30/10/2011

اختراع

© Yamal

مع انقضاء شهر غشت، أخذ النهار في الانكماش، والانطواء على نفسه، شيئا فشيئا، مستعجلا الرحيل قبل أن نُشْبِعَ أنفسنا من اللعب، و من الانتعاش بالغطس في السواقي الضحلة. سياط شمس الصيف اللافحة بدأت هي الأخرى تبهت، خيطا فخيطا، مرتدّة على أعقابها، مثل شعيرات شاردة في خصلة عجوز شمطاء. فما كان منا، نحن عصابة الدوار المشاغبة، إلا أن نغير من إستراتيجيتنا في استغلال أكبر حيز من الزمان؛ لنستفيد بأكبر قدر ممكن من ضوء النهار، لممارسة شغبنا. فاتخذنا قرارا حاسما أن نقوم مبكّرين، حتى لا ندع للنوم فرصة ليسطو على وقتنا ويقضم قضمة عميقة، من نهارنا، ونحن في غفلة من أنفسنا. فمع أول إطلالة للشمس تجدنا نملأ الحارة، بجلبتنا وصخبنا، وكأننا قضينا ليلة بيضاء.

ذات صباح استيقظت باكرا كما تعاهدنا، وتناولت فطوري على عجل، ولما خرجت من المنزل؛ وأنا ألوك ما تبقى من طعام الإفطار وأزدرده بسرعة، لأباشر يومي الجديد باللعب مع شرذمة الأصدقاء الأوفياء، توجهت إلى ورشة الصناعة، تحت شجرة التين الوارفة الظلال، لأتمّ صناعة السيّارة التي كنت قد بدأت في تركيب أجزائها نهار أمس، بعد أن صنعت هيكلها من صفائح العلب القصديرية، التي طالما تساءلت عن سرّ اليدين المتشابكتين، المرسومتين عليها باللونين الأحمر والأزرق، توصّلت إلى فك طلاسم ذلك السرّ، بعد ما ينيف عن عشرين عاما من الدراسة الجادة؛ يعود الفضل في ذلك إلى الحكمة القائلة ابحث تجد، التي علمتنا إياها، أستاذة اللغة الفرنسية سليلة بالزاك، مدام آرمون في المرحلة الإعدادية.أماّ مقود السيّارة فقد صنعته من الأسلاك التي تكون قد تخلّت عن وظيفتها كعرى للدّلاء، كنت أبحث عنها في المتلاشيات فإن لم أعثر عليها هناك، فأيسر السبل للحصول عليها؛ هو السطو على أسلاك نشر الغسيل، إذ لا يعقل أن أترك سيّارتي بلا مقود؟ وبالمقود الجيد تقاد مواكب الأمم، وبدونه يفقد القائد السيطرة على زمام أمور رعيته. وأما صنع العجلات فليس بالأمر الهيّن، كما يتوهّم المتوهّمون؛ فالمادة الخام لصناعة هذا الجزء الحيوي في السيّارة نادرة، لذلك كنت أضحي بالشطر الأول من الحكمة البليغة القائلة في العجلة الندامة، وفي التأني السلاّمة، مكتفيا و مستحليا في الوقت ذاته، الشطر الأخير منها، فأتأنّى للحظات وجيزة، لأهرول ونصل السكين الصدىء في يدي بحثا عن أي نعل مطاطي أصادفه في طريقي، فأقطّعه على شكل دوائر، وإن كان لازال في عمره بقية، لأصنع منه العجلات، والعجلات لا تقلّ أهمية عن المقود؛ فهي محور الحركة، بدونها تصاب الحياة بالشلل التام، بالرغم من هذا لا أنصحكم بتقليدي في هذا الصنيع؛ فقد تكافأون بجرح عميق إن على مستوى السبابة أو على مستوى الخنصر، فيتعذر عليكم إيصال اللقمة إلى أفواهكم الجائعة، والتي لا يملأها في الأخير إلا الدود والتراب؟ تَذَكَّروا أن العجلة من الشيطان.

لم تسلم دراجة أبي من اختراعي هذا، أبي الذي سافر إلى ما وراء البحار، وما وراء حقول تفاح إسبانيا والبنان، طبعا سافر أو هاجر من أجل إسعادي، لذلك لن يحزنه إن أنا ألحقت بدراجته الهوائية بعض الأذى. أذكر أني ذات لحظة نزق وطيش نزعت شعاعا – ريون- من إحدى عجلاتها لأثبت به عجلتي سيّارتي الجديدة.سمعتني أمي أستسمح أبي من على بعد آلاف الأميال، على ما أقدمت عليه، وقد فتحت قاموس الاعتذار حتى آخر صفحة فيه، واعدا أبي بأهمية براءة اختراعي، ومطمئننا إياه بالمستقبل المشرق الذي ينتظرني في مجال صناعة السيارات.فنادت عليّ متسائلة:
- ما بك ولدي؟
أكيد أنها ظنّت أنني أصبت بمكروه، وأغلب الظن أنها اعتقدت أن بي مسّ. أردّ عليها بهدوء كي يطمئن قلبها:
- لاشيء.
- مع من تتكلم ؟
- إنني أمازح دراجة أبي فقط.
- وهل للدرّاجة آذان؟
- أجل قالت لي جدتي: كل ما هو موجود على الأرض يتكلم ويسمع.

بعد أن وضعت اللمسات الأخيرة على اختراعي التكنولوجي الهائل، أخضعته للتجريب، حركت العجلات إلى الأمام، ثم إلى الخلف، و حركتها يسارا ويمينا، بفضل المقود السالف الذكر. ألم أقل لكم إن المقود يتحكم في الاتجاه إلى اليسار، كما يتحكم في الاتجاه إلى اليمين؟ بدونه ما كانت لتَتِمّ هذه الحركة الآلية العجيبة بهذه السلاسة؟ و لبقيت العجلات تتجه في خط مستقيم نحو الأمام، أو إلى الخلف.

أخيراً قرّرت أن أخرج منتجي العجيب إلى العالم، ليراه رفاقي في الدوار، وأنال وسام براءة وبراعة الاختراع و الاستحقاق. وما يدريني قد يطلب مني بعضهم أن أصنع له مثل الذي صنعت، وقد تتحول ورشتي إلى مصنع كبير. يلتهم كل نعال نساء القرية و أسلاك نشر الغسيل. صدق من قال التكنولوجيا سلاح ذو حدين.

بما أنّ لكل بداية نهاية، فإنه حينما انتهى شغفي بسيارتي وبلغ حدّ التخمة، قررت بيعها لشغوف جديد، فعلقت على مقودها سيارة للبيع، وبينما أنا أتناول طعام الغذاء، صحن ممتلىء بالفاصوليا وبجانبه قصعة صغيرة من الهندية والتين، إذ بي طارق يطرق باب منزلنا طرقا متتاليا، قمت مسرعا لفتح الباب لمعرفة من يكون هذا الضيف السعيد الحظ، وماذا يريد في هذا الوقت بالذات، فهو ليس وقت الزيارات، فإذا بي أجد جمالا الولد الذي قدم من وجدة، ليقضي بعضا من العطلة الصيفية عند جده الحاج حماد، كان يحمل عشا يحتوي على عصفورة موثقة الساقين تحضن بيضا، قبل أن أسأله ماذا يريد، بادرني قائلا:
- أريد أن أشتري منك السيارة.
- هل معك نقود؟
- هذا هو الثمن.
- ولكن، أنا أريد نقودا؟
- بهذا العصفور وهذه البيضات، ستكسب مالا كثيرا.
- كيف؟
- ستفقس البيضات، وتحصل على فراخ، وكل فرخ تبيعه بخمسة دراهم أو أكثر، اتفقنا؟
- نعم اتفقنا.
- هات السيارة، وخذ العش.

قبلت بالصفقة، وأحسست بحنين وحب جارف نحو سيارتي الجميلة، بدت لي وأنا أقودها إليه، كأني أودّع عزيزا علي، حتى كدت أذرف عليها بعض العبرات، ولولا خوفي من أن يظن أنني ضعيف، لكنت فعلت ذلك. لقد تعلمت من أصدقائي، ومن كبار أهل الدوار، أن الرجال لا يبكون أبدا مهما طفح كيل محنهم، فالبكاء منذور للنساء فقط.

وضعت العش في النافذة الواطئة، وعدت ألتهم ما تبقى من الفاصوليا والهندية والتين.ما أن فرغت من ذلك حتى أسرعت نحو العش، أتفقد عصفورتي الجميلة، حاملا لها فتات المائدة وشيئا من التين، يجب أن أ تعهدها بالرعاية التامة، إذ بفضلها سأصبح من تجار القرية المرموقين، فأول السيل قطرة.

كم كان فزعي كبيرا، لما وجدت العش مقلوبا، وبالقرب منه قشور البيض، والريش يتطاير من حوله. رفعت بصري إلى أعلى جدار الحوش حائرا مهموما، فإذا بقطة من قططنا الكثيرة، تقفز إلى السطح وفمها مملوء بشيء ما، عالجتها بضربة من فردة حذائي، لما أيقنت أن الذي تمسك بخناقه هو العصفورة، فلم أنل منها شيئا، سرعان ما اختفت، حينها أدركت أن مشروعي التجاري الهام، قد اختفى في بطن قطتنا الشرسة الخبيثة.

أقسمت بأغلظ الأيمان ألا تمر جريمتها دون عقاب و أن تدفع الثمن غاليا لقاء خيانتها، نصبت لها كمينا محكما؛ علبة سردين داخل القفص الذي كان جمال أهدانيه يوم قايضته السيارة بالعش، لعل لعابها سال كخيوط العنكبوت قبل أن تغامر، وتلج القفص مفتوحة العينين لتلتهم السمك اللذيذ، تدفعها رائحته المثيرة للجوع بين قضبانه دفعا. ما إن انهمكت في ابتلاع السمك حتى أسرعت نحوها كالسهم لأحكم إغلاق القفص، أبقيت عليها رهينة المحبس، لا تنال إلا الماء، والخبز الممرّق، وبعض الديدان، التي نصحني جمال أن أطعم بها العصفورة الراحلة، قلت لها في نفسي: تلك هي عقوبة الخونة الذين لا يحفظون العهود، تلك هي عقوبة من يتعدى على ممتلكات الغير.

أحمد بلكَاسم

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire