مهداة إلى حرفي الحاء والنون المتصلين في التئام، والملتئمين في انفصام.
في زاوية من شارع بئر إنزران، وبالضبط في المقهى الخلفي لمركز البريد حيث ألف ارتشاف قهوة المساء، كان يمارس لعبة الحروف، ويصارع أبا سلمى في حذلقاته اليومية هروبا من الضوضاء والجلبة التي يشتعل أوارها بين الفينة والأخرى في بعض الجلسات، لم تعد تستهويه النقاشات والأحاديث الجماعية التي يظل مقياس درجة حرارتها يتراوح بين الصعود والنزول، فكثيرا ما كانت تجلب له صداع الرأس وتشق بسهم نفاقها قلبه الفتي. وحتى لا تزكم أنفه رائحة الدناءة والحقارة المنبعثة من بين تلك الجموع، كان ينزوي إلى الركن الخلفي من المقهى حتى يكتسح بنظره كل الحركات والسكنات، وهو ما كان يقطع حبل وده بحروف اللعبة ويفوت عليه في كثير من الأحيان هزم أبي سلمى.
لم تكن اللعبة غاية في حد ذاتها، بل كانت بالنسبة له مناجاة للنفس وتوظيفا لبعض الحروف التي ظلت عالقة بذاكرته، ارتأى أن يمرغها في سواد المداد، ويسجنها داخل مربعات الشبكة قبل أن تتقادم وتتملك نفسه، ثم تحجزه بين براثن الرذيلة. فكثيرا ما كان يقحمها في تلك الخانات التي يستعصي عليه حلها حتى يمحو بياض الشبكة، موهما بذلك نادل المقهى الذي ما يلبث يحدث الرفاق عن عبقريته اللغوية وتخصصه في اللعبة، واتقاء للسانه الساخر الذي يطلق عنانه وهو يجمع ما تبقى على الطاولة من فناجين القهوة وقصاصات الورق.
لم تكن اللعبة لتنطلي على النادل في كل مرة، فقد حدث أن تصفح الشبكة ليكتشف عدم تجانس جملة من الحروف مع ما تطلبه الخانات، لكن ثقته بعبقرية الرجل جعلته يصدق كل ما هو مكتوب، وما عسر عليه فهمه يرده إلى مستواه الهزيل، ليبدأ في ندب حظه الذي لم يحالفه لاستكمال دراسته التي توقفت عند السنوات الأولى من التعليم الابتدائي.
لم تكن اللعبة لتنطلي على النادل في كل مرة، فقد حدث أن تصفح الشبكة ليكتشف عدم تجانس جملة من الحروف مع ما تطلبه الخانات، لكن ثقته بعبقرية الرجل جعلته يصدق كل ما هو مكتوب، وما عسر عليه فهمه يرده إلى مستواه الهزيل، ليبدأ في ندب حظه الذي لم يحالفه لاستكمال دراسته التي توقفت عند السنوات الأولى من التعليم الابتدائي.
أدت به تلك الثقة إلى أن يجهد ذهنه، ويجرب قراءة الكلمة في شتى الاتجاهات، وسرعان ما بدت على محياه ابتسامة عريضة أظهرت أضراسه التي غلفها سواد السجارة وكأنه عثر على شيء مهم. اقترب من الرجل فهمس في أذنه، ليتبادل الاثنان قهقهات جلبت انتباه الحاضرين الذين شاركوهما الضحك بالرغم من جهلهم لما يجري، ضحك أبان عن أنيابهم المكشرة التي تتربص بالفرائس، لعلهم يجدون ما يلوكونه أثناء نقاشاتهم الفارغة.
نعم هو ذاك اسمها بالضبط، قال الرجل. لكن صدقني أنني لم أكن أقصده بالذات، فقد كانت مجرد حروف زرعتها بكل عفوية؛ لأتخلص من هذه الورقة.
أجل النادل طلبات الزبائن، وصم أذنيه عن مناداتهم؛ لينخرط في حديث كان يظن أنه أدرى به من غيره، فبادر إلى القول:أعرف أنك لم تكن تقصد، غير أن القراءة المعكوسة للكلمة هي التي أفرزت هذا الاسم، وهي طريقتي في التعامل معهن، اسألني عن طبعهن وسأحكي لك الكثير، إنهن يقرأن بعكس ما نقرأ، ولا يستقمن معك على الطريق نفسه، اسألني فقد خبرت أسرارهن وعلمت من طبائعهن ما لم يعلمه أحد قبلي، فقد كنت قبل زواجي زير نساء.شرد ذهن الرجل برهة ليسبح في ملكوت الله، لم يوقظه من غفوته غير رنين شظايا الكأس المتدحرجة من يد النادل، فاستدرك قائلا: أنت متزوج؟ وما طريقة قراءة السيدة؟.أجاب النادل: أحسنت هذه المرة الاختيار، بحثت عن الأصول وعن الشرف، فكانت النتيجة جيدة.عبارات كثيرة انضافت إلى رصيد الرجل (الشرف- العائلة- الأصول....) أعادته مرة ثانية إلى لعبة الحروف والبحث عن الأضداد ليبدأ هو الآخر في القراءات المعكوسة، وحين يعجز عن إيجاد الضد االمناسب، كان يتحايل على الكلمة فيضيف لها حروف النفي لتؤدي عكس معناها، فساعده ذلك على فك شفرات كثير من الرسائل الملغومة التي ازدحمت بها مذكرة هاتفه المحمول.لقد جلت هذه القراءة الجديدة المشفوعة بالقرائن كل غموض، وأماطت ألوان المساحيق الخادعة التي غطت وجها أنهكه الزمن، فلم تعد تملك بعده- في زمن الأنوثة - غير لسان سليط تشهره في الآخرين، وكأنما تنتقم لعوادي الزمن الذي تأخر بها عن الركب، فتجردت من كل إحساس بل عمي بصرها وبصيرتها، فلم تعد ترى غير بطن منتفخ يزاحمه مقود السيارة، وهو الشيء الذي انتظرته فلم تظفر به، لتجد نفسها أعلى القمة حيث النزول مستحيل، ومواصلة المسير محفوف بالمخاطر بل غير محمود العواقب، ولتشهد سريان الموت البطيء في جسدها الذي بدأ يتساقط كأوراق الخريف.
لم تكن هذه القراءة إلا قراءة نموذجية لمئات الكلمات التي أفرزتها حروف النفي الباحثة عن الأضداد ليكون آخرها جسد مترهل نهشته الثعابين البشرية وتركت آثارها علية بادية للعيان، بل من لجروح ما غار ليتحول إلى عاهة مستديمة. جسد قدم قربانا واستعمل طعما للصيد، غير أن الأسماك المذعورة من تلك المياه الآسنة، كانت تتلقف الطعم دون أن تقع في الشباك لتعود بعد ذلك إلى حيث الحنين والحياة، فيعلق بالصنارة -بعد طول بقائها هناك- بعض من الرخويات غير المرغوب فيها. فما سر إذا البقاء أعلى القمة مسجونا، والعودة بالشباك فارغة؟! إنها قرأت بعكس ما يقرأ، فصادت عقعقين و بوماً.
محمد رحو ¤ بركان
28 07 2009
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire