28/12/2009

الغرفة الباريسيّة

تماماً مثل غرفة فان كوخ ، كرسيّ يتيم، مرآة مهشّمة بلا إطار، سرير عقيم، صورة و لوحة في الأقصى، حاملة ملابس، بعض الأشياء الحقيرة على الطاولة الحقيرة، نافذة مشرعة على السماء تستجدي حمائم باريس و تمنحها بعض الطعام، وباب، باب وحيد و كئيب لا يقرعه أحد، و لا يفتحه أحد، و لا يدفئه أحد، لا يدفئه و لو جسد
و خلافا لـكوخ، لن تفترش الأرض، لن ترسم صورتك، لن تجسّد مأساتك في لوحة تعلّقها على هذا الجدار، لن تبكي حظّك العاثر و لا حبّك الضائع، و لن تأخذ السكّينة الحادّة لتقتلع أذنك ثمّ ترسلها إلى حبيبتك الخائنة، لن تقتلع الأذن المسكينة ... ليس في الدنيا ما يستحقّ أن تضحي من أجله بأذن و لا بظفر و لا حتى بفائض قيمة الجسد
وتماماً مثل سعدي ، لا تملك من باريس سوى هذا المستطيل العجب ـ الدنيا : المتر في النصف متر، لا تملك من باريس إلاّ هذا التعب و هذا الحزن و هذا المستحيل . و لا تملك منها إلاّ هذه النافذة المطلّة على النهر، الجسر و الشارع الطويل
و في المساء حين تعود مع العائدين منهكاً، مهدود الجسد، لا يدخل غرفتك غير البرد الذي يهاجم المفاصل المتعبة من الأوراش الفجريّة، و يلدغها كالإبر الحمقاء تلدغ القمصان القديمة، و غير الشاي و النعناع و أخلاق التوحيدي ، و الجبنة، و نبيذ الجيلالي بوعلام ، و لا تدخلها غير اللغة العربية، و بعض الأصدقاء المحكوم عليهم بالغربة الأبديّة
تماماً تماماً مثل يوسف العراقي ، أنت تخطو إلى الثلاثين لكنّك تحسّ كما لو أنّك تخطو إلى الستين، بلا بيت و لا عنوان، بلادك لم تعد ملك يديك و لا حلم الحالمين، و الموت في الغربة أضحى هاجسك و مدار التفكير. و أنت هذه الليلة، بلا ريب، قادر على أن تكتب أكثر القصص حزناً
و تماماً مثل الحلاّج تشعر، تدرك أنّ هذه الغرفة مليئة سكاكين ... السكاكين مبثوثة في كلّ مكان ... على الأرضيّة الخشبيّة، على الجدران، على النافذة، على الباب و في كلّ مكان
تماماً كبرميل الحلاّج ستكوّر يوماً في ساحات باريس و تقطع السين طولاً و عرضاً، و يشهد الناس فتوحاتك و نبوأتك، و ستمطر السماء ماءً و دماً و ضفادع، و يشهدون يومك ... يشهدون و يُشهدون الآخرين، و ستمزّق إرباً إرباً لأنّك اليوم تقول : إنّي رأيت الله، رأيته فيك و في الناس و فيّ، رأيته في الشجر و النهر و الجسر، رأيته في الصوت و الضوء و الظلّ و كلّمته ... إنّي ما كلّمت الناس ثلاثاً، و لكنّي كلّمت الله و كلّمني
و تماماً مثل دنقل : جسد هزيل دقيق و ضامر ملقى على السرير، منخور من الداخل و منخور من الخارج، منخور من الأعماق؛ تكره البياض، البياض موت و فناء، البياض انتهاء قبل الأوان، فجيعة الأحياء، نذر شؤم، و السواد تميمة الناجين، تميمة ضدّ الزمن، لكن الغرفة ، الساعة بيضاء، و الأرضيّة بيضاء، و الطاولة بيضاء، و الأدوية التي فوقها بيضاء، و النافذة بيضاء، و ستائر النافذة بيضاء، و السماء التي خلفها بيضاء، و الباب أبيض، و الشارع تحت أبيض، و قميص نومك و قرص المنوّم و كوب اللبن أبيض ... أبيض... أبيض... أبيض، حتى سواد العين اختفى خلف الجفن، اختفى ليستولي على عينيك بياض الوهن، بياض الموت
و مثل أمل تصارع البياض، تعاند الفناء و تنتفض من غفوتك لتفتح لك صفحة في الغرفة الباريسيّة
و تماماً تماماً مثلي أنا هذا الجسد و هذي الغرفة، و هذي النافذة، و هذا البياض الذي لا يذكّرني بأشرطة القماط، و لكنه الآن يذكّرني بالكفن، يعرف و أعرف الليلة أن لا وطن لنا غير العيون العميقة، و لا جسد لنا، و لا دفء، و لا أحلام؛ نعرف أنّنا لن نرتاح هذه الليلة، و لن نتوسّد حضن الأمّ، نعرف أن لا يد ستمسح على رؤوسنا بحنان، و لا حبيبة ستشرب من دموع أعيننا أو تمدّ لنا كأس ماء حين الظمأ، نعرف أنّنا قريباً سنموت هنا بعيداً هناك، سنموت غريبين وحيدين، و لن نحضن تراب الزعفران
سنموت تماماً كما تموت اللقالق

باريس 27 11 1998
بروكسيل 30 11 1998
¤
محمد العتروس
من مجموعته القصصيّة : عناقيد الحزن
صص: 11*13
منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب
2002
صورة الغلاف : كَلوريا فريدمان


11 04 2009

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire