08/06/2011

مغامرة



كان الهدوء يغشى المدينة النائمة، والأضواء الباهتة تمخر عباب ليلها البهيم، بينما كانت الرياح تنوح وهي تكنس الأزقة والأرصفة، بطريقة عشواء

أحس برهوش بالبرد القارس يخترق مسامه، ويخز عظامه وخزا ساما، فتكوم على نفسه تحت شرفة أحد الأبواب الفارهة متظاهرا بالنوم، نقت ضفادع بطنه نقيقا مزعجا، فنهض كالمعتوه يبحث عن خيط مفقود يربطه بعالم أولي النهي، فلم ير سوى صندوق قمامة يتيم يستند إلى جذع شجرة عارية. قصده بتؤدة نظير فاتح عظيم، وهم يحشر رأسه في الصندوق ليستخرج منه درره النفيسة، من عظام لا زالت تحتفظ بطراوتها، وأشياء أخرى تصلح لأن يحشو بها بطنه الضامرة. وما كاد يفعل حتى سمع دبيب وافد ثقيل الظل. ر فع رأسه وبدا له شبح يرقص في رأس الزقاق، حاول تجاهله والشروع في ملء بطنه الأجوف، لكن وقبل أن يرتد لبرهوش طرفه، كان الشبح قاب قوسين أوأدنى منه والشرر يتطاير من عينيه وشدقيه، والكلمات النابية، البذيئة، كانت تندلق من بين أنيابه كالشهب

- كيف سولت لك نفسك يا ابن الكلبة المزلوطة، أن تطأ هذا الحي؟ ألم أحذرك من قبل يا مغرور ألا يتعدى ظلك حدود مملكتي؟

- آسف سيد ملهوف عن الإزعاج، اهدأ سأنسحب توا لأخلي لك المكان

- لا ليس الدخول إلى الحمام كالخروج منه؟ سألقنك درسا لن تنساه ما دمت حيا. أدرك برهوش أن ساعة الحسم مع هذا الطاغي، قد أزفت، استنفر كل قواه للمواجهة، واستعطف السماء كي تعينه على هزمه شر هزيمة، والذي انقض عليه بكل ما أوتي من قوة، فراغ له برهوش، ليرتطم بجذع الشجرة، وصندوق المؤونة. فازداد ملهوف شراسة وغطرسة، لتستمر المعركة حامية الوطيس. تبادل فيها الخصمان كل فنون الحرب والقتال، من عض ونهش ورفس. لقد ظل برهوش صامدا، يقاوم ببسالة نادرة، غارات غريمه، إلى أن جاء الخلاص من هراوة غليظة، نزلت على ظهر ملهوف، من يد أحد الحراس الليليين، الذي أزعجته أوزار الحرب

أكيد أنها الضربة قاسية، تلك التي تلقاها عدو الله، وإلا كيف يفسر تبوله، وتبرزه في عين المكان، دونما حاجة إلى رفع قائمه الخلفي، و تقويس ظهره، مخالفا بذلك سنة الأجداد. ردد برهوش هذه العبارات شامتا بخصمه، وقد أطلق ساقيه للريح لا يلوي على شيء. طبعا كان يضحك شامتا بخصمه، ومتسائلا في الوقت ذاته

- ماذا لو أن الهراوة أخطأت ظهر ملهوف؟ وأصابت ظهري؟ يا لطيف !الحمد لله أنني نجوت هذه المرة

