28/04/2012

هي أبهى ليلة





 
إلى أمهاتنا

 -        تسمح أبي بالنوم معك هذه الليلة؟
ضممت سعدا إلي بحنو.. سيكون المنزل لبعض الوقت خاليا من عزيز لم يغب عنه أبدا.. يعمره حبا وحنوا.. غضبا رفيقا.. أسمع الغنة الرقيقة تُوقَّع بشجن"
 -      سيذهب وجع أمي  في المصحة؟
-       سيكون الطبيب بجانبها .. هناك لابد أن تكون أحسن حالا ... (أو أسوأ! ( حدثت نفسي. أخفيت ما بي من توجس وتابعت:
-        تعال سلم على أمك وحاول أن تنام .. غدا حين تفيق ستجدها بجانبك أو نذهب عندها..
  لدى الباب ... زمت شفتيها تكتم المغص المعاود عن طفليها خاصة .. عانقَتِ الولد وخاطبَته بتودد:
- كن عاقلا سعد!
ثم  توجهت إلى أمها:
-       كوني بجانبه حتى يعود أبوه.
ضمت سعادا.. بقيتا تتناجيان في صمت... أنثى مع أنثى... لحظة انصهار لا تعرفها إلا هن..
-       الله معك آبنتي!
قالتها الجدة بنبرة ضارعة وهي تفك الارتباط الحميم:
    همس سعد:
تغيبين أمي طويلا؟
-       لا.. ليلة أو ليلتين..
      أتوجس دوما من الغياب .. وهذا الغياب ليس أيَّ غياب ... ترى ماذا لو يحدث خطأ؟ .. أو لحظة غافلة؟ !.. الصحف ملأى بأخبار المآسي في مصحاتنا الخاصة المتناسلة التي أصبحت غرف عمليات فقط .. بعضهم يذهب أكثر .."ﯖـرنات بْنادم.".. أنقبض ... أقود سعدا إلى السرير فيتمدد ثانية .. أحُك خفيفا ظهره مطَمْئنا .. أنحني حاضنا إياه بذراعي. تغيب هواجسي إلى حين ..  من جديد .. يناغي سعد .. أحس تردده ..
-       تريد أن تقول شيئا سعد؟
    أحس حاجته إلى البوح بشيء ما ... يا الله! هل لا بد من التردي في هوة الغياب .. والوحدة حتى نحس بقيمة الحضور ؟!  كم ننسى أنفسنا في دوامة اليوميّ! ..
-       أبي ... سأستوحش أمي ...
       أتحسسه في الظلام، أمرر يدي على رأسه الصغيرة ..  تتبلّل عيناي .. أغص .. أتمالك قليلا ..
    - ستعود أمك .. ومعها هدية لك..ولنا ....  معك الآن أختك سعاد. . وجدتك صاحبة الحكايات..
    - أقول لك الحقيقة أبي .. أريد أخا .... سعاد كبرت علي .. وألعب دائما وحدي .. سعاد مشغولة دائما بدروسها .. أحيانا تنرفز أمي .. وسعاد قالت لي يوما لو أن أمي تلد يوما أختا!.
أضمه إلي ... هو إذن قد عرف . .من استدارة بطن أمه أم أن أخته أو جدته حدثته!؟
أنقبض فجأة ..
-       سيكون ماتريد .. وتريد سعاد .. نم الآن ...
اسحب الغطاء إلى غاية كتفه قائلا: حاول النوم. . الوقت متأخر... ستأتي جدتك بجانبك.. لا تخف ...
     بردهة  المصحة  الدائرية  بالطابق السفلي استقبلنا شاب رجانا أن نتبعه فدخل بنا مكتبا زجاجيا نصف دائري وسط الردهة. جلس على الكرسي فأخذ يسأل زوجتي اسئلة عادية ويكتب ما تجيبه به في سجل خاص .. بعد ذلك نادى: "مريم"! .. لحظة انشقت غرفة مقابلة عن امرأة كهلة، مليحة الوجه باسمة العينين والشفتين ترتدي وزرة الممرضات. تقدمت إلينا بخطى لا تحس .. أمر الشاب:
-       خذي السيدة إلى غرفتها ..
-       تَّبْعيني لالاَّ ..
       دارت المرأة نصف دورة، واتجهت نحو المصعد. ضغطت على زر. انفتح .. دخلته الأولى واستقبلتنا بوجهها ... بدت كأنها فوجئت بوجودي ... كتمت ضحكة نمَّت عنها عيناها ...  توقف المصعد في الطابق الثالث ... انفتح الباب، خرجنا منه ... سارت المرأة مدبرة ونحن نتبعها ... دخلت بنا غرفة مربعة .. اضاءتها بقابس في الجدار قرب الباب .. سرير أحادي.. أنابيب خارجة من الجدار فوق رأس السرير .. ومهد خشبي أبيض يعلوه قوس مكسو بغلالة ثوب شفاف أبيض .. ثم دولاب حائطي ببابين ..  طاولة جنب السرير بعجلات ..
-       إستريحي قليلا ... هنا سيدتي - قالت مريم -  سيحضر الطبيب بعد قليل ليفحصك ..
      رَنَت إلي زوجتي بعينين عليلتين .. تشعان .. لمست راحتي خدها المتورد من الألم .. ازداد توردا... من معاناة؟ أم أنها لم تتوقع مني هذه الحركة الحنون بمحضر السيدة. همسْت:
-       تمنيت لو كنت معك!
لا شك أن المرأة سمعتني .. قالت وهي تنظر إلي:
-       بعضهم يحضر ولادة طفله...هناك أمور لا ينبغي - في رأيي- أن نراها..! هي من أسرار ربنا.. و"ذيك هي حلاوتها !"
أحقا ما زال هناك من ويفكر ويتحدث بهذه الطريقة؟ !
.. تبادلنا أنا وزوجتي النظرات.. هي تعلم مني أمورا.. شغفتني  دائما بفتنة الحجب الموارية لبعض الأسرار .. صدقوني .. في زمن الفحص بالصدى  …والإيرام .. لم أعلم بعد بما في الأرحام !.. منذ مدة.. رأيتها تتبادل نظرات متواطئة مع سعاد وهي تنطق باسم ليلى. لم أسأل ما ليلى... ما سرها؟ وهي تعلم ما لإسم ليلى وسعاد عندي!
-       الآن ينبغي أن تغادر ..  قالت مريم بلهجة متصنعة للحزم. ضغطتُ على يد زوجتي... 
أبقيتها مدة حتى سمعت مريم تتوجه إلى زوجتي:
-       الراجَل واكَل عليك علكة صحيحة! سعْداتك يا لالاَّ..!
أزداد تورد خدي زوجتي وهي تبتسم.
  - كن راجل!  قالت مريم ضاحكة .. عد إليها غدا صباحا ... تكون إن شاء الله "جمرة" مفتحة !
-       غدا؟! انفلت السؤال ..
-       نعم! قالت مريم .. الساعة الآن العاشرة ليلا! .. بعد قليل تغلق العيادة إلا على الحالات المستعجلة .. لاشك أعطيتم تلفون المنزل أو المحمول في الاستقبال. اتصل بنا مرة أو مرتين ..  لنخبرك ...
أجبت بنعم ..
-       إذن .. ما عليك إلا الصبر إلى الصباح ....
أخذ القلق ينهشني من جديد .. أنَّى لي أن أصبر إلى الصباح؟
-       سعد وسعاد في حاجة إليك ... وقد أبطأت عليهما .. قالت زوجتي.
نزعت يدي من يد زوجتي برفق. وبنبرة مختنقة قلت:
-       أنا – تعرفين ! -  معك!
خرجت متبوعا بمريم .. وقبل أن يحتويني المصعد سمعتها تقول وكأنما رأت اضطرام داخلي:
-       اتصل بالمداومة بعد ساعتين... أنا "قابلة مريم" هذه الليلة .. اطمئن!
شكرتها .. خارج العيادة تهت قليلا بالمدينة شارد العقل .. دخلت مقهى مفتوحا كتب على واجهته 24/24 ... جلست على جمر .. تناولت قهوة سوداء أغالب النعاس .. وأنى لي .. نهضت .. بحثت عن هاتف خارجي لأتصل بالمصحة ... أجابني صوت رجولي مبحوح من النوم .. هي بخير .. لم تنزل لغرفة التوليد .. الطبيب قدر خروج الجنين عند الفجر أو الصباح ..
        إلهي ! ذهلت عن الصبيين وجدَّتهما .. لو يكونون قد ناموا  !.. أدرت مفتاح المنزل محاولا ألا أزعج أحدا .. هرولت الي  الجدة بعينين سائلتين بقلق .. أجبتها ... تسللت إلى غرفة النوم .. فالسرير .. لمست الصبي النائم في وداعة .. سعد .. سعد .. الحمد لله أن  نام الصبي .. لمست كومة اللحم الساكنة في الفراش .. هدأ روعي قليلا .. أحسست بالوسن يداعب أجفاني ... رأيتني واقفا بباب العيادة .. ينفتح تلقائيا ..ي سير بي بساط مرمر داخل الردهة ..  فالمصعد .. ينفتح بي تلقائيا .. يطير بي عموديا  بسرعة ضوئية انخطف لها قلبي، أنا  الآن داخل الغرفة حيث تركت زوجتي .. أراها ممددة في السرير، باهتة القسمات .. مغمضة العينين .. أتأملها. لم أرها أبدا بمثل ذاك البهاء وهي عليلة! أهو بهاء الأنثى لحظة انبثاق  الحياة من رحمها؟ انحنيت نحو العينين المغمضتين. قبلتهما .. أحست بأنفاسي الحرى .. فتحت عينيها الذابلتي .. من ألم أم جمال؟ .. تتحول شفتاي إلى اللمى الموردة تخالطها الزرقة فأهم بـ ... ينتشلني صوت سعد واقفا جانبها ... بابا !هذا أخي أنس... ويمد لي لفة  لم يبد منه إلا رأس وليد رفعها من مهد بجانب أمه .. ما كدت أرفع اللفة حتى سمعت سعادا من ورائي. . التفتت فإذا هي تحتضن لفة  أخرى يبدو منها فقط وجه جنين تمده إلي قائلة
-       بابا !هذه ليلى  العزيزة عليك وعليّ!
  أنذهل .. أتلاشى .. المصعد يهوي بي بالسرعة الضوئية إلى هوة سحيقة .. انخطف ... أصيح .. أصيح ... أنس .. ليلى ... سعد .. سعا ...
-       أبي .. أبي ..! مالك؟!
انتبه..  يهزني سعد بلمسات خفيفة على كتفي فوجهي..
-       لا شيء سعد...لا شيء..! نم عزيزي..
  الصمت يلف البيت.... يعم المدينة.. ولا نأمة... غير قطط تائهة مثلي تبحث عن لقمة في قمامة أو لذة.. أهرول ذاهب العقل نحو العيادة.. لا أحس نفسي.. أيليق بي أن أكون بعيدا.. غافلا... وهي في أقصى المعاناة ؟.. أو أقصى الفرح.. أو لا قدرالله... أخف الخطى أكثر فأكثر..
       تهليل الفجر من مسجد مجاور تناجي المطلق في سكون مطلق... يهدأ روعي لحين..تعاودني هواجسي... الصباح أهلَّ وهي هناك... أقصى العاناة... ماذا لو... أسمعُني ضارعا إلى من سهوت عنه طيلة  هذه الشدة.. يا فالق الفجر من الظلمات.. يا بارئ النسمات... سُلَّ النسَمة من غيبها بسلام. ورُدَّ إلينا  أمها سالمة.. . !

عبد المالك المومني


تصوير شنداد



أبهى ليلة ميلاد هو النص الذي قرأه الصديق عبد المالك المومني في ملتقى أبركان للقصة القصيرة  ¤ الدورة الثانية

2 commentaires:

  1. الأخ جمال غمرتني بكرمك في مدوناتك غمر ك الله بالسعادة وأبقاك ذخرا لأهلك وصحبك

    RépondreSupprimer
  2. بارك الله فيك ... تقبّل تحياتي الحارة

    RépondreSupprimer