“ كان يتطلع لريـاح المحيط، علها تشي له ببعض حرائقهـا عندمـا ألقـت بعـود ثقـاب في حصـاده، وقـالت أعمـدة الدخـان :
-
)
كان أجمـل يوم، يـوم رحيلك ... على وقع خطواتـك التي كانت تبتعـد، ولدت
امرأة أخـرى( “
الكاتبـة المغربيـة المتميـزة : “مريـم التيجي"
وقف عنـد العتبـة، ولم يجرؤ
على طرق الباب، لأنـه يعرف بأنهـا بمجـرد وقـوفـه ستفتح الباب وكأنها كانت تنتظره،
وهو يخشى أن يمـد يده لطرق الباب فيجد نفسـه يطرق بيده على صدرهـا. هل ستفتح له صدرهـا إن حصل ذلك ؟ هل ستدخلـه غرفـة
القلب .. وتجلسـه إلى جانبهـا أمام موقـد الذكريـات ليتسليـا معا بتأمل سحائب
الدخـان تعلـو بلطف ثم تتسلل خارجـة من شـق النافـذة كخيبات قديمـة تتسلل هاربـة من شقـوق الذاكرة.
فتحت الباب كعادتهـا وتوسطتـه
واقفـة بقامتهـا القصيرة الفاتنـة، ثم أفردت ذراعيهـا كجناحيـن واضعـة يدا على
اليمين والأخرى على الشمال من دفة الباب، صنعت بذلك ما يشبـه القوسيـن فقال لنفسـه
: "هـذان قوسـا نصر أو بوابتان، واحدة
للشك، والأخـرى لليقيـن. أو أنهـا تختبرني
بلغز، فـإن دخلت من جهـة الشك نجوت وإن دخلت مـن الأخرى انشقت الأرض تحتي وخرجت
منها ألسنـة اللهب ". جمع عزمـه وانحنى كبطل عائد من الحرب ليدخل من تحت قوس النصر، مـر
من تحت ذراعهـا جهـة اليميـن، وحيـن رفع رأسـه تخيل الهتـاف والتصفيق وتخيل
المناديل تلـوح له. أغمض عينيـه منتشيـا بلذة النصر ودخـل.
قصـد المطبخ مباشرة كعادتـه
حيـن يدخـل بيتهـا ... - هو ينحني دائما
ليمـر من تحت ذراعهـا لأن قامتهـا قصيرة، قصيرة وجميلـة، وهـو البطل المجيد ، يعـود من الحرب ليمر تحت قوس النصر،
وتعجبـه الأوهـام الجميلـة.
بعيدا عن بيتها يبدو له العالم موحشـا ومرعبـا
بجبالـه وبحاره وسهولـه وموحشـا مرعبـا كخلاء ليس فيه غير الصخب القاتل للصمت .
في بيتهـا سهـول وجبال وبحار
لم يمش فيـه ولا تأملهـا أحـد. لذلك فهو يعـود بعد كل اشتباك غادر مع غيم الحياة ليستريح في بيتهـا، ولينصت لوجيب القلب .. لأنـه ككل الحالميـن تعجبـه
الأوهـام الجميلـة حين تخفي وراء أهـداب عينيهـا أحلام الذين ماتـوا في الحروب
الخاسرة.-
في المطبخ وضع الصينيـة على
المنضدة ، ووقف قليلا ليعد لهما بـراد الشـاي . كانت يـده تمتد إلى الأشيـاء
وتلتقطهـا من الرفـوف حتى دون أن يفكر في
موضعها ، كأعمى اعتـاد المكان وما عـاد في
حاجـة ليبصر كي يتعرف على مواضع الأشيـاء.
وضع البراد على الصينيـة، ثم
وضع كأسا على يمينـه وكأسا على شمالـه، رفع الصينيـة بيد واحدة وتوجـه إلى الصالـون
الصغيـر.. وضعها على المائدة الزجاجيـة، خلع حذاءه وجواربه ثم جلس على "اللحاف"
، ومـد قدميـه فوق "الطنفسـة" الحمراء الأثيـرة لديـه..
تأمل المكان مـن جديد .. على الجهتيـن
مـن مجلسـه "لحافان" آخران، - تساءل
دون أن ينتظر الجواب عن السبب الذي جعلهـا تستبدل الأرائك الثلاث الجميلـة ب
"ألحفـة" ثم تساءل عـن السبب الذي جعلهـا تغير وضع الأثاث في الصالـون
الصغيـر.- "اللحاف" الذي يجلس
عليه الآن يقابل النافذة، وعلى يساره لا
يزال "الموقد" في مكانـه .. الموقد نفسه الذي كانت ترمي إلى ناره ما
شاءت من خيبـات لم تعـد تحتاجهـا .. مر وقت طويل منذ ذاك، ولعلهـا الآن قد ندمت على إحراق ذكرياتها .. أو
لعلها فقط سعيدة .. تجري في أرجاء البيت ، وليست تحمل على كتفيها أثقال الذكريات،
فأحيانا تعوق الذكريات حركتنا وتجعلنا غير قادرين على التقدم إلى حيث نشاء ..
الذكريات كالحبال، تقيد الأقدام وتغل الأعناق ، الذكريات تقتل الأمل و تغتال
الحرية.
أدرك بأنه يجلس في المكان نفسه
الذي كانت تجلس فيه .. بفارق واحد فقط، فالموقد الآن صار على يسار الجلسة ، وبدله توجد نافذة مشرعـة على سماء
رائعـة. لم يتغير موضع الموقد، ولكنها
غيرت موضع الأثاث..
هو يشعر بها تجوب أرجاء البيت
ذهـابـا وإيـابـا بخطاهـا الرشيقـة .. ويحس بحفيف ثوبهـا وهي تنتقل من غرفـة إلى
غرفـة .
لعلهـا سعيدة بوجوده معهـا .
لم تعد تجلس إلى جانبـه أو أمامـه .. يحس فقط
بوجودهـا وراء كتفيـه .. تتأمل حركـة يده البطيئـة وهو يحمل كأس الشاي إلى شفتيـه،
أو، وهو يضع كتابا آخر على ركبتيـه ويستغرق في فك أحجيات حروف مـن غريب اللغـة.
كانت دائما تسألـه عن نوع تلك
الكتب التي يقـرأ ومن أيـن يأتي بها. ولم يجبهـا أبدا عن سؤالهـا.
يحس بوجودهـا وراء كتفيـه حتى
وإن لم تكن بالبيت. فقد اعتادت أن تفتح له الباب وتتركـه يختار القوس الذي يدخل منه ، فيتسلل من تحت ذراعهـا إلى البيت، ثم تغلق الباب عليـه
وتنصرف إلى عالمها الخاص.. عالمها الآخر، الذي لم يكن له علم بوجوده.
سيكتشف ذلك بعد سنوات ليتضاعف
رعبـه وخوفـه عليها ، سيكتشف بأنهـا بقدر ما كانت له لم تكن معـه، وأنهـا كانت
تترك طيفهـا فقط بالبيت وتنصرف إلى عالمها الخاص ، والذي لم يكن له علم به، أو
برعبـه. رعب مختلف عن ذلك الذي جعلـه يحتمي ببيتهـا.
بعد سنوات سيكتشف غموضهـا
وتناقضهـا، وأنها بشراسة النمور ورهافة الحرير ،حين تشاء، ولكنـه الآن مستغرق في
احتساء شـايه وفي استرجاع ذكرياتـه معهـا، حتى وهو لا يستطيع أن يتذكر متى كان
اللقاء الأول، ومتى افترقا بعده زمنـا
أطول من زمـن اللقاء، ثم كيف عادا
فالتقيـا مـن جديد . فقد هاتفتـه فجأة قائلـة :
ـ "تعـال ...
أريـدك"
أعطتـه عنـوان بيتهـا، واستقبلتـه عند الباب. قبل أن يمد يده ليطرقـه، كانت
تستوي واقفـة في وسطـه بقامتهـا القصيرة والجميلـة، وتفرد ذراعيهـا لتجعل منهما قوسيـن صغيريـن،
واحد على اليميـن وواحـد على اليسـار.
نظرت إليـه وقالت :
ـ "أدخل ... مـن حيث تشـاء .. . لكن احذر
موضع الجرح "
لم يفهم .
فانحنى ودخل من تحت ذراعهـا الأيمـن، وهو يشعر بأن جسده سيخونـه ، فينهـار
عند قدميهـا. أغلقـت البـاب ، ربتت بلطف على ظهره، فسرت في جسمـه رعشـة خفيفـة.
قادتـه إلى الصالـون الصغير ، أجلستـه على الأريكـة المقابلـة للموقـد ـ لم تكن
قـد غيرت الأثاث بعـد ـ وقفت أمامـه. انحنت عليـه قليلا . انسدل شعرهـا فغطى كامل وجههـا . رمـت شعرهـا إلى الوراء فأشـرق الوجـه مـن
جديد كشمس العاشقين ، جلست على يمينـه ، جلست على يساره ، كأنها حائرة لا تعرف ما تفعل بجسمها فرحا بوجوده ببيتها .. أو لعلها تتحداه
بأنوثتهـا الصغيرة الصارخـة.
لم يقدر على رفع عينيـه إليها.
هي دائما كلما اقتربت منه
غمرتـه صورتهـا دفعـة واحدة، أنفاسهـا تأتيـه كزخـات متلاحقـة من مطر الشهوة وهو
لا يستطيع ردهـا أو الارتواء منها ، تظل الأنفاس
ككأس معلقـة بينهما ، ولا أحـد منهما يستطيع الارتشاف..
كأس واحدة ....لفميـن، وامرأة
محرمـة.
يشعـر بخدر غريب وبنشوة هادرة تغزوه وتغمره ، تعلوه، تغطيـه أمواج بحرها
وتسحبـه إلى الأعماق حيث تتساوى القطرة الواحدة وكل محيطـات الدنيـا، و هو غارق في قطـر أنفاسهـا، غارق في قطرة
القلب والأعمـاق .. ضئيل صغير .. ضئيل صغير ..
لا شيء ..
يحاول أن يفيق ولا يستطيع، ولا يعرف هل سألتـه عن شيء وهل أجـاب ، ولا يعرف
هل انتبهت إلى ما هو فيه من ارتباك ..
كان ذلك قبل سنوات ..
جاء إلى بيتهـا هربا من عالمـه الموحش، فأغلقت عليه باب البيت وهربت إلى
عالمهـا الذي لم يكن يعلم عنـه شيئـا.
هـاتفتـه قائلـة :
ـ "تعال ...
أريدك"
فجاءهـا مغمض العينيـن، دخل من
اليمين ، من تحت قوس ذراعهـا .. قصد
المطبخ مباشرة، أعـد الصينيـة ، وضع
عليهـا البراد والكأسيـن، حمل شايه إلى الصالون الصغير وتمدد على
"اللحاف" المقابل للنافـذة .. ـ كانت قد أزالت الأريكـة وغيرت مواضع الأثـاث
ـ
هي هنا إذن تسكـن.. نظر إلى المكان .. مسحـه بعينيـه،
ومثلمـا ملأ رئتيـه من صوتهـا وصورتها وكل ذرة هـواء تتنفسها .. ملأ رئتيـه أيضا
من كل زاويـة أو لون أو ركن بالبيت ، كما
لو أنه يريد أن يشم ويحس ويلمس ويمتلئ عن آخره بكل شيء لها في هذا المكان .. حتى
الكلام الذي لعلها قالتـه بالأمس أو قبل الأمس ها هنا، يريد أن يمتلكـه، يريد أن
يمتلئ به، قبل أن ينصرف..
أخافتـه أفكاره ..
هل إلى هـذا الحد يريدهـا .. ؟
يريد أن يمتلئ بها حتى لا يصير لها وجود خارجـه .. فهو مسكنهـا الحقيقي ..
أفاق من انشغالـه الغريب بها .
أهي المرة الأولى أم المرة
المائـة التي يوجد فيها ببيتهـا..؟ فلماذا اذا لا يرى شيئا على مائدة الزجاج ؟
ـ أتريـد شـايـا .. عصيرا .. أم
قهـوة ؟
فاجأه السؤال
:
تأكـد له بأنهـا لا تعرف كل عاداتـه .. شعر ببعض الاطمئنان .. فالإنسان
دائما يخاف من كل من يعرف عاداته .. ثم على الأقل سيجيبها بشيء لا تتوقعـه .. كاد
يقول :
ـ "ما هو موجود .. لا تتعبي نفسك ، لست غريبا .. "
ـ "كل ما تريده موجود ... أطلب .. "
لم يرقـه أن تكون أول الكلمات بينهما بعد الفراق الطويل باردة .. وجافـة ..
وهل حقـا، وهي تقف أمامه ، وتجلس على يمينه وعلى شماله.. هل حقا لا يزال
قادرا على التفكير في طلب ما يشربه؟! أليست هي المطلوب والمشروب؟ .
لم يعد قادرا على التفكير في شراب سيزداد عطشه لو شربه.
حسم الأمر قائلا:
ـ شاي.
قالت:
ـ فقط ؟
قال:
ـ فقط
انصرفت إلى المطبخ ثم نادته.
ـ تعال.
وضعت أمامه علبة السكر وعلبة الشاي، وضعت الماء في الإبريق ووضعت الإبريق
على النار، وضعت على المنضدة صينية صغيرة مزينة بنقوش لأزهارَ وطواويسَ وطيور الماء.
وضعت برادا جميلا على الصينية وكأسين من البلار الخالص.. ثم قالت:
ـ علمني كيف تصنع الشاي. أحب أن أشربه معك. أحب أن أشربه من يدك.
منذ ذاك.. صار يمر من تحت قوس ذراعها ويقصد المطبخ مباشرة يعد الشاي ثم
يحمل الصينية ويضعها على المائدة في الصالون الصغير ويتمدد على "اللحاف"
ينظر إلى الأفق البعيد عبر النافذة التي تقابل مجلسه.
عبر النافذة يرى بحر السماء.. وحين يمد يده ليشد على أطراف
"اللحاف" يجد أطراف الصخرة ملساء "كاللحاف".
يعيد التحديق عبر النافدة فيرى أمواج البحر حمراء كالحطب المشتعل وأعمدة
الدخان تصعد منها مستقيمة كسواري البنايات العالية.. ويشعر بحر غير معتاد وبريح كالجمر تلفح وجهه.. فيشد
من جديد على أطراف الصخرة ويسأل نفسه:
ـ منذ متى وأنا أجلس على هذه
الصخرة لأتأمل البحر.؟ ثم يسأل نفسه:
ـ منذ متى وملح البحر مشتعل وأمواجه كالحطب؟
ـ ومنذ متى يا رياح المحيطات صارت لحرائقك ألسنة من لهب؟ وأعمدة
تخرق قبة السماء ؟
يتوقف السؤال
في حنجرته.
وهذا البحر قد كان مرعى للأيائل الشاردة .
يتوقف السؤال في حنجرته.
فيجلس على صخرة الألم وينظر مشدوها إلى بحر اللغة
.
منذ أمرته بالرحيل عن بيتها جعل من
الصخرة مجلسا ومن الريح أنيسا ومن نار المحيطات أفقا لتفكير جديد.
أحيانا يحسب نفسه جالسا على "اللحاف" يرشف شايه ، ويطل من النافذة
على بحر السماء ، فلا يكاد يطمئن إلى ذلك حتى يشتعل ماء البحر نارا ، وتصعد أعمدة الدخان إلى
الأعلى فيشد بيده على طرفي "اللحاف" فيجدها صلبة وباردة لأنها أطراف صخرة وليست
أطراف " لحاف ".
ينظر مشدوها إلى ألسنة اللهب وأعمدة الدخان، يشعر بصهد الريح يلفح وجهه،
ولا يفهم كيف تكون الصخرة باردة كالصقيع
الجارح، على رأس هذا الموج الملتهب.
يحاول أن يخترق بنظره حجب الدخان واللهب ليرى
من ورائها بيت المرأة التي أسعدها رحيله.. فلا هو فوق "اللحاف" ولا هو
على الصخرة.. ينظر إلى السماء فيرى البحر
وينظـر إلى الماء فيرى النار وأعمدة الدخان.
