الأصوات تتعالى متسامية فوق بعضها البعض، وتزداد نبرتها حدّة، كلما ازداد قرص الشمس احمرارا، وتأهبا للارتماء خلف التلال المحدقة بالمدينة. الألسنة تصدح بالأثمنة وبأسماء المواد المعروضة للبيع. من بين هذه الأصوات القوية استطاع صوت المكي أن يخترق طبلة أذني، مناديا علي باسمي:
- تفضل أستاذ مرحبا بك.
- شكرا دكتور كيف هي أحوالك؟
- بخير والحمد لله كل شيء على ما يرام.
- أريد أقراص الروماتيزم.
- طيب كل الأدوية موجودة، لكل داء دواء، لكن قبل أن أعطيك ما تريد أرجو أن تبقى مكاني، سأخرج لأقضي بعض الأغراض وأرجع، تفضل بالجلوس هنا.
- حاضر دكتور المكي، ولكنك لم تثبّت اللوحة النحاسية، وقد كتب عليها الدكتور المكي خريج كلية.. جامعة..
- شهرتي؛ بلغت عنان السماء لا حاجة لي بالنحاس، كن حذرا إنّ....
قبل أن يتم كلامه قاطعته.
- إنّ الأثمنة مثبتة على كل المواد، أليس كذلك؟
- ليس هذا فحسب.
- وماذا أيضا؟
- إن ذوي الأيادي السليطة كثر، في هذه الأيام العشر الأواخر المباركة من الشهر الفضيل.
- تقصد جابي الضرائب؟
- أقصد لباندية، الشفارا، أولاد لحرام.
- هوّن على نفسك، فصيدليتك محصنة لن تطالها أيادي النشالين، و..
قاطعني وقد استشاط غضبا وعلت محياه حمرة، وانتفخت أوداجه حتى كادت تنزف.
- أولاد الكلاب، في لحظة سهو مني، سرقوا من المحل رأس الضبع، وجلد الثعبان، ونصف كيس من الحبة السوداء.
- في الحقيقة؛ فعلوا خيرا، بأن طهروا المحل من ذلك الرأس المقزز، ومن ذلك الجلد العفن، صراحة كنت أظنه رأس كلب لا رأس ضبع.
- ذلك الرأس، القليل من فتاته، كنت أبيعه بثمن غال، وذلك الجلد، فمقدار خمس سنتيمترات على خمس، كنت أتقاضى فيه أجر يوم كامل من راتبك الهزيل.
- الشياطين مصفّدة، فكيف حصل لك هذا يا دكتوري العزيز؟
- سهوت، وسبحان الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم؛ قبل العصر غفوت، فاغتنموا الفرصة، وفعلوا فعلتهم "ليأكلوا في بطونهم سمّا إن شاء الله الرحمان الرحيم".
غاب برهة من الزمن، ثم عاد ليطرح علي سؤالا غريبا، ومثيرا للريبة، حتى ظننت أنه أصيب بمس، أو اختل عقله، جراء ما تعرضت له صيدليته من سطو.
- هل سبق لك أن رأيت الجن رأي العين؟
- أنا، لم يحدث لي ذلك، سمعت عن أشخاص حصل لهم الشرف لمشاهدتهم، و قيل عن أحد زملائي في العمل، رحمه الله، إنّه كان متزوجا بواحدة من سلالة النار.
- احك لي عنه بالتفصيل المفصّل.
- تريد أن تعرف الحقيقة؟
- أي، نعم.
- صراحة، أنا لا أصدق هذه الأقوال.
- ياك ما حتى أنت من هذوك اللي يتفلسفوا و يقولوا ما كاينش ربي .....؟
- لا،لا، حاشا أن أكون من الجاحدين، لا تسئ الظن بي.
- أعطني أذنك ، واسمع لي جيّدا، أنا، شاهدت جنية كاملة مكمولة.
- كيف؟
- هنا، في هذا المكان بالذات، " فين راك واقف بالضبط".
- ايوا زيد السي المكي؟
- الزيادة من رأس الأحمق، أنا، لا أقول إلا الحّق، وقفت حيث أنت، وجعلت تقترب مني، شيئا فشيئا، وعيناها منغرزتان في عيني، وأنا، مسمّر في مكاني، وجامد، أنتظر أن تطلب مني رأس الحانوت، أو الحرمل، أو حب الرشاد....
- أو شيئا من فتات مخ الضبع؟
- اللي خدموني فيه أولاد الحرام، يأكلوا فيه برزطم.
- ثم ماذا؟
- تفرستني جيّدا، ودنت مني وجعلت ترنو إلي، وتحدق في عيني، دون أن تنبس ببنت شفة، حتى اغرورقت عيناها البراقتان، كما لوكانت تنظر إلى قرص الشمس في عز الصيف.
- بماذا أحسست، وهي ترسو على شاطئ لحظيك، وتغوص في بؤبؤ عينيك؟
- بصراحة، والكاذب ملعون، لقد تقنفذ رأسي، وجفّ لعابي، وكادت أطرافي تشلّ، فتسارعت نبضات قلبي، في الأخير شعرت، كأنها سكنت ذاتي.
- بّا المكي، ياك ما باغي تجدد الفريضة؟
- فاتني القطار.
- ثم ماذا فعلتما؟
- انصرفت، خرجت عقبها، اختفت في الزقاق، ذابت وسط الزحام، لم أعثر لها على أثر.
- وما أدراك بأنها جنية، وليست من بنات حواء؟ أم تراك، شممت رائحة الكبريت والدخان تنبعث من جسدها، أم تراك مليت نظرك في زغب رجليها ذات الأظلاف الحادة كأنياب الفيل؟
- فقيه حومتنا، هو الذي جعلني أتيقن من هويتها، الحمد لله على أية حال، لقد مرّ الحادث بسلام.
- هل صدّقت الفقيه، كما صدقت ما رأت عيناك؟
- قل أو حي إلي أنه استمع نفر من الجن...هذا دليل وجودها، وحضورها إلى صيدليتي. الله يعز الطلبة.
- نحن، على مشارف نهاية الألفية الثانية وأنت مازلت تحشو رأسك بهذه الخرافات؟
- ها أنت، تريد أن تكون من أولاد الذين.
- فق آبا المكي...
- لفقيه قاري القرعان، وحافظ الستين، صدره كنز.
- القرآن وليس القرعان؟
- اللسان ما فيه عظم، ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة.
- ربي، يجب أن تعرفه، وتعبده، عن علم، لا عن جهل، آبّا المكي؟
- الحمد لله ما غادي تنيط مني والو.
- عمّن تتكلم؟
- عنها هي، الروحانيّة، التي اقتحمت علي عطّارتي؟
- أفصح.
- لفقيه العياشي ببركته، حصّنني من تابعتها، عمرها ما تعتب هذه العتبة.
- زودك بالباتريوت؟
- آش يكون هذا البرويط؟
- صاروخ يقضي على صواريخ العدو.
قال وهو يشهر في وجهي حرزا نحاسيا، أخرجه من تحت إبطه.
- هذا يتصدى لكل الشياطين والجن!
- عجيب، أمرك يا هذا، وكم دفعت له؟
- اكتفى بخمسمائة درهم نقدا، وكيلو غرام من العسل الحر فقط، لم يشترط أكثر من هذا.
- الآن لديك حق الفيتو؟
- بالطبع أنا بحال لمريكان، و الروس.
أثناء إخراجه للحرز، أو لحق الفيتو، كان قد أخرج ظرفا بريديا، وناولني إياه لأطلعه على محتواه.
- هيا أخبرني، ماذا تحمل هذه الرسالة؟
- وزارة المالية..مصلحة...الأملاك..قسم الجبايات ..يجب أداء المبلغ.. قبل..في حالة عدم..ستكون..للإكراه..وفقا لمقتضيات، الفصل، من قانون المادة الفصل..
- فهمني غير بالشوية، راه ركابي فشلوا..
- المكي، هذه ضريبة فقط، وليست روحانية.
- واش حتى العطارة يخلصوا الضريبة؟
- لا تسددها.
- والنتيجة؟
- عندك حق الفيتو؟
- كفاك سخرية.
من حين إلى آخر، كان بعض الأشخاص يقاطعوننا، طالبين بعض الأعشاب، وأشياء أخرى كانت تبدو لي تافهة، بينما هي ذات قيمة مادية بالنسبة للمكي، وذات قيمة علاجية مهمة للمشتري أوالمشترية، مثل جزء من أسطوانة ثلاث وثلاثين لفة قديمة، الكبريت، والزئبق، والفاسوخ، وقليل من الرصاص، وبذور، وزيوت مجهولة الأصل، لا أذكر أسماءها. وقبل أن أنصرف قال لي:
- إنك لم تسألني عن السيدة ذات السيارة الفارهة؟ و لاعن الشخص ذي البذلة الأنيقة، ولكرافات الحمراء؟ ولا عن الشاب صاحب البذلة الرياضية؟
- لا بأس، من التطفل إذا كان ذلك يروح عن النفس، هيا خبرني مون دكتور.
- السيدة، هي صاحبة محل تجاري كبير، بلغتكم تسمنوه بازار، جاءت راغبة في باتريوت لزوجها، وفي نفس الوقت تريد حرزا يجلب لها الحظ، أو بعبارة أخرى حرزا يصرف عن بازارها غارات الصواريخ الطائشة، المنفلتة من عيون الحاسدين، و تريد من السي العياشي بأن يصنع لابنتها العانس، القبول لتتزوج.
- أفصح يا صاحبي؟
سكت هنيهة، وطلب مني أن أدنو منه أكثر، فأكثر، ثم همس قائلا:
- بغات الحبة الزرقة.
- يعني بغات لفياكرا.
- أما الرجل الأنيق فهو بوكاظو كبير.
- قل محام، هل نصبته ليترافع لك أمام المحكمة عن قضية ما؟
- يا لطيف، الله يسترنا، وينجينا من دار الشرع، ومن المخزن، وطلع وهبط!
- لم شرّفك بطلعته البهيّة؟
- احتاج لواحد لباتريوت، وباتريوت صحيح، يصد عن مكتبه التابعة، ويجلب له الزبناء، قال لي راها الدعوة ناشفة، وراه غارق في لكريديات.
-......................!
- قال بأن الناس ميكت عليه، بدوا يفكروا في الخيط لبيض؟
- على ما أظن، لفقيه العياشي راه ضارب يده.
- لقراية، هي اللي قرا السي العياشي.
- .............................!
- ماشي بحال قرايتك أنت، اللي غرقاتك في لكريدي كما السي البوكاظو.
- المحامي؟
- غير بحال حال.
أحمد بلكَاسم
هامش:
السي: السيد.
آبا: يا أبي.
الدمياطي: من كتب السحرة.
آش يكون: من يكون.
مون دكتور: يا طبيبي.
غير بالشوية: رويدا رويدا، شيئا قشيئا.
راه ركابيا فشلوا: وهنت ركبتاي
التابعة: النحس
بغات: أرادت، ودّت
عمرها ما تعتب: لن تطأ عتبة الباب أبدا
ماشي بحال: ليس مثل
لكريدي: الدين
البوكاضو: المحامي
لا افقه في الادب لكني قرات القصه بمتعه كبيره,الحسين بنعله
RépondreSupprimerاستمتاعك بالقصة علامة فقه ... يا عزيزي الحسين
RépondreSupprimerمع تحياتي الحارّة
تحية أدبية راقية
RépondreSupprimerأشكركم أستاذ جمال على إدراج الباتريوت قبل انفجاره في مكتبتي كما أشكر سي الحسين بنعلله على مروره الجميل بالبستان وقراءته للنص مودتي
أحمد بلكاسم