آذان المغرب يعلو من مكبرات الصوت المنبعثة من صوامع أحياء المدينة. يزحف الليل على مدينة بركان، وحركة بعض شوارعه تمدد النهار ولا تستسلم كما تفعل في فصل الشتاء. شارع ابن سينا - شارع الذهب أوشارع الحب كما تسميه الذاكرة الشعبية- مازال يغلي في هذا الوقت، يقـــاوم بالحركـــة أكثر. يفتح ذراعيــه للوافدين عليه، ويستقبلهم بسعة صدر. مقاهيه ماتزال ملأى بالزبائن وكذلك متاجره التي تباع فيها السلع المستهلكة في الحفلات والأعراس، تؤخر الإغلاق وتشارك في جلب المزيد من الحركة. ساحة "الطحطاحة" المتدفقة من حي العيون تدفع بالكثير من المارة إلى وسط المدينة، وتستقبل العائدين إلى منازلهم وهم كُثر. سيدي سليمان وحي حمزة وحي المقاومة وبايو، أحياء تستعيد سكينة الليل فلا تقاوم بالحركة. تستسلم للراحة بوتيرة أسرع.
حي بوهديلة -أبوهذيلة- :البوابة المطلة على حقول الليمون للسليمانية، مداغ ،شراعة... والمنفذ الرئيس إلى شاطئ رأس الماء يستقبل الشاحنات والعربات المجرورة بالجرارات، ينزل منها العمال المياومون العائدون من حقول الضواحي فرقا ومجموعات غير متساوية العدد. تقف كل مجموعة بجانب العربة أو الشاحنة التي أقلّتها تنتظر أجور يومها ومصير غدها.
بجانب العربة المجرورة، وقف بوعمامة ورفاقه ملتفين حول ربّ المزرعة، عيونهم محدّقة في وجهه وحركاته، متطلعين إلى ما سيقرر. يتسع الأمل في النفوس للفوز بيوم آخر من العمل ثم يخفق. يسرّح الفلاح بعضهم، فيؤدي لهم أجورهم وعبارات تتردد:
- "أسمحنا في عذابك أسيدي. سامحينا في عذابك آلالة".
- الله يخلف. .الله يخلف..الله يخلف...
وللذين لم يسرّحهم يضرب موعدا في البوابة عند طلوع الفجر. ينتشرون في الأرض، تسوقهم إلى بيوتهم خطوات متثاقلة متهالكة، يساومهم النوم في الطريق من شدّة التعب. رؤوس بعضهم مازالت مشدودة بخرق مبللة، عُوّمت في ماء ساقية ملوية مرات عدّة. تعفنت رائحتها بالعرق المتدفق منذ الصباح. أحذية روائحها نتنت من كثرة العفسّ بين الأشجار وعلى مجاري المياه والأتربة. بطون ملتوية بجوع آخر النهار وتعبه، طوفوا حولها أقمصة في الصباح، وثبتوها على سرّاتهم في المساء.
تتسلل إلى نفوس بعضهم فرحة فاترة بكسب يومهم، وبزاد من الغلة التي قطفوها في جرابهم. وفرحة زائدة سرت عند المحتفظ بهم ليوم آخرمن العمل سيشتغلونه في المزرعة. تكسّر طعم النشوة الفاترة سيارات متطايرة في البوابة، فاتنة ألوانها، تنوعت أجناسها: منها الداخلية والخارجية، تصدح منها الموسيقىالصاخبة، تقزز خواطرالبعض وتدغدغ خواطر البعض الآخر.
على لوحاتها المتنوعة يقرأ بوعمامة كفّ كسبه وآماله. تتبدد فاق كل أمل في ذهنه. تنغلق أساريره ولا تنفتح له شهية العمل ليوم غده. يلوّح بعينيه خلف البحر. ينظر إلى السماء. يطأطئ رأسه. يركل برجله في الهواء، ثم يستسلم للمشي منقادا غير معاند، تجرّه إلى بيته طريقه التي ألفتها رجلاه. لسانه يتحرك في فمه، يلعن السيارات وضوضاءها في صمت.
مصطفى شعبان
كاتب مغربي مقيم في باريس.
رواية : مرايــــــــــا
ص :71-72
شكراً للمبدع مصطفى شعبان الذي اختار لزوار البستان هذا النص المقتطف من روايته مرايا لعلاقته بأجواء مسقط رأسه : بركان ... لك منّي أخي الكريم التحية والتقدير
RépondreSupprimer