيت مفاتيحي ....
وهل كان الطيب هلو غافلا فعلا حتى ينبهه الحب؟ وأي افتتان أشد من العشق" وأي حمى أشد حرارة من القصيدة حين تزورك ليلا
تغازل حماك .. بلا خجل
تغضب منك حبيبتك السكرى بأنوثتها
تسحب من بنك القلب رصيد محبتها (ص37)
ونخلص إلى أن تجربة شاعرنا الطيب هلو مهما كبرت أو صغرت فهي تجربة إنسانية، بل هي تجربة العالم كله، وضرب من الخطأ حين نعتبر تجربة الشاعر جزئية أو ذاتية، أو من برزخ آخر. فالشاعر جزء من مجتمع وتاريخ وموروثات ثقافية نفسية. فكل كلمة يكتبها على قرطاسه نظنها صغيرة أحيانا، تأخذ حجم الكون كله. ولذلك فخصوصيات الشاعر بمجرد اصطدامها بالورق تتعدى ذاتها لتصبح فضيحة يقرأها العالم، وحتى في حالة العشق الشخصي يكون الشاعر أكثر كونية. فشاعرنا إذن قد شق طريقة نحو الغزل كما يؤكد الشاعر نزار قباني في حوار صحفي قائلا:" النوم في عيون النساء أكثر طمأنينة من النوم بين الأسلاك الشائكة (...) وأنا شاعر يرفض أن يلعب لعبة الحب خلف الكواليس، لذلك نقلت سريري إلى الهواء الطلق، وتجارة العطر أربح من تجارة الخل، والفرق بين القصيدة قبل وبعد انتقالها إلى الورق هو الفرق بين القبلة والشفة، وبين الطعنة والخنجر، بين السكر والنبيذ."
ومن أهم الملاحظات التي نسجلها في هذا الديوان:
1 ـ التداخل بين المرأة والقصيدة في بناء قصائده جلها، إن لم نقل كلها: ومن أمثلتها
ـ إني تركت على سرير قصيدتي/ وجع الكمان وعطر قافية مضت/ تنساب مثل حرير غانية (ص16)
ـ إني رأيتك في مرايا الحبر ... (ص15)

ـ فارحل عن خرير مياهنا واترك قصيدك وحده (ص18)
2 ـ توظيف الموروث الشعري توظيفا جميلا في قصائده:
قصيدة " ماذا لو أهديتك ذاكرة المتنبي؟" نموذجا في أسلوب جذاب شيق، إضافة إلى قصيدة " تعويذة العاشق الأندلسي"التي يسترجع فيها حضارة العرب في الاندلس وعلاقة ابن زيدون بولادة لينفخ فيها من روحه الشاعرية الماتحة منروح العصر .
3 ـ اقتباسه من شعراء مثل نزار قباني في قارئة الفنجان (خيوط دخان) وأمل دنقل في قصيدته المعروفة "لا تصالح" (ص49) في قوله:
أمل ينوح على دواوين الهزيمة ..لا تصالح ..
4 ـ توظيف النص القرآني: ولا يفلح الساحر حيث أتى" وتحويره في قوله: لا يفلح الشاعر حيث أتى.
5 ـ توظيف لغة العصر التكنولوجية (الفيسبوك ـ سأغلق هذا البريد ـ عاشقة إلكترونية)..
حينما قرأت الديوان ثلاث مرات تصورت صديقي الشاعر الطيب هلو معانقا امرأة جميلة يحلم بها، لم يدر ما طيب العناق على الهوى حتى ترفق ساعده الأيمن فطواها، وبيسراه قصيدته ولو خيروه بين القصيدة والمرأة ماذا كان سيختار؟ سيحتار بين الماء والنار. فللقصيدة كما للمرأة جمالها وقلبها وإحساسها وعطرها في لغتها وصورها وبلاغتها التي تزين جسدها وتصنع جمالها ونضارتها وألقها، وتذكي عواطفها، وهكذا يتبلور هذا التداخل والتمازج في نغم جميل ....وانسجام عجيب بين عطر الحرف وعطر المرأة، جمال الصورة وجمال الحلم بالوصل، جاءت قصائده تنساب دفقاتها شلالات من الأحاسيس الإنسانية الكامنة في وجدانه سمفونية مبهرة مستلهمة من وجع الكمان (قصيدة تجليات في مرايا الحبر)..
فإن كان الشاعر الكبير نزار قباني مؤسس جمهورية المرأة في الشعر الحديث، فلم لا يكون لهذه الجمهورية مجدد أو مؤسس آخر؟ شاعرنا سماها مملكة وهو مصر على حماية سرها(قصيدة سأحمي سر مملكتي ص 33) وإني لأرى مقومات الغزل عنده يمتلك ناصيتها، وشعره لغة ومفرداتها في عيني المرأة رسائل، وكل رسالة حروفها في القلب لا تجف محابرها، يعتصر القصيدة في زجاجة من المجاز الجميل الأنيق، وأبجديتها بحار لا سواحل لها ولا مرافئ ولا بدايات ولا نهايات، يتجلى جمالها عبر مرايا حبر يرتاب من قلق السحاب، يكتب تعويذة عاشق أندلسي يحمي بأحلامه سر مملكته الحالمة، يحفظ ذاكرة المعلم المتنبي، ينهل من محابر وجدانه الذائب في الحرف مكسرا مخالب الصمت ليصدح بحب امرأة حتى انتهاء الرؤى حيث عنب الهوى/ القصيد لا ينازعه أحد كأسه التي صنع نبيذها بيده، من عنبه الخاص، وسيبقى شريدا كما يطيب له، مصوبا أخطاءه في تقويم الحب، مدافعا عن المرأة الضحية عبر " أوراق جثة في حرب الجسد" رافضا وكافرا بأصنام وقيود الماضي، مترقبا بريد عاشقة إلكترونية ليعتصر حبر أقلامه في حاسوبه.
كل هذه القصائد الإثنتين والعشرين صاغها شاعرنا في أساليب بلاغية جميلة لا تغرق في الغموض، مستعملا استعارات وكنايات موظفا لغته الرصينة والأنيقة في إخراج الصورة ذات ألوان وإيحاأت تنضح عاطفة، وكأن قصائده عرائس ترقص على إيقاع الخليل في حلل بديعة.
بوركت شاعرنا وأقول في الختام إذا كان الساحر لا يفلح حيث أتى فربما يفلح الشاعر حيث أتى، عكس ما قلتَ ...وسنسألك أيها الشاعر الطيب عن ديوان جديد قائلين: متى؟ متى؟ وستجيب أنت: هذا ديوان جديد قد أتى. وسنحتفي بتوقيعه مرة أخرى وأدعو الحضور الكريم إلى قراءة الديوان، سيجدون فيه متعة القصيدة المعطرة بعاطفة الحب، الناعمة كحرير النساء، الممتعة كالحلم الجميل. إنها متعة ما بعدها متعة


عبد العزيز أبو شيار

بركان : 08 غشت 2012

ذ. عبد العزيز أبو شيار، بعدسة حميد عوّاج


1 commentaire:

  1. شكراً للصديقين الشاعرين عبد العزيز أبو شيار والطيب هلّو على وفائهما للبستان ... دمتما شجرتي إبداع نضرتين

    RépondreSupprimer