يخاطبها قائلا ـ وهو يعلم بأن صوتـه لن
يصلهـا حتى وإن كانت تطل من وراء كتفيـه على الحروف الغريبـة عن لغـة الكلام.
ـ حتما ستأتيـن ... يقـول :
ـ حتما ستلحقين بي وتجلسين إلى
جانبي على صخرة الألم.
ـ سترفعيـن على كتفيـك النحيلتيـن
بيضـة الحياة، وتصعديـن جبال كل الأوهـام
البشريـة، صخرة، صخرة، حتى أعلى كل جبل.
تصعديـن كل جبال الأوهام واحدا واحدا حتى لا صخر بعد ، ولا بحر غير صخرة واحدة، هي صخرة اليأس العظيم.. فتجلسين إلى جانبي على صخرة يأسك .. أنت وحيدة
وأنا وحيد .. فتكون الصخرة باردة كالصقيع الجارح ويكون البحر مشتعلا كالسعير،
وأعمدة الدخان تصعد من موجـه إلى الأعلى بجلجلة وصليل لا يطاق.
فالآن فاصعدي الصخر .. تعالي.
اصعديـه
صخرة .. صخرة .. وتعالي.
ارفعي
بيديك بيضـة الحياة .. ارفعيها عاليـا وتعالي ..
و لا تنظري وراءك .. فإن تنظري هويت إلى قاع المحيط تكسرت بيضـة الحياة .. اغمضي عينيك وتعالي ..
لا تنظري إلى الأشلاء والعظام .. لا تنظري إلى الدماء
والجثث، لا تنظري إلى الأطراف الممزقـة ..فهاهنا ساق وهاهنا أصابع اليدين ، لا
تنظري إلى الرؤوس المفصولة عن أجسادها ، لا تنظري إلى الأضلاع والركب، لا تنظري
إلى الصدر والكتف ولا إلى الثقوب الغائرة
في الجماجم ولا إلى الأحشاء المتدلية من البطن ، أو ما تبقى للغربان والضباع مفتتا
على الحصى والأحجار من لحم الناس..ولا
تصغي لعويل النائحات في المأتم ولا للأصوات التي تناديك من الأسفل :
"عودي إلى البيت .. عودي إلى البيت فليس في
الأعلى غير الرعب اللا يحتمل".
اصعدي
وتعالي ..ها هنا إلى جانبي تركت لك مكانـا على صخرة الألم .
انظري
مثلي إلى بحر السماء ..
وانظري
مثلي إلى الماء المشتعل.
انظري إلى ألسنـة اللهب وأعمدة الدخان.
أما كنت تعرفين وأنت تنصتين لوقع خطواتي
المبتعدة بأنني ذاهب إلى البحر .. وبأنني ذاهب لأنتظرك على صخرة الحلم .؟
*******
وتلك المرة كان قد اتخذ قراره ..
سيقف بالباب ، وبمجرد أن تفتحـه وتفرد ذراعيها
واضعـة كل يد على جهـة ، وتجعل من جسدها الصغير الأنيق ساريـة لقوسين ، واحد على
اليمين والآخر على اليسار.. سيدخل من جهـة اليسار .. سيمر تحت ذراعهـا بمحاذاة القلب
ويدخل إلى البيت. سيرى ردة فعلهـا وهو يمر بمحاذاة القلب. هل ستغضب ؟ هل ستثـور
؟ !
ثم إنه في الحقيقـة قد تعب .
يأتي، يقف،
يفتح الباب، يدخل المطبخ ،يعـد الشاي ،يتمدد على اللحـاف وينظر عبر النافذة إلى
بحر السمـاء .. وأثنـاء ذلك تكون هي قـد غادرت البيت . تركتـه وحده وانصرفت إلى
عالمها الخاص.
هو لا يريد أن يعرف..
يريدها فقط أن تبقى معه.. تجوب كعادتهـا أرجاء
البيت، وتطل من وراء كتفيه على يده وهي تحمل بهدوء كاس الشاي إلى شفتيه. أو تنظر
إلى حروف اللغـة الغريبة تهرب من صفحات
الكتاب ..
يريدها فقط أن تبقى حتى دون أن تكلمه، أو تقف
وراءه، أو تجلس إلى جانبه.. يريد أن يشعر بوجودها يملأ البيت، وبوقع خطواتها يتردد
في المكان.
لذلك كان قد اتخذ قراره..
سيأتي ليبقى.. لن يغادر البيت، ولن يغلق الباب بعد دخوله ولا بعد خروجها..
سيكون دائما في الداخل ليستقبلها وليفعل كما كانت تفعل.. سيكون دائما في الداخل
ليفتح لها الباب قبل أن تطرقه، ليقف في
الوسط فاردا ذراعيه كجناحيـن، وسينظر إليها وهي تدخل من تحت أي ذراع شاءت ، هكذا
سيضمن على الأقل أن تكون معه بعض الوقت .. لذلك فقد أتى ليبقى ... ولم يأت بيديـن فارغتيـن ..
وضع صندوقـه
الأخضر العتيق عند العتبـة .. وكأنها استبقت نيته وقراره .. فما كاد يستقيم واقفا حتى انفتح الباب عن فرجـة ضيقـة
أطلت منها بقامتها الصغيرة الفاتنـة ..
هي إذن لا
تريد أن يدخل .. فقد غيرت عادتهـا ..
نظر إليها مستغربا فنظرت إليه مستفسرة وهي تشير إلى الصندوق :
ـ ما ذاك !؟
أجاب بعد أن ركع على ركبـة واحدة ورفع غطاء
الصندوق بيد فيمـا أشار باليد الأخرى إليهـا ..
ـ حصـادي ..
نظـرت .. فرأت دفاتر وأوراقـا باهتـة ومـن كل
الأحجام وأوراقا مفردة وأنصاف أوراق و مذكرات عليهـا أشكال و خطـوط وحروف رقيقـة
ودوائر محيرة ورسوم قد لا يفهمهـا غيره ..
أعـادت السؤال :
ـ ما ذاك ؟ فقـال :
ـ أملاكي وضيعاتي .. جناني
وحقولي ومزارعي .. وشرع يحمل الدفتر تلو الدفتر ويقـول قبل أن يعيد كل دفتر إلى مكانه
من الصندوق مزهوا بحصاده وبأملاكه...
ـ هذا نخيل القصائد وهذه عناقيد الحكايـات، هذه كرمـة الروايـة، وهذه بعض عيون القول.. هذا حبق الكلام وتوت النسيان، وهذه سيرة النرجس قطفتهـا لك من حقول صمتي ..
وهذا...
ظلت تنظر إليه وهو يرفع الدفتر تلو الأخر ويواصل :
ـ جئتك بكل هذه .. بكل هذا ..
جئتك بحصادي كله .. فهل ترضيـن !؟
ـ بماذا ؟ قالت .. فقال
ـ بأن أقيـم ها هنا عندك ......
ثم قال مستدركـا ..
ـ بأن أقيم ها هنا معك .. أن
أمر من تحت ذراعك الأيسر بمحاذاة القلب.. أن أخرج من بوابة الشك و أدخل من بوابـة اليقيـن ..
ـ أملاك ..؟ قالت مستغربـة
وكأنهـا لم تسمع كلامـه الأخير.
ـ حقـول وجنان وضيعـات ونخيل وكروم وخيل وصهيل !؟
كل هذا في صندوقك هذا .. الأخضر العتيق. أفق
... أفق أيها المجنون من جنونك.
ـ أملاك !؟ قالت .. ثم قالت ..
ـ انتظر .. انتظر .. ها هنا
لحظـة .
أغلقت الباب .. تركتـه واقفـا أمامـه. و جرت إلى
المطبخ .. أخذت علبـة ثقـاب وعادت أدراجهـا. فتحت الباب من جديد ووقفت في فرجته الضيقـة .. كما فعلت في المرة
الأولى ..
ـ أنظـر .. أنظـر. قالت له .
أشعلت عود ثقـاب ورمتـه في
الصندوق فوق كومـة الأوراق الباهتـة.
فغر فاه .. نظر إليها مذهـولا
من هول ما صنعت.. ثم نظر إلى الصندوق ، رأى ألسنـة لهب قزحي شفيف تصعـد من الصندوق .. ثم رأى الأوراق تتضاءل
.. تتلاشى وتتحول إلى مجرد رمـاد.
خمدت النار سريعا كما اشتعلت ، فنار
الكتابـة ليست كنار الحطـب ولا هي كنار
الماء حين يشتعل الموج في بحر السماء.
عاد ينظر إليها ، فإذا بها تمـد يدهـا وتشير
بأصبعهـا إلى الأفق البعيـد قائلـة :
ـ ارحل الآن .. ارحل أيهـا
المجنـون، خذ رماد قصائدك وخذ حصاد
خيبـاتك معك .. ارحل ولا تعـد أبدا إلى هذا البيت، فمـن يريدني لا يدخل أبدا من
جهـة القلب.
لم يصدق ما حصل ..استدار في مكانـه .. نظر
طويلا إلى حيث أشـارت بأصبعهـا، طأطأ رأسـه، ثم مضى يجر وراءه الصدى الخافت لإيقاع
خطواته وهو يبتعد .. بعيدا .. بعيدا عن بيتهـا .
******
لو كانت المرأة انتظرت قليلا لعرفت بأنـه لم
يرحـل.
ففي الوقت نفسـه الذي ظنت فيه
بأنهـا لم تعد تسمع وقع خطواته واستدارت لتدخل البيت، استدار هو أيضا راجعا إليهـا
.. هو يريدها وهي لا تريده..
استدار فرآهـا ترقص على أصابع
قدميهـا فرحانـة برحيلـه .. رآهـا ترفع ذراعيها إلى الأعلى وتطوح بشعرهـا يمينـا
وشمالا وترفع صوتهـا بأغنيـة لطالما رددت لحنهـا وأنغامهـا في سرهـا ..
ـ ( كان أجمل يوم .. يوم رحيلك
على وقع خطواتك التي كانت تبتعـد
ولدت امرأة أخرى ..
كان أجمل يوم .. يوم رحيلك.
أجمل يوم .. يوم رحيلك....) ـ
راعـه ما تفعلـه .. كل هذه
السعادة، فقط لأنـه ابتعد عنها قليلا .. فكيف ستكون حالهـا لو أنه غادر إلى الأبد
... هو الذي ظل يظن بأنهـا لن تصبر على فراقـه .. وظل يظن بأن مصيريهمـا قد لُحِما بشيء ما نوراني يشد روحهيمـا فيجعلهمـا
روحـا واحدا .. فإذا فكر فهي التي تفكـر ، وإذا انتظر فهي التي تنتظـر، أو إذا بكت
أو غنت، فهو الذي يبكي أويغني ..
ظل يظـن ..
فها قـد خاب ظنـه .
لعلـه لم يعرفهـا على حقيقتهـا.
لعلـه لم يعرفهـا في الحقيقـة
إلا كما تعرف الأطيـاف في الحلم.
كانت مجرد طيف في الحلم.
******
ولو كان الرجل دخل وراءهـا بعد
أن أغلقـت الباب وراءهـا .. لفهم بأنـه قـد أساء تأويل كل حركاتهـا .. ولرأى
بعينيـه غير ما فهـم . كانت فعلا ترقص على أصابع قدميهـا وترفع ذراعيها إلى الأعلى
وتطوح بشعرها كما بدا له .. ولكنها لم تكن تفعل ذلك عن زهـو أو فرح.
كانت تلك طريقتهـا في التعبير
عن الحزن والغضب. عن الحزن القاتل وعن الغضب الذي لا تستطيع أن تكتمـه .. فكلمـا اقترفت فعلا ضد
رغبتهـا .. تتصرف كذلك .. وكلما شعرت بأنها لاتفعل ما تريد .. وأن قوة ما خفيـة
تسيطـر على حركاتهـا وتجعلهـا معدومـة الإرادة، أو تجعل لها إرادة تخالف رغبتهـا
.. تصرفت كذلك ..
نقرت الأرض بأصابع قدميهـا مرة
أخرى في حركـة سريعـة جعلتهـا تبدو كراقصـة، ورفعت ذراعيهـا إلى الأعلى كما لو
أنها تريد أن تخرج من جسمهـا .. وطوحـت بشعرهـا في كل اتجـاه متحيرة في ما تفعلـه
بها تلك القوة الغريبة الغامضة.
تعرف السحر الذي تحدثـه في
نفسهـا برقصهـا، وتستطيع فهم وتفسير أفعالهـا، ولكنها لا تملك أن تتصرف كما تشاء.
هذا قدرهـا. أن تكون مسحورة بنفسهـا .. وأن تكون
الرغبـةَ و ضدها وأن تكون الساحـَر
والمسحـور بنفسـه في الآن نفسـه.
ماذا لو تركتـه يدخل البيت
كعادتـه ؟
ماذا لو مـر من اليسـار بمحاذاة
قلبهـا ؟
أتخاف قلبها !؟
تقـول : هي الآن امرأة أخرى ..
وسعيدة برحيلـه.
تقول : كان أجمل يوم .. يوم
رحيلـه.
رمت بجسدهـا الصغير الفاتن على السرير، ضغطت
بوجهها على الوسادة كما لو كانت تريد كتم أنفاسهـا ..صرخت وهي لا تسمع إلا نفسها
..
أأنا الآن امرأة أخرى ..؟ وماذا
صأصنع بامرأة أخرى بدونه ؟
امرأة أخرى؟
لا قيمـة لامرأة أخرى إلا به.
من سيملأ عينيـه
بي حتى وهو لا يراني، ومن سيراني أبهى من كل نساء الدنيا. من سيغمض عينيـه خجلا من
أن يراني انظر إلى عينيـه. لأنه يعرف بأنني ملء عينيـه.
امرأة أخرى ؟!! ما أغباني .
قلت له أريد أن أتحرر منك. ومن سجن عينيك..
ما ذا سأصنع في هذا العالم الموحش بحريتي الخرساء؟
*****
حيـن استدار راجعا إليهـا ...
يريدهـا.
كانت قـد أغلقت الباب على سرهـا.
*****
وقف قليلا أمام بابها .. لم
يجرأ على طرقـه، فلعلها تفتحـه كما اعتادت أن تفعل .
*****
تذكـر إشارتهـا له بيدهـا ،وقولهـا
: ارحل، فانحنى على صندوقـه الأخضر العتيق .. حضنـه بكلتي يديـه ، واتجـه إلى حيث أشارت.
جلس على الصخرة الباردة كالصقيع الجارح .وضع الصندوق على ركبتيـه. وشرع يذَرِّي رماد النخيل والنرجس والكروم حفنـة
حفنـة فوق موج البحر.
رأى الماء يشتعل من جديد ...
ورأى أعمدة الدخان تصعد مستقيمـة كالسواري إلى بحر السماء .
قال يخاطبهـا :
ـ حتمـا ستأتيـن ..
وحتمـا ستصعديـن كل جبال
الأوهـام صخرة صخرة حتى أعلى كل جبل، وحتمـا ستجلسين على صخرة يأسك وحيدة، وحتمـا ستصرخيـن ولن يسمع صراخك أحـد. ثم ستضعيـن
صندوق أوهامـك الخضراء على ركبتيك، وترمين بها إلى البحر الأحمر الوهاج .. وهما ..
وهما.
*******
وحيـدة تنام على سريـر أوهامهـا
ووحيدا يجلس على صخـرة يأسـه
******
بلا أحــلام
وبلا أمنيــات
*********
تقول :
ـ قد يكفي عود ثقـاب لإشعال الحرائـق في الخيبـات
القديمـة ..
يقول :
ـ وقد تكفي ارتعاشـة اليـد لتنكسر بيضـة الحيـاة ..
*******
هو ينتظرها على صخـرة اليأس
و هي تنتظـره في بيت الأوهـام.
جمال الدين حريفي
القنيطرة في 21/07/2013