08/06/2011

حدائق الألوان

لوحة الفنان : عبد الحفيظ مديوني




للأستاذ عبد الحفيظ مديوني حدائق خاصة ذات أبواب موصدة، لا تفتح للعيان إلاّ نادراً، يزرع فيها ألوانه المختلفة، و يغرس بداخلها أشجاراً من كلّ جنس ويطمر بين طياتها أفكاره و أحلامه، و يردم في جوفها قصصاً من المجتمع وأحداثاً يأبى إلاّ أن يسردها على شكل رسومات تبدو مبهمة أثناء النظرة الأولى، لكنها مفعمة بالإيحاءات الدالة و الإشارات الناطقة . و هذا ما يجعل جلّ أعماله عبارة عن أشكال عجيبة لا تشبه الأشياء العادية بتاتاً، و لا تنتمي في غالب الأحيان إلى عالمنا، ممّا يضفي عليها نوعاً من قداسة الأضرحة، و هالة الأماكن المهجورة، وسكون المقابر التي تحتضن كثيراً من الأسرار، و حميمية سراديب أديرة الرهبان و ما تختزله من اعترافات و بوح

و لوحاته المعروضة حالياً في هذا الرواق، تحت عنوان : اللون فرجة وخطاب، نموذج لذلك . فهي، رغم اختلاف مواضيعها، تلتحم بواسطة خيط رفيع يفشي الطريقة التي اعتمدها الفنان لإنجازها في هذا القالب بالذات، و لا سيّما أنه استعان من أجل ذلك بأداة السكينة، مستغنياً عن الفرشاة و الريشة هذه المرة . وهذه التقنية تحتاج إلى تركيز كبير، و حضور ذهنيّ متميّز للتفاعل مع كتل الإطارات و أفئدتها القابعة في الأعماق، و التي تشكل خزاناً كبيراً لخلفيات تهب دينامية دائمة لما تحتويه الفضاءات من خلال أشعة الألوان الزيتية الحارة الساطعة تلقائياً على الواجهات الأمامية المثقلة بالصباغة، لتكشف عن مستورات تنبعث من الجوانب، و تطبع، إلى حد كبير حتّى الحواشي، بألوان فاتحة تكسر العتمات و قتامة الألوان الرمادية، و تنحل أمام تلك الأسوار و الحصون السميكة المنتصبة عمداً في أماكن دقيقة لكي تحدث خدشات لونية تحيل على طابوهات المجتمع، و تذكر بمسكوت عنه طالما طبع المجتمع الذكوري المشار إليه بواسطة ألوان داكنة و غامقة تطفو على الأقمشة، و تلتئم مع الألوان الفاتحة لتخلق ازدواجيات متحركة، و ثنائيات لا تنتهي عند تقاطع كلّ لون، بل تتعدّى ذلك، وتخترق عوالم الخيال و الأحلام، عبر أسلوب تجريدي محض يرفض أن يحاصر عين المشاهد و يوجهها إلى جوانب معيّنة، لكن يجعلها تمسح المساحات أفقياً و عمودياً، أو من اليسار إلى اليمين، أو في الاتجاه المعاكس

و هذا ممّا يجعل أعمال الفنان تتوفر على أبعاد متعددة، و تُرى من زوايا مختلفة . و هذا  الأسلوب مستلهم من اشتغاله بالمسرح : عالم الألوان و الديكورات وينطبق على جلّ
أعماله الفنية

و يبدوهذا الأسلوب واضحاً في تلك اللوحة التي تضمّ بين محتوياتها قمراً وطائراً إلى جانب أشياء أخرى خارجة عن المألوف، ذات دلالة متعلقة بزمان لا بداية له و لا نهاية، و مكان ليس له حدود، و النظر إليها بإمعان يجعلك تلج إلى فضاء يضيق بسواد غير كثيف، يخترقه بياض ليس بناصع يوحي بالغسق، ويمزّق ما تبقى من ستار ليلة ظلمتها حالكة، و يحدّ من ضوء قمر آفل لا محالة، يذكّر ببزوغ فجر جديد، يدع مكانه لشمس ترخي شعاعها شيئاً فشيئاً على الهياكل الآدمية، لتدفئها و تدفعها للانتفاض و الانسلاخ عن مكانها القاتم، إلى درجة يصبح معها شموخها السلبي عنفواناً، يصنع لها أجنحة خفية، تدفعها للتحليق بقوة تضاهي قوة الطائر، و تزيحه من مكانه؛ ممّا يخلق نوعاً من الإثارة داخل اللوحة، خاصة و أنّ كلّ صورة تصبح مؤدية أكثر من وظيفة، تدعو المشاهد إلى الطيران بعيداً، و بدون تعب، ليحلّ برحاله في دنيا الخيال، انطلاقا من هذه المحطة : اللوحة

عبد السلام صدّيقي

بركان :   01 يونيو 2011


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire