31/07/2013

زواج آخر العمر/ أو ذنوب أمِّي رقية

قصة قصيرة مهداة الى الصديق الطيب والرائع والمبدع دائما : فريد كومار

عن فكرة للكاتب : فريد كومار


فجأة انبجست أمامه عين ماء زلال وهو العطشان الصد
ي، كان يصعب عليه أن يكمل العشرة أيام الأولى من كل شهر، بتلك الأجرة المنحوسة التي تجود بها عليه الوظيفة ..فتات أجرة ... وفي الحقيقة فتلك الأجرة، هي كل ما كان يشده إلى العمل .. بل و إلى الحياة أيضا... أما الآن .. ولأول مرة في تاريخ حياته المليئة بالخيبات، يحالفه الحظ، ويستجاب لطلبه (المغادرة الطوعية) .. منحة من السماء ـ قال لنفسه ـ .. خمسون مليون ريال ... لم يكن يحسن العد بالدرهم، ولا بالفرنك .. خمسون مليون ريال قد لا تساوي عند أصحاب الملايير ساعة تزين معصم الابن ... أو قرطا يزين أذن العشيقة .. أما بالنسبة له هو ... وخمسون مليون مرة واحدة .. بدا له المبلغ كتلة من الأوراق يصعب عدها .. الآن ستفتح له أبواب الجنان ... سيلبس "سبور" .. سيصبغ شعر رأسه وزغب حواجبه .. سيدخل الفنادق الرفيعة .. ويصفق بيديه فقط لكي يقف النادل الأنيق عند رأسه بأدب .. سيستعيد شبابه .. بل سيعيش شبابا جديدا لا عهد لشباب اليوم به .. انتهى عهد الهؤلاء ... والعهد عهده اليوم، والسعد سعده ... غير أن غيمة سوداء مثقلة بالشجن عبرت سماء أحلامه الزرقاء،  وكدرت صحوها. رقية .. ومن غيرها. رقية المأفونة ..الشمطاء ... كيف له التخلص منها ؟ أربعون سنة وهي تنغص عليه الحياة ... عمر أسود . أكلا العدس حين كان العدس هو لحم الفقراء، عاشا على الخبز والزيت، استعملته كبغل يجر على الدوام عربة المآسي وهي تلفح ظهره بسوط لسانها الجارح. أنجبا في غفلة من الزمن خمسة أولاد، وحين صارت للأولاد أجنحة،  طاروا بها  بعيدا،  وبنوا أعشاشهم على أشجار غريبة. منذ غادروا لم يسأل عنهم ولم يسألوا عنه، انشغلوا بهمهم .. وتركوه وحيدا مع حيتهم الرقطاء،  التي تطل عليه كل صباح من جحرها الذي تسميه غرفة نوم، وتشرع في سلخ ما تبقى له من جلد بسكين لسانها القاطع، سكين وسوط.  مر طيفها أمام عينيه ... وهل لها طيف؟.. بقرة سمينة ... مترهلة ... كثلة لحم ... عينان تكادان تختفيان وسط تجاعيد الوجه ... بل جحران .. تلمع فيهما جمرتان حمراوان. تذكر طبيخها المقرف،  تذكر صوتها الأجش كالمنشار، هو يراها هكذا، حتى وهو يعلم أنها ليست هكذا. عض على شفتيه من الحسرة والغيض .. قصد المطبخ حيث  تعد له كعادتها براد شايه الحار بعد العشاء، نظر إليها بلا خوف ولا تردد وقال ..:" رقية .. تحتاجين إلى الراحة .. تعبت كثيرا ..ولم تعودي قوية كما في سابق عهدك ... وأنا، مع الملايين التي أنعم الله بها علي، قادر على القيام بحقك خير قيام .. فقط يجب أن تتفهمي وضعي الآن ... ستعيشين معززة مكرمة ...اذهبي عند من تشائين من أبنائك.. سأرسل لك كل شهر ما تحتاجينه ... ولن ينقصك خير ...فكري يا رقية في ما أعرضه عليك .." لم ترفع رقية عينيها إليه .. انسحبت مكسورة القلب إلى غرفة نومها... تمددت على السرير وراحت تستدعي الذكريات والدموع معا، فجاءتها الذكريات غزيرة ولم تأتها الدموع ... تحجرت الدموع في عينيها . رأت نفسها وهي بعد صغيرة تنتقل من بيت الأسرة إلى دور الكراء ...رأت نفسها تكافح وتصبر..وتجوع وتعرى وتصبر ... وتُضرب وتُنجب وتصبر ...