08/02/2013

لـم أر الشـلالات مـن أعلــى الرواية بين المتن والحاشية

 لم أر الشلالات من أعلى 
رواية
محمد ميلود غرافي 

دار الغاوون ـ بيروت 

ط 1 ـ 2011


رواية " لم أر الشلالات من أعلى هي الرواية البكر للدكتور الشاعر محمد ميلود غرافي الصادرة عن 
دار الغاوون / بيروت، والتي أشاحت الخمار على كثير من الصفحات الحالكة في تاريخ المغرب: كرشق المتظاهرين بالرصاص الحي فيما يسمى بثورة الخبز سنة أربع وثمانين ،أو ما يسمى بسنين الجمر والرصاص التي جاءت في حكي الأب. ثم تاليا الهجوم بالأفكار المضللة كرؤية الملك محمد الخامس على وجه القمر. لكنه في عموم الرواية يعطي الروائي لشخصياته أبعادا عالمية، فكل العرب الذين يعيشون الغربة والاِ غتراب في باريس لا يذكرون أوطانهم إلا باسم " البلاد" التي تعني أحيانا المغرب وأحيانا أخرى الجزائر.

يطالعنا العنوان من خلال صفحة الغلاف فنشرع في قراءة الرواية محاولين سبر أغواره وما يضمره، ظنا منّا انه هذه هي العتبة الوحيدة التي تفضي بنا إلى فناء الدار. ولكننا نُفاجأ بنسخة لعقد زواج تتصدر الرواية فتتسع الهوة أكثر بيننا وبين مكونات العنوان، بل نجد أنفسنا أمام متوازيات نصية أخرى تقتضي منا أن نستظل بظلها ونحن نسيح في جنبات النص المركزي الرئيس . لكنه ما إن تبدأ عملية السرد حتى يتم تجسير هذه الهوة وتتبدى لنا العتبة أكثر حضورا " ها الشلالات تبدو الآن أقرب إلى القلب منها إلى الوادي"  ص 13. إنها تبدو أقرب إلى القلب، لكنه لم يرها بعينيه، بل بعيني قلبه، وهذه العبارة الواردة في النص هي التي تؤكد لنا بأن عتبة لنص كان لزاما علينا اعتبارها "مفتاحا أساسيا يتسلح به المحلل للولوج إلى أغوار النص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها(1)". كما أن التشبيهات أيضا كانت تحيل أحيانا على العنوان: "كأني ارتميت على ريبيكا من عل"  ص13، ذلك العلو الذي لم يستطع أن يرى من خلاله الشلالات. ثم يتضح تاليا أن العنوان قد ترك بصمته أكثر على طريقة صياغة أسيقة الكلام - سيما في الصفحات الأولى من الرواية - إذ أن الإستعارات كانت تحيل على مكون أساسي من مكونات العنوان " وريبيكا وحدها مازالت ترتطم على صدري مثل شلالات بلاد الغال17. ثم بعد ذلك نمضي في التهام عشرات الصفحات لتطل علينا حقيقة العنوان مرفوقة بشيء من الغبش:" ريبيكا تقول إن منظر الشلالات من قمة الجبل لا مثيل له" ص63  ثم ما يلبث أن يكاشفنا بصيغة العنوان كاملة بعد أسطر معدودة ليتجه رأسا إلى تأويل المشهد كما لو أنه يعبر رؤيا:" لم أر الشلالات من أعلى. هذا أحسن. ربما لأن نصف الطريق مع ريبيكا كاف" ص63

بعد انفكاك عقدة العنوان، يظل عقد الزواج هو اللغز الذي يلهث القارئ  لفك طلاسمه وفهم العلة التي تكمن وراءه. فعلى الرغم من الضبابية التي تكتنفه إلا أنها تنجلي في الصفحات الأولى، ولكن ذِكره يأتي في سياق يفتح الباب على مصراعيه ليزج بالقارئ في حضن الغموض فيتملّكه شعور قوي بأن يسابق الصفحات حتى يحطَّ هذا العبء عن كاهله. " وعقد زواج أبي وأمي وأنا وكل هذه الضوضاء في صدري وهذا الحكي خرافة ليس إلا" ص15. عقد الزواج خرافة بالمفهوم السيولوجي للكلمة،  إرث تناقلته الأجيال. وتموقع كلمة خرافة في مستهل الرواية  على هذا النحو، جعلتنا نتكهن أن كل ما سنطلع عليه محض سراب. وها هي الأم تنتظر ابنها حتى يكبر فتنبش عن ذلك الإرث: " مدت إلي أمي بعقد زواجها. قالت اقرأ هذا الكاغد!"  ص83. ذلك الميثاق الغليظ استاحال إلى ورقة. مجرد ورقة / كاغد. على الرغم من أميتها إلا أن إحساسا ما راودها عن خلل يشوب هذا العقد، وهو الخلل نفسه الذي دفع الراوي/ الابن إلى أن يصفه ـ ضمن ما وصف ـ بالخرافة:" وجه أمي أبيض ناصع..وجميل كوجه أم وليس به وشم" ص84. إنها الملامح التي تخالف ما جاء في العقد. ولعلها العقدة التي سكنت الابن/الراوي فأخذ على عاتقه ألا يكون عقد الزواج إلا على وجهه الأصح وهو ما كان يصر عليه في علاقته مع ريبيكا، ولذلك قالت له: " أنت تعطي قيمة كبيرة لعقد الزواج" ص106.
  
إن كان وصف عقد الرزواج بالخرافة قد هز القارئ، فإن وصف عملية الحكي ذاتها بالخرافة قد زلزلته زلزالا شديدا. " وهذا الحكي خرافة ليس إلا" ص15. أكل الذي كنا نرفل فيه على مدار النص خرافة ليس إلا؟ والخرافة وحدها هي التي أوحت بكتابة هذا النص؟ والخرافة هي الأسمال التي نأتزر بها حتى تنتهي لعبة لحكي؟ تظل هذه الأسئلة عالقة على مدار أكثر من مائة صفحة حتى تلقي الرواية بين أيدينا بالعبارة التي تعدل الميزان:" ليست الخرافة دوما من إنتاج الخيال"ص134. وماذا غير الخيال إلا الواقع؟ إنه الواقع بسيماته الخرافية!

في الرواية مقاطع تحيلنا على الحقبة الزمنية التي تعتمل فيها الأحداث المهجرية إذ يصور صخب الحياة الباريسية، وهو ما يجعل الوافد عليها يغادرها منهك القوى متعبا غاية التعب." يا إلهي! عشرة منبهات ترن على التوالي كل صباح!" ص52  ثم يلي بعد ذلك مشاهد ترسم للقارئ ما تزامن مع هذه الحقبة الزمنية من تغيرات على مستوى الحياة الإجتماعية." يدخنون ويشربون على أنغام دحمان الحراش.....ثم تسمعني أغنيتي المفضلة كاين ربي وكاين ربي بصوت المازوني"ص121 إن بارات باريس "تبلدتْ". 


هذه الإحترافية في الكتابة السردية  لا أراها تنجم عن المخاض الأول. إذ لابد ـ وهذا أغلب ظنتي ـ أن تكون للكاتب أسقاط في الحقل الروائي استمد منها هذا العنفوان السردي والدربة الروائية. فالعلاقة الحميمية التي يشهد لها الوجود بين الابن والأب تتسلل إلى تقنيات السرد في هذا العمل الذي بين أيدينا. ففي عملية الحكي التي يتزعمها الابن ـ صاحب المستوى الجامعي ـ  بلغة مرموزة حينا  ومباشرة أحيانا أخرى، يوازيها سرد الأب بلغة دانية واضحة يجعل منها حاشية موازية لمتن الابن المتسلسل. وهذا ما نلمسه في غير ما موضع، فمثلا عندما ينتهي الابن من الحديث عن المسجد في باريس " كان أبّا عباس يمقت الداخلين إلى المسجد للصلاة. يقول هؤلاء كفار. لو كانوا مسلمين فعلا لتوضأوا في بيوتهم وتركونا ننام حتى الصباح " ص48  بعد هذه الفقرة مباشرة يستأنف الراوي/الأب الحديث عن نفس البقعة-المسجد في الجزائر، وكلاهما يعاني" أتذكر أسوأ أيام حياتي بهذا المسجد" ص49.

تأوي الرواية في طياتها  حالات نفسية مرتبكة كحالة كريم الذي خرج من السجن وجعل يردد آيات قرآنية بصوت صاخب ويتعامل مع البخور، ثم حالة أمقران الذي تاب في شهر رمضان وجعل يزعج الناس بأسئلته عن مواقيت الصلاة لينتهي أخيرا
إلى البار والعهر. مثل هذه الإشارات تميط اللثام عن حالات القلق والإرتباك التي تسكن علاقة الفرد المغترب بين الجواني-الروحاني والبراني-الواقعي. إنها وطأة الإغتراب بثقلها الرمادي...إنها قبضة الإغتراب التي لا تشد إلا على الإنسان المغترب.
الرواية غنية في احاديثها عن اهوال الغربة والاغتراب تحتاج منا الى وقفات تأملية واسعة لإماطاة اللثام على بعضٍ من جوانبها ولعل التقديم البسيط – مقال صحفي -لهذا العمل لتقديمه للقارئ لايتسع للوقوف اكثر.

 وعموما تشكل رواية "لم ار الشلات من أعلى" إضافة للرواية المغربية المهجرية المكتوبة باللغة العربية فتغني السرد المغربي لتنضاف إلى أسماء المبدعين المهجرين أمثال:   مصطفى شعبان وعلي أفيلال ومحمد التيطواني. فهذه النخبة التي أخذت على عاتقها فضح واقع الهجرة والاغتراب . نجد أن أعمالهم  تؤرخ لجيل من المبدعين المهجرين من النخبة التي لم تجد سوى الكتابة ملاذا تبث فيه خوالج صدرها ولِتعزف من خلاله سمفونية الحزن تارة ،والحنين تارة إلى الوطن.

بذلك تسجل رواية "لم ار الشلات من أعلى"  حضورها المتميز بتشويق القارئ ومتعته عبر لغة سلسة وفضح مواطن الاختلال في عوالم المهجر ومرحلة من تاريخنا .إنها تفضح واقعا لتبني افقا مشرقا  هي رسالة الادب التي لا تعرف اليأس وتفتح الامل لغد أفضل.


(1)محمد مفتاح، دبنامية النص، تنظير و إنجاز، المركز الثقافي العربي، بيروت/لبنان، ط2، 1990، ص.72



  إدريس يزيدي
 شاعر مغربي مقيم في بلجيكا.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire