رَوَى لَنا أبُو أَنَس مْعمَر صاحِب "المارِد" و"أطفالِ اللّيْلِ"، قالَ : كنتُ بعيداً عنِ الأوطان، فصادَفتُ في الغُربةِ إنْسانا، قُلتُ : منْ أيِّ مَكَان؟ قال : من بَرْكان : فعانقتُه عناقَ الخِلاّن، وسالَتْ من عيْني دمْعتان، فتحرّكَ فِيَّ الشّوقُ والحَنان، وتذكرتُ أحبَّتِّي، وهاجتْ لهُمْ مُهْجَتي. قلتُ : مُذْ تركتُ بَركان وأنَا قَلْبِي حَيرَان. روحِي تمزّقَتْ، وكبِدي تحرّقَتْ، عنِ الربوعِ التي قطنتُها مُذْ كنتُ جَنينا، حتّى صِرْتُ فطينا. قالَ صاحبي : هيا نسترحْ، وأَحْكِ لك ما يُريح، ويُبعِدُ عنْكَ الشّجُون، ويُصفّي دمَك منَ الدّهُون. قلتُ : أخبِرني عنِ الشّباب، والأَهلِ والأصحَاب. سكَتَ صاحِبي هُنيهة، ونظرَ كمَا نظرتْ جُهيْنَة. قال : الشيوخُ ماتُوا والشبابُ حَيْران، أ يقطعُ البحرَ ويغامرُ وبِحياتِه يُقامِر أمْ يَقْضي وقتَه فِي المَلاهِي، يُدخّنُ (الشِّيرَا) ويَسْهرُ في المقاهِي؟ وَأضافَ : خيرةُ الشّبابِ يعيشُ العَطالَة، ويُفْنِي عُمْرهُ في البِطالَة. زهرةُ العُمر لمّا ملّتِ العيش، عرَّضَتْ حياتَها للْقِرش. قلتُ : بالله علَيكَ لا تزِدْ هَمّي، وخَفّفْ وجَعِي ولا تزدْ غَمّي. أخْبرْنِي أخباراً تُفرحُ القلْب، وتكونُ خاليةً منَ الجَدْب، تَنزِلُ علَى النّفْسِ كالبَلْسم، وتَكُونُ خالِيةً من السُمّ
أَخْبرنِي عنِ الزَجّالّينَ والأُدبَاء، والقصّاصينَ والشُّعَراء، وعنِ الإخوةِ الأحْباب و(المشيخَةِ) الأصْحاب.. وعن ذَوِي اليَراع، الذين لهُمْ في الفنِ بَاع، وعنْ أهلِ الطّرب وعنِ الشبّابِ المُغَرَّب
أخْبرْني عَنِ اليعْقوبِي صاحبِ (الطّيرِ والكَصبة)، صَافِي المَحبّة، شاعِر منَ النُّخْبة، جَميلِ الصُحبة، مُحرِّك الوُجدان، الهائِمِ بين الأشجارِ والأفْنان، فوْقَ جبالِ يزناسن يَصْدَح، وبيْن الوِديانِ يَمْرَح. يَتغنّى بالرّجالِ وبالرُّبوع، والأنسابِ والفُروع، يجوبُ
البَرارِي والفيافِي ويجيدُ القوافِي، أَنعِمْ بِهِ مِنْ أخٍ زجّال، حاضرِ البديهةِ والبَال، القائل
يا السّـامَـعْ اسْمَــعْ طيري ماذا را ¤ اسْتَلـْغَ وقْـرا اسْتَفْـصَلْ ذو لَشْعار
ﯕـَصَّـبْ ﯕـَصّابـي مَ هْمـومي نَبْـرا ¤ نـَنـْـﯕـَـرْ الـﯕـَلاّلْ وَنْـغَـنّي بَـجْهـار
وأَخْبِرْني عَنْ صاحِبِ (الجناحِ الهَيمانِ بِنبْعِ ركادةَ الوَسْنان)، الشّاعرِ والرِّوائي الأديب، والدّارسِ الباحثِ الأَريب، عنِ المُومْني الوَلْهانِ بلالّة (خضْرة)، أَشُفِي أَمْ مازالَت بِهِ عَبْرة، الهائمِ في الخُضْرَة، بين ميّاهِ لالَّة (خَضْرَة). بالركّادة مفْتُون، وبِالقَوافِي والأشْعَار مَسْكُون. في أشعَارهِ ألفُ سُؤالٍ ومعنًى، وتطريزٌ ومغنًى، وفي مَعانِيه تُبعَثُ الأشجان، وهو عَيْنٌ منَ الأعيان، القائِل
قلبي من هيامو شمعة
شفاه من سقامو دمعة
وشعاه ف سماه روعة
ومْنار الحاير بالليل
وأَخْبِرني عن الشاعرِ أبو شيّار، وشعرِه الجَميلِ المُختار، ذِي القَلْب الرَّهِيف، والإحْساسِ اللّطيف، وكيْفَ حالُ الوادي بعدَ هدْمِ القنطَرة، أعادَ كمَا كانَ أمْ صارَ مَقبرة؟ وَعَنْ صاحِبِ ديوانِ (أَوتارِ النَّزيفِ) والمَعنَى الخّفيف، القائل
كلُّ الامورِ لها لطفٌ يُنسيهـــا ¤ و ما لِما حَلّ بالنّهر نسيـانُ
مالي سِوى قلبٌ هدّتْه أحــــزانُ ¤ و الحـالُ يُنبئْك عنهُ إنســــانُ
وأخْبرْني عن بَقيّةِ الشُعراء، أ غاَدرُوا القَوافِي، وهَامُوا في الفَيَافي، أَمْ ما زالُوا يَشْعُرون، وعلى دورِ النّشرِ يَبحثُون؟ وعلى قَصائِدهم يُحافِظون. خَبّرْني عن المُكثِرِ مِنهُم والمُقلّ، هُمْ للبَلدِ مَفخَرَة، وكأَنهُم يَكتُبونَ مِنْ مِحْبرَة
وأَخْبرْني عن أصحابِ النّثرِ والبَيان، يتقدَّمهم العتروسُ صاحبُ "لوماروكان"، الكَثِير العَطاء، يَجودُ بسَخَاء، قلمُهُ سَيّال، ولمعانِي الغُربةِ ميَاّل
أَخْبرني عَنْ أَحْوالِ الخلاّدي صاحبِ "البُستان"، الحَريصِ على أخبارِ الشعرِ والبَيان، المهتمِّ بكلِّ ما هو أَصِيل، وهوُ بالثقافةِ كَفيل، ينَشْرُ منَ الكَلامِ كُلَّ رزين، ويهتمّ بالصّوَرِ والتّزْيين، لهُ عينُ رَسّام، ويستحقُّ كلَّ وِسام
وأَخْبرنِي عن الغَازْي صاحِب موقع ِ(زجَلْ)، المُوزّعِ بين المسْرحِ والزّجَل، أَ استطاب المُقامَ أمْ يَقْبَعُ ليرْحَل؟
وأَخْبرْني عن صاحِبِ "أمْواجِ الرّوحِ" في الغُربةِ يكتبُ ويَبوح، المُتغَرّبِ عنِ الدّيار، الباحِث عنِ الحالِ والمسَار، أمَا آن للغريبِ أنْ يَرجِع، وفي بلاده يُبدع؟
وأخبرني عن بَلقاسَم صاحبِ "لعنة باخوس" هل زادَ في جُعبتِه قِصَّة، أم مازالَ يَنتَظرُ الفُرصَة. جَميلةٌ لُغتُه، حُلوةٌ قصَصُه، كتابتُه فيها إبْداع، يكتبُ بلا إسْراع، حِكاياتُه لها معنًى ونثرُه فيه مبنًى، وشُخوصُه بارِعَةُ التّشْخيص، وهُوَ عليْها حَريص.
وأَخبرْني عنِ المَسْرح وهُواتِه، وعنِ الرّمْضانِي وكتاباتِه ونَقْده وعطائه، الحاضِر في كُلِّ نشاطٍ، المُتابِع لكُلِّ (بِساطٍ) أ مَا زالَ مُتنقِّلا، بينَ وجْدة وبركانَ مُرْتَحِلا؟ ولِحضُورهِ مُسَجّلا؟.
وأخبِرْني عَنْ عيسَى وإبْداعِه، ومِهْرجاَنِه وشَطحاتِه، وفُرجتِه وإِخْراجِه، أ مازالَ ينشُط في اللِّقاءات؟ ويتابعُ المِهرجَانات أَمْ نامَ نومَ الدّيْناصُورات؟
وَأَخبرْنِي عنِ المَديُوني المسْكونِ بالخُطوطِ والألْوان، الهائِمِ بِالشُّعورِ والخَيال، بيْنَ السُّهولِ والبِحارِ والجِبال، تَنطقُ الريشةُ في يدِه، ويُكلِّمُ الأَصْباغَ في مَعْمَلِه، قَليلَ الحضورِ في المَعارِض، مُشارِكٌ وغيْرُ مُعارِض
وأَخبِرْني عن مَضْران، المُتعَدِّد المواهِب الفَنّان، والمُمثّلِ المُخرجِ العَجْلان، أَ مازالَ يَرسُمُ تَحْتَ الطَّلب، ويُلبّي طَلبَات كُلِّ منْ يَرغَب؟
وأَخَبرنِي عنِ المَجلِس البَلَدِي، سَمعْتُ أَنّ سَيْرهُ عادِي، يَمْشي كَالحلزُون ويَتقَدّمُ كَالحَيزبُون. آهٍ كمْ مرّتْ منْ مَجالِس، والمُجازُ عاطِلٌ جالِس، هلْ وَجَدَ للعاطِلينَ حيلةٌ، وللمُضرِبينَ وَسيلَة، أَمْ بَقيَتْ دارُ لُقمانَ على حَالِها، حتى يقومَ اللهُ بِأمْرِها.
وأَخْبرْني عنِ (الطّحْطاحَةِ)، وعنِ السُوقِ والسّاحَة، هَلْ اخْتفَتِ الفوْضَى، أَمِ النّاسُ مَرْضى؟ يتسَوّقُون ويَمضُون، وبِالنّظافةِ لا يُبالون
قالَ صَاحِبي: غَطّتِ الفوضَى الباحَات، وامْتلأَتْ بالأوْساخِ السّاحات، والدْروبُ مُحَفَّرَة، والشّوارِعُ مٌقَعرَة، والأَزِقةُ سَوَاقِي ولا تَسألْ عنِ البَاقِي. قُلتُ : يا صاحِبي أنْتَ لمْ تَزدْني إلاّ هَمّا، وَعكَّرْتَ مِزاجي وزِدتَني غَمّا، طلَبتُ عنْدكَ الفَرَح، فَلَمْ تَزدْني غيرَ القَرَح، سامَحكَ اللهُ، ولوْ لم تَكُنْ منْ بَركان لكُنْتُ عَليكَ غَضْبان. وأنشدت : رُوحِي هُناكَ والمُبْتغَى
والسُّلوانُ والأحبةُ والصّحْبُ أنَا الغريبُ الوحيدُ هُنا تُؤْنسُنِي مَواجِعُ الأَسَى والكُتْبُ
معمر بختاوي
معمر بختاوي موقّعاً كتابه عن المسرح © Yamal |
غياب أسماء مبدعين آخريين رائعين يجعلها هذه المقامة الطريفة غير حصرية ... و شكراً لمبدعنا السّي معمر على هذا النص الإبداعي الممتع ... مع التحية والتقدير
RépondreSupprimerالسلام عليكم
Supprimerالصديق العزيز جمال:
هذه نماذج من الأخوة المبدعين ذكرتهم في هذه "المقامة البركانية" وهي تعبر عن جميع المبدعين شعراء، وزجالين، وكتاب، ومسرحيين، ورسامين ..وهي لم تترك أحدا قصدا.
وإذاكنت قد نسيت أحدا فليلتمسلي العذر والصفح، فإني قلت عنهم:" أخْبرنِي عنِ الزَجّالّينَ والأُدبَاء، والقصّاصينَ والشُّعَراء، وعنِ الإخوةِ الأحْباب و(المشيخَةِ) الأصْحاب.. وعن ذَوِي اليَراع، الذين لهُمْ في الفنِ بَاع، وعنْ أهلِ
الطّرب وعنِ الشبّابِ المُغَرَّب"
وقلت أيضا:
خْبرْني عن بَقيّةِ الشُعراء، أغاَدرُوا القَوافِي وهَامُوا في الفَيَافي، أَمْ ما زالُوا يَشْعُرون، وعلى دورِ النّشرِ يَبحثُون؟ و
وأخبرني عن المكثر مِنهُم والمُقلّ، هُمْ للبَلدِ مَفخَرَة، وكأَنهُم يَكتُبونَ مِنْ مِحْبرَة
وأخيرا مودتي وتشكراتي على نشر مقامتكم البركانية