24/02/2012

انكسار الأحلام وانتصار الرماد

قراءة في أوراق الرماد  للكاتب محمد العتروس


أوراق الرماد
رواية
محمد العتروس
طبع : شركة الأنوار المغاربية ¤ وجدة
الطبعة الأولى 2010




لأول مرة تلح علي الرغبة في الكتابة عن عمل قبل أن أنتهي من قراءته،
فحتى قبل أن أنتهي من قراءة رواية أوراق الرماد للكاتب محمد العتروس وجدت نفسي مشدودا لعوالمها وشخوصها ومنجذبا لتأمل المصائر التي يرسمها الكاتب بحذق ومهارة  فنية ولغوية نادرة ......
مصير مدينة ومصائر أطفال صاروا رجالا بعد أن جرفتهم أقدار التحولات في تياراتها الهادرة .
  والحقيقة فأنا لم أشعر بالمرة  بأنني أحمل بين يدي كتابا وإنما شعرت وأنا في كامل وعيي بالنشوة التي يحسها من يعتصر شهدة العسل ... فالرواية تقطر عسلا من فن القول وانسياب الحكي و  فرادة الأمكنة والشخوص .....
فهل يمكن أن أنسى الآن  بعد أن انتهيت من القراءة كل تلك الأسماء التي تفننت الأقدار الخفية(براعة الروائي وتركيبة المجتمع )في جعلها تتصل وتنفصل لتنسج في الائتلاف والاختلاف تاريخا مشتركا لأفراد ومجتمع أو لأفراد ليسوا في نهاية الأمر غير المجتمع الذي أنجبهم ؟ ،أفراد صنعوا تاريخهم خارج إرادة الكاتب ، فهو لا يملك غير أن يتابع ويسجل ويشهد أو يحترق كلما حاول انقاد أحلامه من الاحتراق ( ألم يتحول رماد الأوراق في نهاية الأمر إلى مداد ؟...أو ليس بفضل رماد الأحلام كتبت أوراق الرماد ؟)
   هل يمكن أن أنسى الأم الحنون وهي تهيئ الإفطار  أو تنتظر  الولد على باب الدار أو تحمله الحقيبة الخضراء وتسخر من كسره  البيضات المسروقة وتولول خائفة من أن تسرقه دروب الشر في غفلة منها؟
    تلك الأم ...أمنا جميعا ...تلك الأم أمهاتنا...هكذا نتذكرهن يطهين الخبز وينتظرن عند الأبواب عودة الأبناء...من المدارس أو من المحابس أومن غربة الدرب المظلم للحياة...هكذا هن في الذاكرة وفي الكتابة وفي السويداء من القلب...
    أو كيف  أنسى سام لألماني؟ ... إيه يا سام لألماني الذي دفن مأساته بين جوانحه ومضى إلى نهايته حزينا ووحيدا  يهرب من كل من اقترب منه  .. يهرب من الحبيبة القديمة والصديق القديم .... لا  أمن في هذا العالم ولا أمان ...
..والعار لا يزول ولا حتى بالدم..سيحمل عاره على جبينه كمن يمشي بصليبه على ظهره...
    هل انتقم فعلا لكرامته بقتل غريمه ولد الذين؟...وهل استعاد كرامته حتى يستعيد الحبيبة والصديق والأمل في الحياة؟..لقد انتهى بلا أمل في أن يعود من جديد إلى ما كان عليه في طفولته الأولى : لألماني الزين ولكن ولد الشعب  .. لقد انتهى مثلما انتهى أولاد  الشعب..
  تغير كل شيء .. وحتى و إن كانت الأمكنة هي نفسها فلا شيء بقي على حاله .
    ثم كيف أنسى الأب الذي قاوم الاستعمار و أنفه  مرفوعة إلى السماء وجاء الاستقلال لتدوس ظهره أحدية كمشة من الصلاكيط ؟.
الأب مات  بغصتين .. واحدة في الحلق والثانية في القلب .   
كمشة من صلاكيط داست كل شيء .. تاريخه وأوجاعه ونضاله وأحلامه ...  وكسرت المزهرية التي كانت الأسرة تحتفظ بها في غرفة الوالدين ولا تضعها على التلفزة ولا في الصالة خوفا عليها من عبث الصغار  .. الصغار لا يكسرون .. الصغار ينكسرون فقط كما انكسر سام لا لماني ..
