14/04/2013

صياد الظلال

·         صيادُ الظلالِ /  بقلم  : جمال الدين حريفي صيادالظلال
 
·         ( لاَ تزالُ تراقبهُ خلسةً وهو ينسجُ شباكهُ بمهارةٍ حول ظلها.....فيما يبدو  سعيداً بصيده الثمينِ)
                               صيادالظلال                                             (الكاتبة: مريم التيجي)
 
       جمال الدين حريفي ص
1               
                                
 ظلها كنز ثمين ...هكذا فكّرَ
ظلها أعظمُ كنزٍ لم يظفرْ به أحد أبداً
يكفيهِ ظلها
ويعرفُ بأنها تراقبهُ
لكنها تخطئُ حينَ تعتقدُ بأن لهُ مهارة ما في نسج الشباكِ أو رميها
منْ زمانٍ فقدَ المسكينُ كل مهارةٍ غيرَ أنْ يستظل بظلها
هي تعرفُ بأنه  ليسَ صيادَ ظلالٍ
وهوَ يعرفُ بأنهُ مجرد رجلٍ متعبٍ يريدُ أنْ يستريحَ قليلاً قليلاً
وليسَ أجمل منْ ظلها الوارفِ  
يستريحُ فيهِ

2

عَلى الأَقل في هذهِ الصحراء التي بلاَ ضفاف هي  تُجري  ماءً وتزرعُ نخيلاً وتومضُ أقمارُ كلماتِها فيرى ظلالَ إحداهن حينَ تخطرُ على البالِ أوْ فقط يعتقدُ بأنه يرى الظلالَ ويقبضُ عليها ..
فأحياناً يكتشفُ بأنه يقبضُ على الجمرِ فتحترقُ يداهُ
وأحياناً يحس بأنهُ يقبضُ على الحرفِ فيصيرُ شاعراً
بلا رغبةٍ في الشعرِ ..
..............
جميل هذا المشهدُ
.....................
واحدة تختلسُ النظرَ إليه أو تراقبهُ خلسةً
وواحدة لم تترك له غير ظلها
هما اثنتانِ
 
وهما واحدة في الآن نفسه
 هي تراقبهُ           
وهو يتسلى بنسج خيوطِ شباكه حول  الظل
أتراقبهُ أم تعاقبه ؟
ما أقساها
وما أتعسه
امرأة شرسة
تلهو بتمزيق جلد ضحيتها
   تمزقُ الجلدَ وتنظرُ سعيدةً إلى الدم يقطرُ من أظافرها                 
ولا ترأف أو تحنو
كيف تفعل ذلك  كيف  ؟
...............
ما أقساها عليه
وما أتعسهُ
                                                           3
وكانت حين تمر
تعكسُ الشمس ظلها خلفها
فيمتد الظل كخيط رفيع من العطرِ
ويمشي هو حين يراها
في أثر الخيطِ
مشدودا إليها
وإلى عطرها
يمشي في ظلها إلى حيث تمشي
يحملُ على كتفيه حزمةً من خيوط الكلامِ
وصرةً من مسامير الحروفِ
يدُقها حول الظل بلا مطرقةٍ
يحاولُ الصعودَ
يشد بكلتي يديه على خيط العطر
ويعض بأسنانه على لسانهِ
كي لا يتكلمَ
فينفضحَ   السرُ
يرفعُ على كتفيه الحملَ الثقيل من خيوط الكلام
يشد الحروفَ إلى بعضها لينسجَ الشباكَ
عقدةً
عقدةً
كالصيادين قال "سأفعلُ"
كالقراصنة المتسللين إلى الخلجانِ
يرمون شباكهم على كل  قارب شاردٍ
وهو يرمي شباكه على ظلها
فلا يصيبهُ
قد أخطأ الرميةَ
فجأةً تستديرُ المرأةُ
فتراهُ
ولأنهُ مشغول برتقِ الشباكِ الممزقةِ

لا يحس فوقَ جلده بنارِ   نظرتها المحرقةِ
تجلسُ المرأةُ بعيداً تراقبهُ خلسةً كعادتها
ينسجُ خيوطَ شباكهِ حولَ ظلها
ثم لكي تلاعبَهُ
ـ هل تلاعبُ إناث النمور طرائدها أمْ تلهو بها فتحاً لشهية الافتراسِ؟
تشدُ المرأة رأس خيطٍ من كبةِ  الكلامِ
وتشرعُ في  السل على مهلٍ  خيطاً خيطاً  حتى تتذرى الحروفُ كغبار يحجب شمسَ المعنى
هي تنكثُ ما كان ينسجهُ قبل الغروبِ
إذْ كانتِ الشمسُ في كبدِ السماءِ
وكان للمرأةِ عقل وظل
صارت الآن وصارَ..... مجنونين
أو مفتونين بسحر النسيج الذي يكادُ يشبهُ نشيجَ الروح وبوحها في السر
هو يخيطُ
وهي تنكثُ ما خاطَ
وبينهما ظل وارف
و ظل آخرَ واقف
وهما لا يعرفان لمن الظلان
فلاهما له ولاهما لها
إذ لا يصح أن يكون للواحدِ ظلانِ
أمْ أنه قد صارَ غيرهُ وهو لا يدري

أم تراها  صارت ظلهُ
 أم أنها ثارتْ ضدهُ وهما لا يعترفان
بأنهما ضدان لكن.......... متحدانِ

صارت هي  الآن التي تصنعُ الشباكَ لظلهِ وهو يفك خيوطها حتى أضاعا معا رأسَ الخيطِ وما عادا يعرفان
أين الأصلُ وأين الظل مما يريان؟
4

في تلك الطفولة التي كانت جميلةً إلى أقصى حد
جمعتهما الدراسة بالقسم الداخلي للثانوية القديمة لبلدته  القديمة
جمعتهما فسحة الصباحِ و فسحة الغداء وفسحة الزوال وفسحة المساء  وما قبل القيام وما بعد  السكونِ
جمعتهما شبهة الجنونِ
هناك تعلما فن المشي والتفكير الصامتِ في الأشياء.
سيتذكرُ وهو في السجن تلك العادة اللذيذة
الذهاب ثم الإياب ثم الذهاب ثم الإياب بلا توقفٍ
كأنما ينسجُ بخطواته شباكاً لصيادي الظلال
وحتى أصدقاؤه الخلص يعرفون
 بأن أحب الأشياء إليه  أن يفكرَ وهو يمشي
وكأنه أثناء المشي يقطفُ من شجرةِ الروح  فاكهةَ المعاني
كانت تمشي
وكان يمشي وراءها في تلك الفسحات
يمشي وراء ظلها على استحياءٍ مطأطأ الرأسِ
وهي كانت تفهم ولا تقولُ
تمشي ويمشي وراءها مطأطأ الرأسِ كما لو أنه سيرمي الشباكَ لاصطياد ظلها
ينظر دائما أمامهُ ولا يرفعُ عينيه أبداً إلى ظهرها
لا يرى قامتَها ولا يرى كتفيها ولا يرى جدائلَ شعرها المضفور بعناية أهل الجنوبِ

ظلها يمتد من كعبيها حتى رؤوس أصابع قدميهِ
والمسافاتُ بينهما  تطولُ تطولُ  كليل الشوقِ
تمشي ويمشي دون أن يرفعَ عينيه
فجأةً تتوقفُ ثم تستديرُ كأنما ستواجهه
بكلام أو سلام أو رفضٍ أو قبول
تستديرُ كأنها ستطمئِنه على ما هو فيهِ
وهو يمشي منتشيا بمراقبة الظل
غارقاً في غيبوبة الحالِ
يجدُ نفسه أمامها ملتصقاً بالجسد البهي وجها لوجه
تأخذُهُ الدهشةُ وتطوحُ به ولهانَ ولا يعرفُ كيف يرشفُ من الثغرِ المشتهى رضابَها أو يغرفُ من خمرِ وجدِه كأساً لسكرهِ
بها
أو لشكرِها  

يخبطُ القلبُ في الصدرِ وتنحبسُ الأنفاسُ
لا يتكلمانِ
ينظرُ خلفَه فإذا خلفَهُ ظلانِ يرقصان حول نفسيهما
ظلان ملتصقان  يدوران يدوران كظل واحدٍ حولهما   
ظلان متيمان..........بهما    
ثم ينظرُ إليها وإلى الظلين  مضطرباً
 كيفَ صارَ ظلاهما ظلا واحداً وهما
 اثنانِ؟
...........................
في تلك الطفولة التي كانت جميلةً وبريئةً إلى أقصى حد
كانت طفولتُه تضفرُ شعرَ الغريبة لتجعله جدائلَ للحكايةِ
وكانت  الحبيبةُ تفكُ جدائلَ الحكايةِ وتمشي أمامهُ في مرحٍ
......................
بعد سنواتٍ وسجنٍ خاطفٍ
أو بعدَ سنواتٍ وعشقٍ جارفٍ
.........................
مرتْ بخاطرهِ صورتها
التقيا صدفةً بالحي الجامعي
كانت تمشي كعادتها
تشبكُ يديْها خلفَ ظهرهِا كأنها تخفي وراءها الصراخَ الفطري
لكائناتِ البراري
لم يصعدْ أبداً صراخ من صدرِها
ولم تُسمع أناتُها في غاباتِ الروحِ
رأته ورآها
نظرت إليه خلسةً  كأنها تقول " راقبْ ظلي "
أو كأنها تقول ارمِ شباكك الآن .
أ يا صيادَ الحطامِ
نظرت إليه متواطئةً على السر ثم تقدمته هادئةً إلى الممشى
طأطأ رأسه ومشى وراءها على استحياء
فجأةً رجعتْ في أثر خطاها على عجلٍ
شدته من كتفيهِ نظرت في عينيه غاضبة و صاحت فيه  :
" أفقْ ..أفقِ الآن من الحلم "
تذكرَ بأن الطريقَ إليها كان طويلاً
تذكر بأنه لم يصلْ لأنها أيقظتهُ من الحلم .....
5

 

يخلفان الهمسَ وراء ظهريهما ويمضيان
جنباً إلى جنب يتقدمهما ظلان
بيدين
متشابكتين
ظل واحد لهُ ......هو ظلها
وظل واحد لها ...هو ظله
يمشيان أمامهما في تواطئ واضح
وأحيانا يلتفتان لبعضيهما ويتغامزان
الظلان يعرفان بعضيهما
وهما لا يعرفان
الظلان حبيبان  حبيبان
وهما.......
يخلفان الشمسَ وراء ظهريهما ويمضيان
جنبا إلى جنب..... لا يقول ولا تقولُ
يتقدمهما الظلان يتناجيان
واحد لها ....هو ظله
وواحد له ...هو ظلها
ظلان عاشقان
هي ..........................
هي........................
لا تزالُ تسرقُ النظرات إليه بطرف العين
فتراهُ
يرمي شباكَ عينيه حول ظلها ويرفعهُ عن الأرض
ثم يرتديه لباسا له .....سعيدا سعيدا بصيده الثمينِ
ظلها صار لباسا
................لباسا لهُ
وظله لا يزال يمضي أمامه ممرغا في التراب
أفاق من حلمه  بعد أن هزته من الكتفين
فرآها لاتزال تمشي إلى جانبه يسبقها الظل
تمشي إلى جانبه وهي تعرفُ سره
ويمشي إلى جانبها وهو يخفيه
لم تكن سعادته في صيد الظل و إنما كانت في اختلاسه النظر إليها وهي تراقبهُ سرا بطرف العين
كانت سعيدةً
سعيدةً
سعيدةً
بصيدها الثمينِ ....................................................
                                                                         
                                                                     القنيطرة:13/04/2013  

3 commentaires:

  1. بارك الله فيك وفي قلمك الذي يكتب بهذا البهاء و هذا النقاء ....وكل تلك العبر..ودمت كاتبا متألقا و قارئا نهما...ولك تحياتي ...أخوك الحسن رزوقي من بركان.........................................

    RépondreSupprimer
  2. جمال الين حريفي:/ ممنون لك أخي الحسن وشاكر/ جميل كلماتك يغمرني سعادة وسرورا/ وحسن ظنك بي من رهافة حسك و صدق إحساسك

    RépondreSupprimer
  3. بلا تملق زائف لقد أعدت قراءة المقال ووجدته يستحق التنويه............الحسن رزوقي

    RépondreSupprimer