بعد مضي حين من الوقت، نقت أمعاؤه من جديد، فعاوده الحنين إلى- الزردة- التي ولاها دبره. قفل راجعا صوبها وكله حيطة وحذر. من بعيد لفت نظره قط هزيل، يعثو فسادا في القمامة، اقترب منه بتوجس، حدجه بطرف عينه، آمرا إياه بالانصراف وإلا طرده شر طردة. رفض القط الهزيل الانصياع لأمر برهوش، و قفز بمحاذاته مبرزا مخالبه، ومقوسا ظهره، ليبدو جملا صغيرا . هم برهوش بتسديد لكمة عنيفة لوجه هذا المغرور بنفسه؛ غير أنه عدل عن الفكرة خشية أن يشعر صاحب الهراوة بتواجدهما، فيسلطها على أحدهما، ليس كل مرة تسلم الجرة قال متمتما، ورضي أن يقاسمه وليمته دون فوضى. أكلا حتى شبعا. وقبل أن ينصرف كل واحد إلى حال سبيله دنا القط الهزيل من برهوش، هامسا في أذنه

- يبدو أن أصحاب هذه القمامة يتبعون حمية شديدة، فلا أثر للسكريات ولا للملح في أطباقهم، أخشى أن أزداد نحافة وهزالا. هذا ما لاحظته أنا أيضا رد برهوش، فالمرق الذي لعقته، كان عبارة عن ماء متبل لا دسم فيه، لكنني شبعت، بعد ذلك افترقا

لأول مرة يشعر برهوش بالتخمة، بحيث كان يتبختر في مشيته مثل إمبراطور عظيم الشأن والسلطان. قادته خطواته البطيئة نحو مقر سكناه، وهو عبارة عن هيكل سيارة مهمل، في حي ناء من المدينة. نام بعض الوقت ثم استيقظ على صياح الباعة المتجولين، وهم يدفعون عرباتهم صارخين: النعناع، القصبر، مطيشة، خيزو، البطاطا. اتجه نحو الشجرة التي التقى تحت أغصانها لأول مرة بحبيبة قلبه، سوسو، سوسو .. ذلك المخلوق اللطيف.. الوديع الجميل البريء.. سوسو المتعلمة الخفيفة الظل الودودة...سوسو الحنون  الحالمة. غاص في تفكير عميق، وهو يناجي طيفها البهي، يهمهم كالمجنون وينظر إلى الشجرة الباسقة مستنجدا، مستعطفا، كمن يتمسح بأعتاب ضريح ولي صالح

لما أعياه الانتظار، والبكاء على الأطلال. عرج على الوادي، حيث وقف على ضفته يسترجع شريط أيامه الحزينة، البئيسة. تراءى له طيف صديق طفولته المعذبة، وهو يصارع فيضان الوادي الذي يلوذ بالصمت شهورا وأعواما، وحين ينطق يلفظ الموت والخراب. انهمرت العبرات من مقلتيه بسخاء حارة، وهل يبخل الخليل عن خليلته بدمعه؟ والشوق الحارق للمحبوبة زاد من خبله، كحرارة اشتياقه للخلاص، اشتياقه للطمأنينة والأمان، اشتياقه ليد تربت على كتفه، تكفكف دمعه، وتهدئ من روعه، وتمسح عن محياه غبار الحزن القاتم الآسي. حمل جراحه على كاهله المثقل بالهموم والنكبات وقصد الشاطئ، حيث كان يتأمل آثار خطواته على الرمال، والتي ما تفتأ تمحوها أمواج البحر المنتحبة. وهو يركب موجة، ويتسلى بمنظر أخرى تذوب في استحياء بين أحضان الشاطئ الواسع، تذكر وصية والده الخالدة: "إن هذه الأرض، مهرة جموحة لا ترضخ صهوتها لكل من هب ودب، إنها يا بني أرض معطاء، ذات خيرات، فقط بني ضبعون هم الذين اغتصبوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة". عاد برهوش إلى واقعه التعس، ليصطدم بأمواجه الهادرة، وعلت وجهه مسحة من الحزن الدفين، خفق قلبه بالكره المقيت، وقد خص به كل من كان حجر عثرة، في طريق تحقيق أحلامه وأمانيه. وبينما هو كذلك إذ بسوسو تتراءى له ممتطية صهوة غمامة وديعة، ترنو إليه بحب ودلال، تسارعت نبضات خافقه المكلوم المعذب، فنادى بأعلى صوته :سوسو...حبيبتي تعالي أنا هنا وحدي، تغتالني الوحدة، وحدة نهاية القرن العشرين، لقد افتقدتك كثيرا، تعالي شنفي سمعي بصوتك الرخيم، حدثيني عن كل شيء. عن الحرية عن الحقوق، عن الديمقراطية. فها هنا يا حبيبتي ما زالت مصلوبة، رغم الصناديق الزجاجية، رغم الوعود الوردية، والنزاهة والشفافية، ما زال سيف الحجاج يخترقني نصله من الوريد إلى الوريد، في الصبح كما في العشية. فجأة خر مغشيا عليه، يتفصد عرقا، فاختلط بكاؤه وعويله بنباحه، ولم يعد يدري أي مخلوق هو. لما آب إليه رشده، رفع بصره إلى الغمامة الوديعة، فلم يعثر لطيف حبيبته على أثر. غير بعيد عنه، نزل شخصان على صخرة بالقرب منه، فراح يسترق السمع إليهما في حزن، فإذا هما عاشقان، يتبادلان حلو العبارات، ومعسول القبلات

- لما أصل يا حبي، سأعمل كل ما في وسعي لأعود إليك بالكاط كاط، وسنقيم عرسا سيكون أبا الأعراس.

- ........... !

- كأنك لا تثقين بي !

-لا ليس هذا قصدي .إنما

- أعرف أعرف، تخشين علي الموت غرقا كالآخرين، أليس كذلك؟

- أجل يا فارس أحلامي

- من هذه الناحية، اطمئني يا توأم روحي، فأنا سباح ماهر، اعتبريني سندبادا بحريا جديدا

- ماذا لو بقيت في بلادك ذلك أفضل !؟

كاد برهوش أن يتطفل ويكون فضوليا، ليقنعها بأن بني ضبعون، قد نضحوا العظام كلها. بيد أن العاشق سبقه قائلا

- لا يا عزيزتي، ليست هناك من وسيلة أنجع، غير هذا الأزرق المتلاطم الأمواج، أما خوفك علي من الغرق، فأنا يهون علي أن تبتلعني حيتانه، على أن تبتلعني حيتان بلادي البرية. وطفق ينظر إليها نظرة حنين ووداع

لبست الأحلام ثوب الكآبة، وبدا وجه البحر يتجرد من لونه الشاحب، ومن عيونه العابسة، ليصبح مثل قصيدة عصماء، يتغنى بها الفارس الفحل، أمام عروسه النجلاء

بعد مضي سنة كاملة أو يزيد، فوجئت العروس وهي تتابع نشرة إخبارية، عبر قناة تلفزية عالمية، بصورة برهوش تكتسح الكاميرا، بينما كان المذيع يقرأ بصوت جهوري: إن المدعو برهوش، قد أحيل على المحكمة لتبث في دخوله التراب الفرنسي، بطريقة غير قانونية، وبعد ذلك بقليل، ظهرت صورة العاشق الحالم، لكن جثة تطفو على سطح البحر ختم المذيع النشرة، مودعا المشاهدين بابتسامة ساطعة

بركان   دجنبر1997
أحمد بلكَاسم



2 commentaires:

  1. تشكر على عملك الجاد والمتواصل بثبات
    وجميلة الصورة الملتقطة على حين غرة
    تحياتي أحمد بلكاسم
    منتصف الليل 8 يونيو 2011

    RépondreSupprimer
  2. شكراً لك... و البستان الشرقي مزدان بإبداعاتك المتميزة ... أمّا الصورة فالشكر موصول للصديق مهداوي، صاحب السيارة التي أقلتنا إلى ذروة جبال بني يزناسن ... و تحياتي إليه و إليك و إلى مبدعي البستان جميعهم

    RépondreSupprimer