   الأب الذي حارب الاستعمار يرى كمشة من صلاكيط تدوس كرامته وتاريخه ومزهرية الوطن...و بعد أن صار الوطن مستقلا صار الأب بلا وطن ..
       الوحيد المستفيد:
  عباس الحماس ... آكل الجيفة ... الجزار بائع لحم الحمار الذي اغتنى وانتفش وصار قطا سمينا  ككل القطط السمان يركب السيارات الفارهة ويدخل البرلمان.
المستفيد ...
المستفيدون أولاد الذين ....
  أهي سخرية الأقدار أم سخرية الأحلام الموءودة أم سخرية الاستقلالات الخائبة أم سخرية التحولات العنيفة المشوهة والمعاقة أن يصبح  المستفيد الوحيد أولاد الذين .....  أكلة الجيف وباعة الجيف .
الجيف وحدها خرجت منتصرة لأنها بلا روح .
   الكائنات الممتلئة كرامة وعزة وطهارة ونبلا تخرج خاسرة وقاصرة عن فهم ما جرى ومتحسرة عما فاتها..أما الجيف الممتلئة قذارة وحقارة ولؤما فتركب السيارات الفارهة وتلوح بأيديها شامتة ومنتصرة على زمن أعطاها بالباطل حق تصدر الواجهة وجعل الأب يموت بغصته ... وجعل الأخ المعتقل السابق يقفل عليه غرفته مفضلا ظلامها على ظلام النهار أو ظلم الإنسان سيان لأن النور ليس ما نراه ولا ما يجعلنا نرى وإنما هو ما ينبعث من شموع قلوبنا ، وإذا انطفأت شمعة القلب ففيما ذا ينفع أن نفتح نوافذ الغرف وأبوابها أو نغلق على أنفسنا في غرفة مظلمة ؟.
   هل يجب أن أتحدث عن أحلام.........هي الأحلام ؟؟ .
بل يجب ألا أتحدث إلا عن أحلام....إلا عن الأحلام....التي ليست أبدا في موعدها لا مع الكاتب ولا مع نفسها...يتركها حين تأتيه وحين يأتيها لا يجدها .
أحلام كاتب....أحلام الكتابة .
أحلام جيل ومجتمع تشكل في غيبة أبنائه و تحول قبل عودتهم...وحين عادوا من غربتهم أو غيبوبتهم ولم يجدوه كما أرادوا أخذوا يستعيدونه شبرا شبرا..حلما حلما..وذكرى بعد الأخرى...
ورقة ورقة .
ينفخون في رماد الأوراق لعل الحياة تعود من جديد لما أحبوه في مدينتهم / مجتمعهم / بلا دهم .
كاتب لا يحلم إلا بالسفر.
ولا يكتب إلا حين يغادر.
ويكتب حين يعود...... وبين ذهابه وإيابه يلتقط التفاصيل العصية ويعيد تأثيث المكان الحبيب / المكان الجديد/ المكان المتحول/ المكان الأصل .
المكان الأول لا يتحول .
المكان الأول كالحبيب الأول.
نعيد بناءه باستمرار إلى ما لا نهاية كنوع من التعويض أو كنوع من الاعتذار
عن  خطأ ما ارتكبناه في حقه أو تركنا أولاد الذين يرتكبونه في حقه .
الكاتب (محمد العتروس) يأخذ ك إلى كل الأمكنة ويسميها بأسمائها...المدرسة/ الأزقة/  الأحياء والناس والأشياء...وحين يستقر بك القلب في موطن القلب يستدعي الكاتب أهل المكان ..الأم بأهازيجها والأطفال بألعابهم وشيطنتهم والرجال بأغانيهم ومغانمهم ولا ينسى شيئا بالمرة ..لا ينسى حتى ما ينساه الجميع عادة ..لا ينسى المنبوذين والمهمشين والحشاشين والسكارى ومهابيل / حكماء المدينة..يؤرخ لهم بالاسم /بالأسماء الصريحة وبالكلمات الواضحة لأن الكلمات سلاحه لمقاومة النسيان والنبذ والتهميش..الكاتب يستعيد مجد المدينة كله ويستعيد طفولتها وتاريخها بكل عناصره ...لأنها طفولته وتاريخه وذاكرته...فكيف يذري مع الرماد بعضا من ذاكرته ؟... وهو في تماهيه معها يجعلها له أما و  حين يغادر فمن جسمها يخرج وحين يعود فإلى رحمها يعود ،
وكيف يغفل عن شيء أو ينساه ؟.. وهو كلما أعاد بناء المدينة  هربت منه... تهرب أحلام ويهرب سام ويهرب الأب ويهرب علي وربما حتى ولد الذين يهرب وعباس الحماس يهرب أو انه هو- أي الكاتب - الذي يهرب منهم جميعا ...وهو يحاول إعادة تجميعهم في مكان واحد وتوطينهم في الكتابة بعد أن أحرقتهم أحلامه ..أحرقتهم الأحلام وجعلتهم  أوراق  رماد .
هل يستعاد الرماد ؟
هل نعيد الحياة إلى ما كان ؟
وحين يعود وتعود إليه الحياة هل يكون فعلا كما كان؟
هل سيستعيد الأب كرامته والأم ابنها وعلي حياته وسام و أحلام ودنو......ووووووو ماذا سيصيرون غير ما كانوا عليه أو جرت به المقادير عليهم ؟
أية أمانة فكرية ومسؤولية أدبية وإبداعية إذا  أكثر من هذه التي يفتح رماد روايتها ويحرق أوراق أحلامها الكاتب المبدع محمد العتروس أمام أعيننا ؟ .
لقد اختار شخوص روايته بعناية فائقة و أجرى عليهم مقادير الحياة....تركهم يواجهون مصائرهم المتفردة دون أن يبدل أو يغير... فالحياة هي التي تبدل وتغير والتحولات المجتمعية هي التي تبدل وتغير ...الشخوص/الأشخاص هم أبناء التاريخ وليسو ا أبناء الخيال.. يصنعهم المجتمع ولا تصنعهم الكتابة...الكتابة مجرد شهادة.. الكاتب مجرد شاهد ...يشهد بالحق أو بالباطل على مصائر تعكس ما حصل لمجتمع  بأسره و لبلاد بأكملها  ...تحولات ما بعد الاستقلال....... أطفال ما بعد الاستقلال ....رجال الحاضر....أحلام الغبار والنار وأوراق الرماد.
...مصائر مأساوية لشخوص محبطة و لجيل محبط..اغتصب تاريخه و ديس على كرامته وكسرت مزهرية أيامه وأحلامه... وفاز الأنذال والجيف وباعة لحم الحمير  بالمدينة...  قطعوا أوصالها وتوزعوها كالغنيمة ......أولاد الذين.... الذين  لم يخوضوا حربا أبدا......
ما الفرق بين مصير سام لا لماني ومصير علي المعتقل السابق ؟
كلاهما اعتقل وكلاهما خرج  من السجن ..محبطا  بلا مستقبل وبلا أمل...وبلا خيار ....غير الهروب من البلاد أو الهروب من الضوء.
وحين سيقرر علي أخيرا الخروج من عزلته ومن غرفته ...هل يفعل ذلك إراديا رغبة في العيش والأنس وبحثا عن العشير ؟ ..أم يفعل ذلك لأنه لا يزال يحمل بذرة الأمل  ويحلم بالحياة ......وبمستقبل جديد ..؟
 ولماذا تمر السيارة الفارهة لعباس الحماس في الوقت الذي لا يريدها  أحد  أن تمر لتذكره بانتصار الأنذال على الرجال ؟
وهل كان هؤلاء الشخوص مجرد أطفال كبروا في غفلة من الزمن وقادتهم مصائرهم إلى مستقبل لم يختاروه ولم يصنعوه ؟ أم أنهم الأبطال الجدد للتحولات التي لحقت بلادهم من الاستقلال  حتى أوراق الرماد.....؟
أليست أوراق الرماد هي شهادة حياتهم الوحيدة و الحقيقية؟؟
أين الخاص وأين العام؟
أين الفرد وأين المجتمع؟
أين تنتهي المدينة وأين يبدأ الوطن ؟
هاهنا تتجلى  العبقرية الخاصة للمبدع محمد العتروس  وهو يشكل  البناء و يؤثث  الفضاء و يحرك  الشخوص .
 هاهنا حذق  الروائي وبراعة الكاتب .
كيف نكتب الحكاية ونصنع المعمار البديع؟
كيف ننهل من النبع السيال للغة؟
كيف نكتب رواية ناجحة ونضع بين يدي القارئ شهد العسل ؟
هذا ما قام به العتروس بكل جدارة وهو يقدم للقارئ المغربي والعربي روايته ...(أوراق الرماد )
ولعل من سينتهي من قراءتها سيشعر بنفس المتعة واللذة الغامرة التي شعرت بها وأنا  أعيد  قراءتها .
سيشعر بأنه  قد خرج لتوه من مرتع روض تفنن صاحبه في تنظيم أرجائه وتلوينه وتكوينه من أبهى ما بين جوانحه من حب للأرض وللأهل وللوطن الذي لا يترك في حلق أبنائه الخلص غير غصة ..تصعد وتهبط مع كل كلمة يقولونها أو حرف يكتبونه .
وكما تبقى بعد كل نزهة أنفاس الإنسان تحمل شذى وعطر المكان الذي مر به فان أوراق الرماد تبقى عالقة بالعقل والوجدان والذاكرة.
رائحة الناس ورائحة الأمكنة.
رائحة الماضي الذي يعيده الكاتب إلى الحياة لكي يسائل الحاضر:
ما الذي تغير ؟
وكيف تغير ما تغير...وسقط كل شيء ... ولم يبق  لأحمد غير أن يغادر مرة أخرى؟.
كثيرة هي الأعمال التي تناولت موضوع العودة إلى زمن مضى...فردوس مفقود..موطن..مكان ..بلدة أو مدينة ؛ مبدعون  يقودهم الشوق الجارف ويشدهم الحنين لاسترجاع ما كان أو فهم ما حصل لهم  ولأهلهم  ..ينظرون بعين الماضي إلى الحاضر ساخرين أو ثائرين أو ساخطين أو غاضبين أو متألمين أو متحسرين أو مجاهرين برفضهم لكل ما حصل ... أو فقط محبطين وخائبين وخائفين من مواجهة عالم لم يشاركوا في صنعه فأتى على خلاف توقعاتهم  ؛
لكنها قليلة تلك الأعمال التي تستطيع انجاز مهمتها فعلا فتشد القارئ إلى عوالمها وتحمله وهو يتابع مصائر الشخوص على الانتباه إلى أن الأمكنة التي ترتادها الرواية هي  الأمكنة نفسها التي كان يرتادها في طفولته  و أن  الشخوص الذين عبروا حياة الكاتب هم ا لشخوص /الأشخاص أنفسهم الذين عبروا حياته .. و أن  الكاتب نفسه ليس سوى القارئ وقد صار بطلا للحكاية بعد أن تملكها بفعل القراءة .....وأوراق الرماد واحدة من هذه الأعمال.
فتحية لأحمد وعلي والأحلام المشتركة
تحية لأحلام وهي تذري رماد الرسائل من فوق السطوح لتجعلها مشاعا بين أبناء المدينة /الوطن.
تحية للأب  للأم الصامتة..
تحية لسام لألماني
لكانوخ...وسيدي عبد السلام دنو ... وتحية أخرى للأحلام التي تستحق التحية...وعلى رأي أو شعر الشيخ اليونسي :
......................................................
واحدعطاه ربي يركد غ ف المطارح والريش
واحد عطاه ربي حتى اللوطو دار ليها عساس
واحد لبدا غريب ومودر في بلادات الناس
......................................................
ووحده عباس الحماس لا يستحق.. فأولاد الذين لا يستحقون غير مجد الجيف .
                    
          

2012 القنيطرة21/2/

3 commentaires:

  1. شكراً جزيلاً للأستاذ الفاضل جمال الدين الذي بعث إلى البستان الشرقي بهذه القراءة الشيقة في رواية مبدعنا محمد العتروس ... تقبّل السيّ جمال الدين منّا التحية و التقدير

    RépondreSupprimer
  2. عرفت سي جمال روائيا'ثلاث روايات"وشاعرا بالفصحى والعامية،وقاصا،وها إني اكتشف فيه دارسا وناقدا ملما بخبايا النصوص وزوايا النظر والعوالم المتشكلة فيها من خلال هذه القراءة الشيقة العاشقة التي ستدفع(ني)لأعادة اكتشاف أوراق الرماد..شكرا جمال الدين وشكرا جمال على النشر.دامت مدوناتك كتابا منشورا

    RépondreSupprimer
  3. قراءة جميلة بمثابة فاتح للشهية لإعادة قراءة أوراق الرماد من جديد
    تحياتي للأخ جمال الدين حريفي
    أحمد بلكاسم بركان 25/2/2012

    RépondreSupprimer