رأت شعلة الأيام تنطفئ في صدرها .. رأت حياة بلا دفء ... مجرد رماد ... حياة من غسيل وطبيخ وصحون، وبضع تأوهات بالليل حسرة على ما فات ... تظل النهار منكبة على الجفاف وفي المساء يمرون جميعا على ظهرها إلى أسرتهم يتفرجون على أيامها السوداء ، وتتابع هي تقشير البصل ورتق الجوارب .. لم تستطع المرأة متابعة الشريط إلى نهايته ... نامت وسط الأحداث .. نامت في منتصف العمر. وفي الصباح وجدوها ميتة، ماتت المرأة من الغم والكمد . رفع الرجل كفيه بالشكر والحمد للسماء : " أخيرا ..أخيرا ....سأعيش ." لم تكلفه جنازتها شيئا ..فالجيران دائما متضامنون في المآسي .. وحتى في الأفراح ...عثروا له سريعا على زوجة تؤنس وحدته. شابة كما يشتهي..قطة غضة لا ترفع عينيها في وجه أحد..قالوا له هي متعلمة ولكنها "بنت دارهم" رمانة مغمضة ولا تفرق بين القوقة والبرقوقة ... وكذلك كان . لا تفرق بين القوقة والبرقوقة  فتضع الفواكه بدل الخضر في الطنجرة وتنتظر أن يستوي الغداء على النار لوحده..صار الرجل يفضل الأكلات السريعة التي تأمره بأن يحملها لها معه من الفنادق القريبة ..ولم  يكن هذا هو الاكتشاف الأول الذي فاجأته به ...فقد اشترطت عليه في الأول ،  وقبل أن يضعا الأسود في الأبيض، أن يسجل المنزل باسمها .. فلا ثقة في الزمن، والأولاد إذا حدث  له مكروه لا قدر الله، سيزاحمونها على الغرف في أحسن الأحوال ، أو يبيعون الدار فوق ظهرها وتخرج هي من المولد بلا حمص. تفهم الرجل الطلب ..ثم لم لا ؟.. وهل سيخسر شيئا ..تذكر رقية وهي تضع بين يديه ما نابها من إرث والدها .. : " خذ ..خذ .." قالت .." رزقنا ورزق الأولاد اشتر قبر الحياة .. وأخرجنا من ذل الكراء " اشترى المنزل بمال رقية ... وهاهو يسجله باسم الزوجة الجديدة ... ولم لا ؟ ... هو لم يخسر شيئا من جيبه .. شابة وتريد أن تضمن حقها،  أين العيب ؟ والمال والحمد لله وفير ...خمسون مليون .." تحسب وتعيا " وبقدر ما كانت الزوجة الجديدة صغيرة، كانت شاطرة.. تحسن إلهاب مشاعره متى شاءت . أصبحت أحلام الرجل في متناول يديه ..ولكن كان عليه أن يدفع كلما اشتهى تحقيق أحلامه أو أخذها بين يديه .. كان عليه أن يدفع ... وكل شيء بثمنه .. كانت شابة وكانت تريد أن تبيع شبابها غاليا .. تسوي ربطة عنقه .. فيدفع . تمرر يدها على شعره، فيدفع . تضع رأسها على كتفه ،فيدفع . تمشي إلى جانبه ،فيدفع لمجرد أنه يمشي الى جانبها مزهوا بنفسه. الكلمة بثمن والهمسة بثمن واللمسة بثمن. وكان جوعه إليها يزداد مع تمنعها فلا يأخذ حتى يدفع. صغيرة وماكرة .. "بنت دارهم " ولا تفرق بين القوقة والبرقوقة، وكلما ازدادت طلباته ارتفع الثمن حتى جاءته يوما بكشف الحساب، مدت له الورقة البنكية وقالت : " انظر... لم يبق في رصيدك شيء... وأنا لست بنت الكلاب ...وحتى وإن كان هذا المنزل منزلي ...فسأسمح لك بالبقاء فيه ولكن بشرط .. أريد أن تطلقني ... نعم طلقني وابق هنا قدر ما تشاء ." وثق الرجل بها ..وما كان له أن يفعل غير ذلك . طلقها في الصباح ... وحين عاد مساء اليوم نفسه الى المنزل الذي كان منزل رقية قبل ان يصبح منزله هو ..وجد حقيبة ثيابه وبعض اشيائه عند العتبة. أخرج حزمة مفاتيح من جيبه.. حاول فتح الباب ... ثم حاول .. أدرك بأنها قد غيرت القفل


بقلم: جمال الدين حريفي


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire