25/04/2012

الحلاق


لوحة : عبد الحفيظ مديوني


     ليس من عادتي أن أغادر البيت إلى العمل، قبل أن أتناول فطوري، ولا دون حلق ذقني، ذلك هو دأبي منذ نعومة أظافري، ومنذ رهافة زغبي. غير أنه في ذلك اليوم من أيام دجنبر الباردة الشاحبة ، والمقتضبة،  حصل العكس؛ فقررت أن أتناول فطوري خارج البيت، وأسلم أمر معالجة ذقني للحلاّق، لا بأس من المساهمة في تطور اقتصاد البلاد، والدفع بعجلة التنمية النائمة دورة إلى الأمام؛ إن أنا تخليت عن عادتي تلك، إما تقاعسا، أوتكاسلا.
           توجّهت رأسا إلى أسفل شارع مبارك البكاي لهبيل، أول رئيس حكومة مغربية بعد الاستقلال. حيث تصطف مزدحمة، بعض دكاكين الحلاقين، تتخللها دكاكين بعض السّاعاتيين الضيقة، تقابلها المقاهي الشعبية، التي كانت حتى عهد قريب، تعلّق أبواقا، ومكبرات صوت،  موصولة بآلة الفونوغراف، لتشنف أسماع روادها بأروع أغاني الشيوخ المحليّين: أحمد ليو، علي التنيساني،  محمد اليونسي، وعبد الله المكانة. وشيوخ من الجارة الجزائر، أمثال خليفي أحمد، حمادة، درياسة، المدني، بلخياطي، وأسطوانات لفنانين آخرين، لا تخلو من طرب، كوراد بومدين، ونورا، والعرفة، وبناصر وخويا وحادة وعكي.كل بوق بما فيه ينضح ويصدح، جلبا لزبناء يجزون أوقاتهم، متلذذين بفناجين القهوة لَمْغَلْيَة، وكؤوس  الشاي المنعنع، و المشهشب.
           أن يكون هناك فرق بين من هم في أعلى هرم المجتمع، وبين من هم في سفحه، فهذا أمر أضحى من بديهيات الأمور، منذ أن ألقى الله بآدم من رحم الجنة إلى قدمي الأرض، لكن، ما لم أستسغه، هوأن تنتقل هذه العدوى إلى الجماد، مهما كان نوع هذا الجماد: قاعة سينما، عمارة، باخرة، شارع، أو مدينة. دائما يحظى الأعلى بما هوأفضل، وأنقى، وأجمل، ففي الشارع المذكور يوجد في أعلاه: المسرح الملكي، ثانوية أبي الخير، بيوت بعض المستعمرين، النظيفة الأنيقة، وغير بعيد عن ذلك، تقبع الباشاوية التي تحولت فيما بعد إلى عمالة، محفوفة بحدائق وإن كانت متواضعة، مسندة جنبها إلى المكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي،  حيث يقلّ هناك الصخب، والهرج والمرج، وتكثر الأشجار والأزهار، والرصيف يحتفظ برونقه فزليجه، لا يشكو من زحف الفضلات، والمتلاشيات عليه. بينما أسفله يعاني الأمرين من الحفر، وبقع زيت محركات السيارات، وانبعاث الروائح الكريهة من البالوعات المخنوقة، والرصيف رفع راية الاستسلام، أمام غطرسة القمامات، محج مختلف الحشرات المرئية والمجهرية، النازفة بسوائل مقززة، تثير الغثيان.
      إلى غاية كتابة هذه السطور، لم أجد تفسيرا مقنعا لهذه الظاهرة المستعصية على الفهم، والتي يبدو فيها الفرق بين ما هو أعلى، وما هو أدنى، كالحد الفاصل بين الروح والجسد. مع العلم أن أعلى غصن في أعلى شجرة، يأتيه غذاؤه من أسفل الجذر المطمور في أسفل التراب بكل تفان وإخلاص، وأن ناطحة السحاب المتباهية بقامتها المديدة نحو عنان السماء، ماكانت لتصمد ولو طرفة عين لهبة نسيم، لولا أساسها الضارب في عمق التربة بكل صمود وتواضع.وكذلك ابن آدم، يظل ممتنا في حياته للأرض التي يدوسها بلا مبالاة، ففيها منشأه ومأكله ومشربه، وملبسه، وفيها مدفنه. كما أن القمر لايستوي على عرش الضياء بدرا، إلا حينما ينفلت من أسفل العتمة.
          شعرت بالارتياح، لما رأيت  مقعد الزبناء شاغرا، في المحل ذي المساحة الضيقة؛ ثلاثة أمتار على مترين، أرضيته تشبه أرضية فصل دراسي قديم، تزخر بمربعات بيضاء، وسوداء من الزليج، رصت على شاكلة رقعة الشطرنج، جدرانه كالحة، على الرف الزجاجي وضعت آلة الحلاقة اليدوية، التقليدية، بجوارها تنتصب في شموخ قارورة عطر سعة لتر واحد، نصف مملوءة،  مميزة بصورة فتاة تعتمر قبعة كوي بوي كبيرة، كما وضعت علبة لمسحوق طالك صفراء، وفوق الرف عُلّقت المشحذة، وبضعة مقصات، مختلفة الأحجام والأشكال، والحلاق منكبّ، يرتب، ويوضب عدة عمله فوق المنضدة، والكرسي شاغر ينتظر أول جالس يحتضنه.
             -  السلام عليكم ورحمة الله.
   - وعليكم السلام، ورحمة الله تعالى، وبركاته.
   - أريد حلق ذقني لو سمحت.
بعدما نزع ورقة من اليومية العصرية المحفوفة بإكليل من سنابل القمح، التفت إلي وقال:
   -  تفضّلْ.
   - شكرا.
   -  على بركة الله.
             شرع يضغط بقدمه على دواسة أسفل الكرسي الوثير، ليرتفع رأسي إلى مستوى صدره، ويكون في متناول راحتيه، فأمرني بأن أعدل من جلستي مسندا رأسي إلى مسنده، فصرت أرمقه بنصف عيني، عبر مرآة الصالون التي مكنتني من رؤية ببصيص من البصر الشارع. بعدما  زرّر وزرته الزرقاء، التي تخفي  بذلة سوداء، بدأ يطلي حنكي بمعجون الصابون مستعينا بأطراف أنامله الرقيقة، شعرت به باردا، ثم بلل  فرشاة الحلاقة بالماء بغية ترطيبها، وأخذ يمررها على الذقن الشائك، بحركة دائرية من أسفل الذقن إلى الأعلى، ثم من أعلى الخدين إلى الأسفل، فشعرت هذه المرة بالدفء يطرد البرودة. واستسلمت لنعومة الصابون، والفرشاة، و تمنيت لو أنها تستمر لمدة أطول، وتنتقل لسائر جسدي. فجأة توقف عن الدّلك، ووضع الفرشاة في إناء شاحب اللون، ودون سابق إنذار ولاّني ظهره، واتجه بسرعة نحو الباب، حرك رأسه يمنة ويسرة ماسحا به الشارع، الذي بدأ دبيب الأقدام يتصاعد فيه. حينئذ، لمحت شعره المنسدل على رقبته، شعرا خفيفا، بدا كذيل ابن آوى، تركه يسترسل، ليخفي به غضون عنقه الغائرة.
            ظننت أنه تركني رهين رغوة الصابون، يريد امتصاص نفس من الهواء الندي، أو يود تدخين سيجارة أولمبيك الشقراء، أو فقط يريد تثبيت كال شمة، هنيهة ثم ولّى مقبلا عليّ، منكّسا هامته، وهو يستغفر، و يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أجال بصره في المرآة ممتعضا بحثا عن وجهي، عيناه الخابيتان بدتا صغيرتين، وضيقتين، خلف زجاج نظارتيه الطبيتين، السميكتين، المشدودتين بخيط أسود إلى الرقبة. وقد تنهد تنهيدة طويلة، ثم زفر بآهة عميقة، ولسانه ما انفك يستغفر ويتعوذ، بينما أنا غارق في بحر تكهناتي، أبحث عن سر تلك التنهيدة الحادة، والآهة السحيقة، المنبعثة من جوف معدته: أتراه تذكر موعدا مهما، وفوت على نفسه فرصة لكسب صفقة مربحة، أم ترى جاره بائع الإسفنج أغاضه، أم ترى سهام المديونية أدمت فؤاده، فنزف تأوها واستغفارا، أم ترى ذخيرته من شفرات الحلاقة  نفدت، والذقن موشح بالبياض، لا هذه ولا تلك، أكيد أن شعر رأسي الناعم، اللمّاع، الذي أتباهى به أمام أقراني وزملائي، وزميلاتي قد صار مرتعا لأسرابِ الصيبان، و جحافلِ القمّلِ والقرّادِ،لعنة الله على الهيبي، وما يأتي منه. لم أستطع الخروج  من خضمّ حيرتي لأوجه إليه السؤال مباشرة عم حلّ به ، إلى أن انتشلني هو منه قائلا:
  - نظرت نظرة اشتهاء إليها.
  - حتى أنا نظرت إليها باشتهاء وبتلذذ.
  - هل رأيتها أنت أيضا؟
  -  نعم.
  - متى، وأين؟
  -  قبل أن أدخل إلى الصالون، رأيتها ناضجة تنتظر فقط من يمد يده ليلتهمها.
  -  أين؟
  -  رأيتها تتبختر راقصة في المقلاة.
  - أية مقلاة؟
  - وهل هناك من مقلاة، غير مقلاة جارك السفانجي؟
  -  عمن تتحدث؟
  - عن الإسفنج.
  -  ياسيدي، أنا أتكلم، عن تلك المرأة التي مرت، وأنا أطلي ذقنك بالصابون.
  - ذلك الشبح المتلفع بالبياض، الذي مرق قبل قليل منتشيا بصوت حذائه؟
 - أجل،كانت ترتدي حايك، أستغفر الله، وأعوذ به من الشيطان الرجيم. إن النفس لأمارة بالسوء!
       بعدما أنهى عمله بنجاح دون ندوب، أزاح المنديل من حول عنقي، وحمل قارورة عطر، وشرع يضغط على كرية صغيرة، بحجم بيضة، موصولة بأنبوب مطاطي إلى زجاجة، فراح يبخ على ذقني رذاذ الكولونيا، الذي عادة ما يجعل شعر رأسي يتقنفذ، وعينيّ تدمعان.

بركان/12/2011

أحمد بلكَاسم

القاص أحمد بلكَاسم
يقرأ أقصوصته : الحلاق
2في ملتقى أبركان للقصة ¤ د
20 ¤ 04 ¤ 2012



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire