23/12/2011

حوار الظاهر والباطن


قراءة للمجموعة القصصية : لعنة باخوس

للكاتب : أحمد بلكَاسم

إن متأمل مكونات هذه المجموعة القصصية، يجد نفسه أمام علامات تكشف عن دلالات معينة، خاصة على وجه الغلاف وظهره، فأول ما يثير انتباه القارئ، هو تلك اللوحة التي تمثل صورة طفل في حالة إغفاء، وهو مسند ظهره إلى الحائط، وبجانبه أجزاء جرة مهشمة. فالطفل يمثل الماضي المضمر فنيا، والذي نعود إليه كلما احتجنا ذلك. وهو يختزل صورا مشرقة، وأخرى مؤلمة، ومع ذلك نحس بحلاوتها عند تذكّرها. وهو نفسه ما عبّر عنه المؤلف صراحة، في النص الأول من مجموعته، والذي عنونه ب "الأفعى الصفراء" حيث كشف فيه عن المرجع الذي متح منه نصوصه. وعندما نقول طفلا، فهذا بالضرورة سيحيلنا إلى أنه تلميذ في مرحلة التّمدرس، والجرّة تومئ إلى أن هذا التمدرس يتمّ في العالم القروي، وفي الزمن الماضي، وما يعزز ذلك، الإشارة الواردة في النص الأول والمتمثلة سواء في وصف طريقة اللباس التي يتميز بها المعلم ".. سروال ضيق عند الخصر، فضفاض عند القدمين،حيث تبدو فردتا الحذاء، ذي الزاوية الحادة كجرذين يطلان من خيمتين متجاورتين، تثيران الضحك.." أو بذكره لأشياء كانت تؤثث الماضي، مثل سيارة المدير التي كانت من طراز بوجو 404. وإغفاءة هذا الطفل قد تكون موقفا من العلاقة التي كانت تربط بين الطفل "التلميذ" بالمدرس، " ..حيث كان ينحني من كاد أن يكون رسولا، على الأقدام القذرة، تنظيفا بقضيب الزيتون العتيد.."صفحة 10 قصة الأفعى الصفراء. أو كما ورد في نص الرؤيا، صفحة 25 "..بعد أداء الفريضة، يستقر الجاني في مقعده حافي القدمين كمجرم حرب، طالبا الرحمة من أرضية الفصل الباردة.." وفوق الصورة، وضع العنوان بشكل بارز، وقد كتب بلون خمري ليلائم اسم باخوس إله الخمر عند الرومان.وهو نفسه العنوان الذي تحمله القصة الأخيرة في المجموعة صفحة 25. فلماذا إذن تم اختيار هذا العنوان بالضبط للمجموعة دون غيره من العناوين؟ ربما لأن البطل في القصة المذكورة، يختزل الوضعية المأزومة للمثقف في المجتمع، سواء كطالب أو معلم أو أستاذ أو فنان، والتي عالجها الأستاذ أحمد بلكَاسم في ستة نصوص من المجموعة. ففي قصة هديل، يعاني البطل الطالب الجامعي، من عدم القدرة على تقديم المساعدة إلى امرأة تريد أن تتطهر، كما هو واضح في الصفحة 33 "..اندلقت من عيني دمعتان إحداهما لرحيل الجدة، والأخرى كانت من أجل الحمامة المقصبة الجناح، التي سلبها الغراب مشيتها، وأجهز على هديلها. رأيتها تحثو التراب على وجهها، وتندب حظها وتنعي شبابها الآفل..". وفي نص "رحلة" يقف الطالب كالمتفرج "يراقب النشال وهو يصول ويجوب في الحافلة عفوافي الجيوب " دون أن يقدر على التدخل لردعه. كما عبر عن ذلك في الصفحة 67. وفي نص " أجساد ملغومة " وبعد حديثه عن الموقف، والرجال المقهورين المنتظرين، وطريقة اختيارهم من قبل المشغّل صاحب الشاحنة، ينتقل ليبرز إشكالية التناقض بين النظرية والتطبيق في التعليم، من خلال تعاطي المفتش للتدخين، وحضوره درسا حول أضرار التدخين عند زيارته لأحد المعلمين، وهو السارد طبعا في هذه القصة.

أما في نص الإشعار، فإن المعلم ظل ينتظر الذي يأتي ولا يأتي من جاره، رابح المهاجر إلى أوروبا. فرغم أنه يمثل ولي نعمته، إذ كان السبب في تمكنه من الهجرة بشكل غير شرعي من خلال قرضه المال اللازم للقيام بالمغامرة ورغم أنه وعده قائلا: ".. غادي ندور معاك تدويرة ما ديراش" فإنه لم يف بوعده. وبقي المعلم يراقب طَوال الوقت صندوق البريد عساه يتوصل بحوالة من رابح.

وإذا كانت " لعنة باخوس" قد أعلنت عن موت الأستاذ معنويا، من خلال الوضع الاجتماعي الذي انحدر إليه، حيث فشل في تكوين أسرة ناجحة،وانغمس في معاقرة الخمر رفقة شخص: " .. يعرف كيف تكسب الهمزة، ولا يعرف كيف تكتب الهمزة.." كما عبر السارد عن ذلك في الصفحة 77. فإن لعنة التعيين في منطقة جبلية نائية قد قتلت المعلم ماديا، حيث مات بعد خيبة أمله في الأوطوسطوب، عساه يجد سيارة أو شاحنة دواب تقله إلى وجهته.

كما نلاحظ في نص " أوطوسطوب" وقد تعمد الكاتب وضع المقطع الدال على موت المعلم في ظهر الغلاف، ليبين عمق المأساة التي يعيشها رجل التعليم في القرى النائية والمد اشر، وبنوع من السخرية السوداء يشير إلى أن محاسبة المعلم تتم سواء وهو حي أو مي، من خلال إدراجه لزيارة مدير المؤسسة للقسم، حيث وضع في محفظ المعلم ورقتان: ".. الأولى تحمل في طيها استفسارا عن تغيب بدون مبرر قانوني، أما الثانية فكانت عبارة عن إشعار بانقطاع عن العمل.." قصة أوطوسطوب الصفحة19.

وتزداد ذروة المأساةلدى المثقف الفنان الذي حاول أن يجعل من ريشته وسيلة لكسب قوت يومه، ولمعالجة أمراضه، لكنه يصطدم بواقع لا يقدر قيمة الفن، كما ورد على لسان إحدى المخمورات في حانة من الحانات، "..ماذا كان يريد ذلك المعتوه بتلك الخربشات؟ قال إنه فنانا، كان حريا به أن يقول إنه شحاذ.." قصة اليتيمة الصفحة 37.

ويموت الفنان من شدة الكمد والبؤس. وبموته تكسر الريشة تحت أنقاض الكوخ الذي هدمته السلطة، وكأن السلطة تنتظر الفرصة لتدمير كل ماهو فني أو ثقافي.

إن القاص أحمد بلكَاسم، استطاع أن يقدم نماذج من الإنسان المثقف، وقد نجح في عرض ملامحها، وفي التعبير الدقيق عن إحساسها، وهي تواجه عالما لا يعترف بها، ولا بالقيم التي تحملها، فالسمسار يهزأ بالأستاذ قائلا: "..لغة الكتب اللي ما عطاتك والو.." الصفحة 84 قصة لعنة باخوس. والشيخ بنوع من الشفقة يقول للطالب: "..ماذا ستعطيك كل كتب العالم مجتمعة، عدا ضعف البصر، والنظر إلى الدنيا من وراء زجاج سميك.." الصفحة70 قصة الرحلة.

ورغم بعض الاختلاف الذي يطبع النصوص القصصية، فإنها تلتقي سواء في المكان الذي تجري فيه الأحداث، أوصفة الشخصيات المقدمة، تلميذ، أستاذ، معلم، طالب... فقصة " هدى والذئب" مثلا تبدو بعيدة عن القصص الأخرى من حيث الموضوع، أو من حيث الرسالة التي يريد أن يوصلها إلى المتلقي، إذ حاول من خلالها أن يبرز بشاعة الشر، وقتل براءة الطفولة، وهو حدث واقعي عالجه القاص بشكل فني، ويبدو الخيط الرابط بين هذا النص والنصوص الأخرى، بالتركيز على كون هدى تلميذة: "..تركت محفظتها فوق مكتبها يتيمة، تشتاق لدفئها المعهود.." الصفحة74.

ومع أنني لم أكن أعرف مهنة القاص أحمد بلكَاسم، فبعد قراءة مجموعته، أدركت أنني أقرأ لرجل تعليم، حيث لا تخلو قصة من قصص المجموعة، من كلام، أو إشارة، أو وصف يتعلق بالتعليم، ولن يتكلم أحد، أو يحكي، أو يصف بهذه الدقة عن التعليم، إلا رجلا خبره وعرفه وذاق مرارته، ونتمنى أن يتحفنا في نصوصه المقبلة بشخصيات جديدة ومتفردة و فضاءات بألوان قزح.

وإذا كان محرر المحضر في قصة " لعنة باخوس" قال للأستاذ: "..اِحذر لعنة باخوس" فأنا أقول للقاص أحمد بلكاسم، تمتع وأمتع بلعنة السرد، فبركان في حاجة إلى من يحكيها ويحكي لها، وفي حاجة إلى سفراء يحولون شجرة الليمون إلى نص سردي.

الأستاذ : حسن المزوني





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire