12/03/2012

جمالية الحوار في - مطعم اللحم الآدمي - للقاص المغربي الحسن بنمونة

                            

ما الذي يجعل قصة قصيرة أكثر نضجا من مثيلتها؟ طبعا تختلف الإجابة على هذا السؤال من ناقد إلى آخر و من قاص إلى آخر ، لكن يبقى في تقديري المتواضع أن تكنيك الكتابة هو الفيصل في تفضيل قصة عن أخرى ، فالموضوعات لا تحدد قيمة النص بل طريقة كتابه ، و أعتقد أن هذا التكنيك يروم بالدرجة الأولى ابتعاد الكاتب - قدر الإمكان عن التجريد و الغنائية المفرطة و البوح و التداعيات ، و لا يتحقق كل ذلك إلا بتجسيد الأحداث ، و النزوع نحو الدرامية و تعدد الأصوات ، فكلما تحقق للنص شيء من ذلك استطاع نيل إعجاب قارئه.

و يعد الحوار من بين التقنيات المفيدة في هذا المجال ، إذ يسمح -إن حسن توظيفه- للشخصيات بأن تكون وجها لوجه مع   المتلقي دون أن ينوب عنها السارد أو القاص ، ليحكي له ما تفكر فيه أو ما ترغب القيام به .و الحوار تقتبسه القصة من الكتابة المسرحية ، التي لا يخفى على أحد مدى الدرامية التي تتمتع بها ، حتى أن هناك من يطلق عليها الدراما هي نفسها ، و هذه الدرامية ليست سوى الصراع في أبسط تعريف لها.
و قد فطن القاص المغربي  الحسن بنمونة في مجموعته القصصية مطعم اللحم الآدمي  إلى أهمية الحوار في الكتابة القصصية ، فجعل منه تكنيكا غالبا و مهيمنا في الكثير من قصصه ، و قد استهواه ذلك حتى جعل منه اللحمة الأساسية و المكون الرئيس لنصوص بعينها ، كما هو الشأن في قصص انقلابات ثقافية - آه منا نحن النعامات - حوار صامت - خدمات -  سحابة صيف -  كن يقظا..

و يتخذ الحوار في المجموعة القصصية أشكالا عدة ، فقد يساهم- مثلا- في بناء الحدث و ينوب عن السرد في ذلك ، كما هو الحال في قصة المحو ، يقول القاص في ص 31
زار رجل شيخا هرما في بيت اعتلى ربوة تطل على القرية تعج بالحياة
- مابك يا بني؟
- ارتكبت خطايا ..و انا أريد محوها.
-ماذا ارتكبت؟
- قتلت رجلين ، و سرقت بيوتا آمنة و وشيت بأبرياء
صاح في وجهه غاضبا
- كفى .كف
ى..أهذا كل شيء؟
أجل مولاي
أمسك به ثم اتجها صوب بئر بدت مهجورة . دفعه من خلف فسقط في الحضيض....

       و في قصص أخرى يعمد القاص إلى توظيف الحوار للكشف عن مكنونات الشخصيات و ما تفكر فيه ، لهذا كان الحوار استكشافيا لا يساهم بالضرورة في تطوير الأحداث كما هو الشأن في قصة الدمى البشرية التي يقول فيها في الصفحة 27
قبلت ظهر يده شكرا و امتنانا ، فالكتاب كلهم يقولون إنه أبوهم الأدبي
- ماذا تكتب؟
- أكتب قصصا.
- للأطفال
-لا للكبار
- و ما شأنك بالكبار؟
- لأنني كبرت
- لم توهم نفسك أنك فتى؟
- سأفعل إن شاء الله.
أحيانا يخيل إليك أنك تكتب للأطفال . قد يحدث العكس. لا أحد يرسم قدره

- أنا؟ لست أدري . ما كتبته كان لعبا بالدمى ، أعني الدمى البشرية....
و قد يصبح هذا الحوار عجائبيا أو غرائبيا، يجري على لسان الحيوانات ، تماهيا مع قصص كليلة و دمنة ، و فابلات لافونتين ، كما حدث في قصة " آه منا نحن النعامات " التي أثبت القاص في تصديرها تأثره بالقاص التركي الساخر عزيز نيسين ، و خاصة بقصته " آه منا نحن الحمير ، يقول القاص في ص 41.
- انظري ..يا لهول ما أرى..غريمي.
- من ؟ أهو صياد النعام؟
- زوجي الذي يهددني بالرجوع إلى بيت الزوجية.. أمقته مقتا شديدا .. أود لو أقطعه إربا إربا
- هوني على نفسك يا أختاه.
- إنه يدنو منا.. آه منكم أيها النعام المصاب بالجرب.
- لا تدعي الغضب يشل بدنك.. ادفني رأسك في التراب.
- لو كان ركلا لهان الأمر.. و لكنه تراب.
و يستمر هذا الحوار العجائبي في حوار صامت بين إله الخصب و إله القحط ، يقول القاص في ص 45
- لا أدري ما أصاب هؤلاء البشر؟ أنا إله الخصب أرسل إليهم المطر لأرى النبات يشق التراب ، فلا أكاد ألمح شيئا يذكر.
- فهل تتهمني بالخيانة ، و كأنني أنا إله القحط من يقتل زرعهم ؟
- أريد أن أعرف السبب .. ماذا يجريهناك؟
- لن أكتمك سرا إذا قلت لك إنني عطلت أفعالي الدنيئة .. لم أعد أهتم بالبشر.. صرت مشغولا بمرضي و عوزي.

و إذا كان القاص الحسن بنمونة قد اختار تغليب كفة الحوار على السرد و الوصف في كثير من قصصه ، فإنه قد التجأ في قصص أخرى إلى خلق نوع من التوازن بين هذه المكونات ، حتى لا تفقد القصة القصيرة هويتها و هذا ما نجده مثلا في قصة "فاوست" ص 61 ، حيث يقول السارد
" ها هو صاحب المنزل يخف إلى الباب زاعقا في أولاده و أحفاده .. يطالعه وجه غير مكترث بما يدور حوله ، ينبعث منه الألم ..و لكنه غير مبال.
- سيدي .. جئت لأقول لك..
- من أنت ؟
- ألا تذكرني؟
- كلا سيدي .. من أنتظ
- قبل ثلاثة عقود أقرضتني مالا.. أ لا تذكر هذا؟
- لا أذكر شيئا.
- جئت لأكفر عن ذنبي . أعرف أنني آلمتك لأنك أحسنت إلي.. و لكن لنعقد اتفاقا يقضي بأن تمهلني سنة كلما وقع بصرك علي.
و تمضي نصوص المجموعة على هذا المنوال توازي بين السرد و الوصف و الحوار حينا و تغلب كفه أحدها حينا آخر ، لكن تبقى ميزة توظيف الحوار في هذه المجموعة الجميلة جلية و معبرة  و قد منحت الكثير من النصوص بعدا دراميا واضحا فعمق البعد الموضوعي للقصص و منحها تعددا في الأصوات و الرؤى تحاشيا لهيمنة الصوت الواحد و الوحيد الذي غالبا ما تسقط في شباكه الكثير من القصص و القصاصين.

                                                  بقلم القاص المغربي مصطفى الغثيري .


   
  



مطعم اللحم الآدمي يرحب بكم
قصص
الحسن بنمونة
الناشر : سندباد للنشر و الإعلام بالقاهرة
الطبعة الأولى 2009


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire