قراءة في معرض أبركان للصور الفوتوغرافية
في اعتقادي البسيط هناك دور مهم في عمليتي التوصيل والتواصل بالنسبة لأي عمل إبداعي هو ما يسميه إدوار الخراط الإيحاء بما وراء التقنية. وما وراء التقنية هو تلك الخبرة الفنية أو الرؤية الفكرية. بمعنى أن كل عمل فني يحيلنا إلى تقنية أو حرفية معينة يكتسبها أي إنسان موهوب بالملاحظة والمدارسة والتجربة ولكن ما يحيلنا إليه بالأساس هو تلك الخبرة والرؤية الفنية التي تكمن وراء التقنية أو ما أسميه في هذا الإطار العين الموهوبة.
وهذا المعرض غني بالعيون الموهوبة. من حسناته أنه، بداية، ولأول مرة في مدينة أبركان عرفنا بفنانين موهوبين في مجال الصورة، يعرفون كيف يتعاملون مع تلك الآلة المسماة "كاميرا". ثم أبرز لنا مواهب جميلة تعرف كيف تنظر إلى الجمال وكيف تقدمه إلينا. ثم حاول أن ينتشلنا من هذه البركة الآسنة التي تبلد الإحساس. وأخيرا أشار إلى تيمات فكرية وموضوعاتية في غاية الخطورة وهي اليوم مدار المدارسة والاختلاف والخلاف مثل تيمة الماء والطيور المحمية والمنازل الدارسة والتراث المعماري والهندسي الذي هو في طور الاندثار والذي يجب علينا كمثقفين ومسؤولين حمايته والدفاع عنه.
بالرجوع إلى مجمل الأعمال المعروضة نخلص إلى ملاحظة مفادها أن هذه الأعمال شديدة الصلة بالعصر وبالمكان وبالزمان. أي أنها إلى حد بعيد محلية وراهنة تتناول الإنسان في هذا المكان والآن رغم غياب الإنسان في مجمل هذه الصور. ولكن مع كل ذلك تحتفظ لنفسها بكوة بل بأبواب مشرعة على السماء من أجل الانفتاح على آفاق أوسع وبذلك تحتفظ لنفسها بإمكانية تجاوز الزمان والمكان. أي أنها عابرة لهما.
الأمكنة والأزمنة والكائنات في هذه الصور ليست فقط تسجيلا لحضور طائر محمي ولا دلالة أو إيحاء بثقافة بعينها وأناس بعينهم نشاهد منجزهم ولا نشاهدهم.وليست تعبيرا عن هندسة ما أو حضارة ما أو أسلوب حياة ما، ولا تعبيرا أو نقلا لموقع جغرافي جميل أو دارس وإنما هي إضافة إلى هذا وذاك شذرة من شذرات الروح وحالة من حالاتها ينقلها إلينا المصور، وهي فعل يقترفه لاستكشاف ما بداخل ذوات الناس ومشاعرهم بله مشاعر وذات المصور نفسه، من أجل الكشف عن المستور والمخبأ والعميق والجوهري في هذه الكهوف المظلمة المسماة النفس البشرية، الصانعة للمكان والمصارعة للزمان والمطلق والباحثة عن الفهم بطرح السؤال دائما وأبدا.
إذن هذه الصور تطرح الأسئلة أكثر مما تجيب عنها. لماذا الدور الدارسة؟ لماذا تقابل المنازل القديمة (الاستعمارية) مع المنازل الحديثة؟ لماذا الماء الذي هو إكسير الحياة؟ لماذا الضوء؟ لماذا شاطئ البحر؟ لماذا البحر؟ لماذا السماء والأشجار والطائر الحزين؟ لماذا الجوامع والصوامع؟ لماذا الحديد؟ لماذا الغروب؟ لماذا المقبرة منظور إليها من الخلف؟ لماذا....لماذا السؤال؟
لأن السؤال في حد ذاته يحمل متعة الجمال ومتعة الغموض ومتعة السر. والسر في هذه اللوحات/الصور أنها تقدم نفسها دفعة واحدة تهجم على العين والحس والعقل. فتتداخل المسالك والممالك وبعد سكرة اللذة الأولى نستكين إلى المذاق الذي تخلفه كل صورة على حدة.
هذا هو سر نجاح هذه الصور الباذخة الجمال.
أما من حيث التيمات فهناك تنوع كبير. كل فنان تناول تيمة معينة برؤية فنية وجمالية مختلفة.
عبد الحفيظ الخلوفي تناول تيمة الماء والضوء باعتبارهما تيمتين محوريتين تدور حولهما كل الصور وكان ناجحا في إبراز قيمة هاتين المادتين الحياتية والجمالية، وكان أنجح في إظهار بهائهما وهما يمتزجان في ألوان جميلة وينتجان الحياة: حياة الكون وحياة الصورة.
جمال قادة اتخذ من المنازل والرسم الدارس أو الديار المهجورة في الوسط القروي بالإقليم تيمة اشتغل عليها بكفاءة وفنية رائعتين مما أعطاها بعدا نوستالجيا إلى جانب بعدها الموضوعاتي والجمالي طبعا. فالمنازل المهجورة في جبال بني يزناسن تحيله مباشرة على الشعر العربي وتدعوه إلى التفكر أعمق بالمقدمات الطللية وتجعله ونحن معه نفهم أكثر لماذا بالضبط البكاء على الطلل. وهي كذلك توثيق وتاريخ للمكان وللإنسان.
عبد الحميد عواج خص صوره بتيمتين متمايزتين. أولا تيمة البيوت الأبركانية والتي أقام فيها حوارية راقية بين القديم والحديث وبين الثابت فيها والمتحول خاصة بين البيوت ذات الطابع الأوربي والبيوت التي أعيد أو تم بناؤها حديثا. وهنا يتقاطع مع قادة ولكنهما يختلفان في تركيز أحدهما على المجال الحضري فيما ركز الآخر على المجال القروي. وبهذا نلمس تكاملا بديعا وتناغما أبدع فيما يخص مجموع صور المعرض.
أما الموضوعة الثانية فخصصها عبد الحميد عواج لطائر محمي جميل هو طائر اللقلاق في أوضاع مختلفة. والجميل في هذا الانتقال بين الموضوعتين أن هناك انتقالا سلسا بحيث أننا نمر من ما هو هندسي؛ بيوت وصوامع، إلى صوامع مع طائر، إلى طيور في وضعها الطبيعي، وهو اختيار ذكي ينم على أن صاحبه يشتغل بالمشروع وليس كيفما اتفق، وهو في هذا وذاك يمتعنا بذوق رفيع في المزج بين الألوان واختيار زوايا الرؤية.
جميل عواج قدم نوعا آخر من الصور مختلفاً تماما بحيث أنه لم يحصر نفسه في تيمة بعينها بقدر ما حاول التركيز على جمالية الصورة في حد ذاتها وآليات وتقنيات التقاطها بالتركيز على نفخ شاعرية حساسة أثناء التقاط هذه الصور. بحيث أننا نشعر أن المصور يمنحنا قصيدة مرئية في غاية الروعة بدل أن يمنحنا إياها مكتوبة. وهذا هو الحال مع صورة الشاطئ التي اختلطت على رماله السبل وتاه فيه طفل وامرأة. إنها شاعرية الصورة التي تتقن فن التعبير عن الأشياء والأحاسيس وتمتلك رؤية متقدمة عن العالم والإنسان والحياة وتقدمها في قالب متميز.
نخلص من كل ما سبق إلى أن كل فنان حاول الاشتغال على جانب وفي منطقة تختلف عن منطقة الفنانين الآخرين وهذا ما أضفى على أعمال هذا المعرض صفة التكامل والتمايز والثراء وعدم التكرار بحيث أنهم حققوا لنا فرجة تمتح مما هو محلي لتنفتح على ما هو خارجي.
ويمكن القول إنّ هذه الصور لعب، و لكنّه لعب جاد وخطير. إنّها تلعب بالجوهري في الإنسان: كينونته. وتضعها في مفارقة لذيذة تجعل المسكوت عنه أكبر من المعبر عنه.
إنه اللعب الحقيقي الذي لا يضع حدودا بين الحياة والموت. لأنه يطلب التعبير عن أنبل الأفكار والمواقف بتحقيق أقصى المتع في أجمل الأشكال.
محمد العتروس
7 / 8 / 2011
عبد الحفيظ . خ
جمال .ق
حميد .ع
جميل .ع
يعطيك الصحة وزادك تألقا في الفكر والإبداع
RépondreSupprimer