16/03/2013

قراءة في ديوان "شظايا الانكسار" للمبدعة السعدية الفضيلي



1-
"إن الشاعر هو هذا الذي يضحي بنفسه ليدع السؤال مفتوحا" يقول موريس بلانشو Maurice Blanchot.  و من الأكيد أن السؤال الذي يحرص الشاعر على أن يظل مفتوحا يأخذ مسارات متنوعة و اتجاهات مختلفة و من دون ذلك لن يظل مفتوحا، و لكن ما العلاقة بين أن يضحي الشاعر بنفسه و بين أن يظل السؤال مفتوحا؟
  جواب ذلك في اعتقادي، أن الشاعر لا يمتلك اليقين في المعنى الذي سيصل إلى القارئ، كما لا يمتلك السلطة الكلية على كافة العناصر التي يتكون منه النص الذي أنتجه، و لا يتحكم في طبيعة الأثر الجمالي المتوقع حصوله في المتلقي. فليس من شأنه أن يقدم الإجابات النهائية اليقينية الكفيلة بأن تمنح لأصحابها السطوة على الناس.
  لذلك يبقى السؤال مفتوحا لدى الشاعر إزاء النص الذي أنتجه هو نفسه ، كما يبقى مفتوحا عند القارئ إزاء النص الذي اختار أن يقرأه. و في اختيار النصوص التي نقرأها يقول أدونيس: "كنت دائما و لا أزال أكثر ميلا إلى قراءة ما يمكن أن يدلني على الشرار الذي بدأ يترمد في داخلي، و على ذلك الذي يتوهج في الخارج" بهذه العبارة لا ينبغي أن يكون الشاعر حارسا لباب السؤال فحسب، بل دليلا إلى ما يبعث في رماد الأرواح جذوة الحياة و مرشدا إلى مكامن الأمل في الواقع المعيش. لذلك عندما قرأت عنوان الديوان "شظايا الانكسار" استحضرت ديوان نازك الملائكة "شظايا و رماد" الذي ألفته عام 1949، و لم أدرك في الوهلة الأولى أنه عنوان مخادع، فقد اكتفيت بتفسير سطحي له إذ اعتبرته من الكلام النثري العادي الذي لا يكاد يتجاوز معناه الحسي المباشر، فكل شيء ينكسر سواء كان زجاجا أو حطبا أو غير ذلك تتطاير منه كسارات و شظايا مختلفة الأحجام. و قارنت هذا مع مقدار ما يبذله كثير من الشعراء المعاصرين من جهد في اختيار عناوين لدواوينهم حتى تكون واجهة لماعة تغري القراء باستطلاع ما بداخلها. خلصت دون تريث إلى أن هذا العنوان عتبة سهلة المرتقى، و لكني بعد الاطلاع على النصوص التي يضمها الديوان استخلصت منه درسا هو أنه لا يجب الاكتفاء بالوقوف عند العتبات. فالعنوان برغم بساطته الخادعة يسمح بصوغ عدة فرضيات تتعلق ببناء معاني النصوص الشعرية التي يضمها الديوان، فما هي طبيعة الانكسار في هذا المقام؟ و ما نوع الشظايا الصادرة عن هذا الانكسار؟ و هل  هو عنوان نص من نصوص الديوان استفرد بها اختيار المبدعة على نحو ما يقوم به كثير من الأدباء و الشعراء، فعلى سبيل المثال الديوان الذي أصدرته نازك الملائكة سنة 1947 يحمل عنوان إحدى القصائد التي يضمها الموسومة ب "عاشقة الليل".  
  لا يتعلق العنوان في مقام هذا الديوان باستعادة اسم أحد نصوصه بقدر ما يتعلق بتحديد السمة العامة التي تتصف بها هذه النصوص عموما و هي سمة الانكسار بما يفيده من معان مختلفة مثل الهزيمة و الاستسلام و الاستلاب و الاحباط و تحطم الأحلام و الآمال و اليأس و الكآبة. فالعنوان المصوغ هنا على مستوى اللغة، في شكل مركب إضافي يميل عادة إلى حذوه كثير من الشعراء لصياغة عناوين دواوينهم  ("رياح النور" لأحمد اليعقوبي، "لعنة باخوس" لأحمد بلقاسم، "أوتار النزيف" لعبد العزيز أبو شيار) ، يتكون من عناصر حسية تتولد عنها دلالة غير حسية. فالانكسار في هذا السياق لا يدل على شيء مادي تكسر فصار شظايا بل على كيانات و حالات إنسانية تعاني خيبة الأمل و مرارة الهزيمة. و من أمثلة ذلك في الديوان النصوص التالية:
1-   مدينة حزينة: يعكس انكسار الذات  الشاعرة  التي كلما عادت إلى مدينتها تنكرت لها و لفظتها، فقد تغيرت ملامح هذه المدينة و صارت إلى القبح و البشاعة أقرب بعد أن هجرتها الخيول و السيوف و الأقلام و سبيت فيها النساء.(ص:10)
2-  ملحمة الحجاج: يظهر هذا النص على نحو مفارق لهذا العنوان نفسه  ملحمة أخرى حقيقية تتعلق بالمناضل المعتقل الذي يشبه في هذا السياق بالمسيح في معاناته و انكساره.(ص 14)
3-  سقوط الخيل: يعبر هذا النص عن الحرقة الناجمة عن اغتيال و استشهاد فئة من المناضلين اليساريين المغاربة تحت التعذيب أمثال عبد اللطيف زروال الذي اغتيل في 14 نونبر 1974 و أيمن التهاني الذي استشهد تحت التعذيب في سجنه بتاريخ: 6 نونبر 1985 (ص 21)
4-   سيزيف: الذي يعكس حالة الشعور بالعبث و الرتابة و الاستلاب بفعل الحصار و المراقبة القرادية التي "تطل علينا مع قهوة الصباح" حتى تصبح فعلا آليا نمارسه على ذواتنا كأنه أمر نابع من أنفسنا. (ص24)
5-  "الموعد الواحد" ، "مغتصب" ، "منفية"، "بنت الهوى"، "انطفاء"، "تهمة" : تعبر هذه النصوص جميعها باشكال متفاوتة ، عن انكسار ذات المرأة في علاقتها بالرجل الذي يخضع في هذه السياقات كلها إلى نموذج وحيد
و أوحد هو نموذج "شهريار"،. و لتواتر هذا النموذج في هذه النصوص كلها بشكل ملفت للنظر، قد يخلص القارئ إلى استنتاج أن الديوان يكرس صورة مزدوجة عن الرجل، فهو خارج العلاقة مع المرأة يكون المناضل الذي يتحمل التعذيب في السجون دون استسلام و يكون المسيح الذي يتحمل الصلب  من أجل الكرامة و الحرية و يكون العامل المنجمي الذي يرفض الانسياق مع القطيع الخانع ليمارس "طقسه الخاص في اختراق الوجود"،
و لكنه بمجرد ما يصير  طرفا في العلاقة  بالمرأة، يصبح مغتصبا و وغدا و شهريارا تملأ قلبه القسوة و الخيانة.
6-  عرق: يصف هذا النص معاناة عمال المناجم: " آت من بطن مغارات/ نهشت فيه/ آخر عظم/ و آخر جلد" (ص 39)
7-  عيون منكسرة: يعكس هذا النص انكسار الطفولة متجسدا في ما يعانيه الأطفال من كبح لطاقاتهم المتوثبة و قمع لما تحبل به قلوبهم من فرح
و براءة.(ص 61)
8-  وطن متعب: يحمل هذا النص صورة قاتمة عما يعانيه الوطن من الانكسار بسبب خيانة أبنائه و جبنهم و كسلهم.(ص 72)
لا يكتفي الديوان بجرد مظاهر الانكسار في المجتمع من خلال النصوص التي تم الاستشهاد بها، و لكنه يفتح من خلال هذه النصوص نفسها آفاقا للخروج مما يعنيه هذا الانكسار من يأس و انسداد، بحيث يصير الشعور بالانكسار دافعا للتحدي و المقاومة. و هكذا يصبح الانكسار مصدرا لشظايا ملتهبة قد تؤذي من يعترضها وأنوار ساطعة قد تعمي من يواجهها. و بتعبير نزار قباني " ومن الجرح تولد الكبرياء".
تأكيدا لهذه الفرضية يمكن الاستشهاد ببعض النصوص من الديوان، ففي "مدينة حزينة" تكون الهجرة بمثابة احتجاج على موت المدينة. و في "ملحمة الحجاج" تعجز سياط التعذيب أن توقف انطلاق الروح و شعورها الجامح بالحرية
و الانعتاق. و في "الموعد الواحد" لا يستطيع استجداء الحب أن يمحو آثار الخيانة.و في "عرق" يولد عامل المنجم من رحم الاستغلال ولادة جديدة ليصنع تاريخه دون الرضوخ لأي طقس من طقوس القطعان البشرية المستسلمة.
أما الانكسار الذي تشعر به الذات الشاعرة بما يعنيه من "تعب الروح"  و أرق و حزن و دموع و أوهام، فلا يخلصها منه إلا الشعر، فهو "مخبؤها السري" و هو "الجنون الجميل" الذي يحررها، بل هو مبرر وجودها الذي يمنحها هويتها و الأمل في "عمر آخر" تتجاوز به عمرها الحقيقي: "استفيقي قصيدة تمتد بين الأرض و السماء"
2- تقول الناقدة يمنى العيد في كتابها "في معرفة النص" (ص 105) عن الإيقاع الداخلي الذي يميز القصيدة الحديثة عن القصيدة الكلاسيكية (العروضية) أنه" حركة تنمو و تولد الدلالة". لا تتحكم هذه الحركة التي تتسم بالتوتر المتصاعد في النص الواحد فحسب بل تتعداه إلى الديوان كله، فهي ليست حركة مستقلة تختص بنص واحد تقيده قافية واحدة و ووزن عروضي واحد، بل هي حركة متحررة من كل إكراهات موسيقية خارجية. لذلك فهي حركة تولد الدلالة على مستوى النصوص كلها دون الاقتصار على دلالات نص واحد. هكذا يمكن أن نعتبر ديوان "شظايا الانكسار" قصيدة واحدة متشظية إلى عدة عناوين صغيرة، فإذا أنت قرأت الديوان دون أن تقف عند تفريعاته الصغيرة، قد لا تشعر أن هناك حدودا بين هذه النصوص، فهي تتدفق في مجرى واحد قد تتنوع منعطفاته و لكنك لن تحس بأنك نزلت من المركب. هكذا يمكن أن نعتبر أن الديوان على مستوى الشكل عبارة عن قصيدة واحدة تنكسر فيها الأوزان الخارجية لينتج من ذلك الانكسار شظايا متناثرة تختلف من حيث الطول هي هذه النصوص التي تتصدرها عناوين صغيرة. بيد أن هذه القصيدة المتشظية تمتد خارج كل زمان و مكان فهي فضلا على أنها لا تشتمل على أي اسم قد يدل على شخصيات بعينها لا تشير إلى أي مكان قد يرسم حدود النطاق الجغرافي التي من شأنها الزيادة في قوة التأثير على المتلقي (باستثاء الإهداء الذي يتصدر النص "عرق" الذي يعد عنصرا خارج-نصي paratextuel)، كما لا تشتمل على أي مؤشر يتعلق بالإطار الزمني الذي من شأنه أن يفيد في بناء الدلالة بشكل عام.
أما اللغة التي تتحدث بها هذه القصيدة بنصوصها المختلفة، فهي لغة يخبر سطحها عن عمقها، فهي واضحة سافرة دون أن تكون متبرجة أو محتجبة. هي إذن لغة مروضة ومسيجة بالحيطة و الحذر و لا تترك للممسكين بالسلطة السياسية الفعلية و لا لحراس الأخلاق أي ذريعة لهدر دمها.
3- المرأة و المرآة: في كل كتاب لاشعور مختفي و منفلت من سطوة مؤلفه. ذلك ما يفسر صورا و عبارات و أوصاف و مواضيع تتواتر في كتاب في غفلة من صاحب الكتاب.  في هذا السياق لفت انتباهي في الديوان تواتر حضور المرآة في بعض نصوص الديوان. و لكنها مرآة من نوع خاص فهي لا تعكس كل حالات الكائنات و الأشياء، بل هي مرآة منحازة لا تعكس سوى القبح. و لتأكيد هذه الفرضية يمكن الاستهاد بالأمثلة التالية:
- في "ملحمة الحجاج" وردت العبارة التالية: "يسألون/ تكلم/ لماذا تعلق مراياك/ حيث نرى قبحنا؟" فالمناضل في هذا النص يفضح أجهزة الاستبداد و القمع ربما بمقالاته أو كتبه أو بغير ذلك من الوسائل بما يشبه المرايا التي تعكس بشاعة هذه الأجهزة.
- في "مغتصب" وردت العبارة التالية: "وحش كاسر/ يلتف حول أنوثتها/ يرى قبحه/ في مرآة روحها". ففي هذا السياق تصبح الأنثى مرآة يرى فيها الرجل المغتصب "وساخته".
-  في "منفية" ترد العبارة التالية:" تكسر مرآتها...تصالح مرآتها" فالمشكلة هنا بالنسبة للمرأة التي تحس بالنفي هي المرآة التي تعكس استلابها.
- في "تهمة" ترد العبارة التالية: "كسرت مراياه في وجهه"، حيث تعكس المرآة في هذا المقام غرور الرجل و نرجسيته و لكن أنثاه المتمردة تكسرها بما يظهر ضعفه و عجزه.
هناك موضوع آخر يتواتر في النصوص بنسبة مهمة هو "الليل" أترك للقارئ فرصة تتبعه في هذا الديوان.
4- في التناص:
يقول موريس بلانشو « Ecrire c’est récrire »يمكن ترجمتها كالتالي" أن تكتب هي أن تعيد الكتابة".
ويتساءل أدونيس: " أهناك حقا بداية من لا شيء؟ أم أن الأصح هو أن يقال: لكل بداية بداية؟" و يرجح القول: "ليس هناك في الثقافة بداية مطلقة. و ما نسميه أحيانا "بداية" ليس إلا امتدادا لما سبق و متابعة. ليس إلا توالدا و تنويعا و تأليف".
ما يسمح بالحديث عن التناص في هذا الديوان هو  النص "طقوس" المهدى إلى روح الشاعر نزار قباني، بما يوحي بأن هناك صدى و حوارا مع أشعار هذا الشاعر العربي الكبير في قصائد الديوان فضلا عن التوازي الملحوظ بين عنوان ديوان نازك الملائكة "شظايا و رماد" و عنوان الديوان موضوع هذه القراءة "شظايا الانكسار".
 يعني مصطلح "التناص" في نظر خليل الموسى (نقلا عن كتاب "التناص في الشعر العربي الحديث" ص 29) " تشكيل نص جديد من نصوص سابقة أو معاصرة تشكيلا وظيفيا، فيغدو النص المتناص خلاصة لعدد من النصوص التي امحت الحدود بينها" و يقصد بالتشكيل الوظيفي هنا الامتصاص و التحويل و المحاورة بالرفض أو الموافقة. و تمثيلا لذلك من الديوان سأكتفي بما يلي:
- في النص "الموعد الواحد" يمكن الافتراض بأن هناك صدى لأحدى قصائد نزار قباني عن طريق معارضته. يقول نزار قباني من قصيدة عنوانها "اغضب"
"اذهب إذا أتعبك البقاء
فالأرض فيها العطر و النساء
و عندما تحتاج كالطفل إلى حناني
فعد إلى قلبي متى تشاء
فأنت في حياتي الهواء
و أنت عندي الأرض و السماء"
بينما تقول الشاعرة في ديوان "شظايا الانكسار"
"عاد طفلا ساذجا
يستجدي حبا
مستحيل
الحب كالموت
يضرب موعدا واحدا"
يمكن أن نقيم توازيا بين النصين من خلال المؤشرات التالية:
ü   تشبيه الحبيب بالطفل.
ü   عودة الحبيب بعد الهجران لحنان الحبيبة عند نزار قباني و لاستجداء الحب في ديوان "شظايا الانكسا".
ü   استقبال هذه العودة إيجابيا " فعد إلى قلبي متى تشاء" عند نزار قباني وسلبيا في ديوان "شظايا الانكسار" " الحب كالموت يضرب موعدا واحدا".
من خلال هذا المثال يبرز تناص مع نص سابق هو عبارة عن حوار معارض دون أن يعني ذلك إعادة إنتاجه أو تكراره. هناك مكامن أخرى لمثل هذا التناص مع نصوص أخرى لا يتسع هذا المقام لبحثه. 


 إنجاز: الجيلالي عشـي

1 commentaire:

  1. شكراً جزيلاً للأستاذ المبدع الجيلالي عشّي على هذه المداخلة القيّمة التي أمدّنا بها قصد نشرها تعميماً للفائدة ... وله منّا التحية والتقدير

    RépondreSupprimer