28/12/2009

عن ديوان أمضغها علكاً أسود

Yamal ©


بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على الصفوة المختار من خلقه أجمعين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
في البداية أود أن أتوجه بجزيل الشكر وعظيم الامتنان لمن كان لهم الفضل في تيسير أواصر اللقاء بين مثقفي المدينة ومبدعيها في هذا السمر الشعري، الإخوة في جمعية أبركان للثقافة والتراث الذين ما فتئوا يخطون الخطوة تلو الخطوة من غير كلل أو ملل في سبيل إعلاء صرح الثقافة شامخا في هذه المدينة التي لطالما صنفت في الهامش. فبالرغم من فتو الجمعية فهي ترتقي مدارج العمل الثقافي بثبات، وقد استطاعت أن توفر لنفسها ربيرتوارا زاخرا من الأنشطة يبوئها مصاف الجمعيات العتيدة.
وارتباطا بعمل الجمعية الثقافي دائما هاهي الآن تضيف لبنة أخرى إلى بنائها، وذلك من خلال احتفائها بمولود محلي جديد موسوم ب "أمضغها علكا أسود " حمل توقيع الابن البار لمدينة بركان الشاعر المتألق محمد ميلود غرافي. وللتذكير فان هذه الأضمومة الشعرية تمثل التجربة الشعرية الثانية للشاعر المحتفى به بعد أن كان قد أهدى المكتبة البركانية بخاصة والمغربية بعامة تجارب عشقه المريرة سنة 2002 أودعها مجموعته الشعرية الأولى تحت عنوان "حرائق العشق".
وبتتبعنا لمسير الشاعر الإبداعي نجد ما بين الديوان الأول والثاني مساحة زمنية مهمة راوحت ست سنوات وهي فترة كافية بأن تقدح وهج الكلمة ولظاها في الشاعر، وتساعده على اختمار الفكرة ونضج التجربة وفي الأخير على يسر الولادة. ولعل حرص المبدع - أي مبدع- على الانتظام في إخراج إصداراته إلى حيز الوجود أمر محمود يحسب له، ويوليه النقاد أهمية قصوى في قراءاتهم النقدية.
صنف بعض النقاد –ومنهم حسن توفيق- الشعراء إلى مجموعتين: شعراء يواجهون الواقع مواجهة المتخاذلين وكان على رأسهم الشاعر الانجليزي الكبير إليوت، وآخرون يواجهونه مواجهة المتجاوزين له، وكان الشاعر الألماني بيرتولد بريخت مثالا لهم.وضمن هذا التصنيف حاولت أن أموضع شاعرنا محمد ميلود غرافي فتراءى لي أنه احتار سبيل الغاضبين الثائرين ليعلنها حربا شعواء ضد واقع قمئ ضحل، و إلا كان سيختار مضغها علكا بنكهة "الفاني" بدل أن يصر على مضغها علكا أسود.
وتبدأ هذه الثورة وهذا الغضب مع فاتحة هذه المجموعة الشعرية، ففي أولى القصائد يطلعنا الشاعر على واقع عربي مرير استشرى فيه التقتيل والتذبيح وانتهكت فيه الكرامة الإنسانية وضاعت النخوة العربية، فأصبحت صور الدمار مألوفة لدينا وجزءا من حياتنا اليومية، لكن إذا كانت حيوانية الإنسان قد خيمت بظلالها على هذا العالم فإن إنسانية الحيوان -ومن خلال قطة الشاعر- ستعيد له التوازن. وكيف لا وهي قطة ملتزمة بقضاياها العربية أيما التزام كما جاء في الديوان (ألم ترها ترقب عن كثب نشرة أخبار الليل ولا تأكل عند مرور الدبابة في بغداد وتسعل حين تشاهد قطا يعلو قطته في أفلام السبت؟ إذن دعها حسب تعيش.
هي مثلي أو مثلك
لا تسعفها لغة
أخرى
حين تعض.
) ص:8
لقد حرك هذا الواقع المرير الصغار قبل الكبار حتى وإن كانوا لا يفهمون لغتهم ولا يعون شيئا مما يحيكونه ضدهم، ونموذج ذلك الطفلة لينا التي كانت تصرخ في وجه رئيس الجمهورية المنتفش غيضا في صورة القط الذي يحكي قصة الأسد، كلما ظهرت صورته على شاشة التلفاز. وهذا ما نقرأه في قصيدة الصرخة (لينا لا ترسم بعد شجيرات وعصافير.ولا تفهم شيئا في تخصيب اليورانيوم ولا حتى في الهجرة والحد الأدنى للأجرة.لكن حين تشاهد في التلفاز رئيس الجمهورية كل مساء تصرخ، تلقي بالدمية أرضا وتصيح بما يشبه صوت الناخب حين يجن:آآآآ) ص:28
كما نجد الشاعر في هذا الديوان مهوسا بقلق السؤال، فاتخذه سبيلا لإبراز النقائص و السلبيات، نستشف ذلك من قصيدة "نشاز" التي يقدم لنا الشاعر على ضوئها صورة الجيل الأول من المهاجرين في أعين الأوربيين إذ كانت نظرتهم إليهم نظرة دونية، ولربما اعتبروهم شعبا بدائيا منبت الصلة عن كل حضارة، وهذا واقع كرسه هذا الجيل الذي لم ينعم بقسط وافر من التعلم في بلده الأم، قصد الضفة الأخرى بحثا عن حياة اقتصادية واجتماعية بديلة. ولعل هذه الصورة النمطية التي ارتسمت في أذهان الأوربيين ما تزال طاغية بالرغم مما شهده العالم من تطورات وتغيرات سريعة. ففي بحر القصيدة نرصد هذه التساؤلات التي راودت ذهن الشاعر والتي كانت مثار حيرته وانزعاجه من تصرفات جارته مرغاريت التي لم تستسغ أن يكون هذا الإنسان العربي- بالرغم من كونه يمثل النبوغ المغربي- متزنا في تصرفاته لبقا في تعامله، بل أكثر من ذلك فقد أرقها أن ترى إنسانا أسمر على قدر كبير من الاحترام.يقول الشاعر( ثم تغادر مسرعة و أنا أتساءل ماذا لم تسمع جارتي الليلة ؟ صوت التلفاز؟الرد على الهاتف؟أغنية الراي؟صرير القلم؟ المضغ؟...) ص:11
وتزداد الأسئلة تناسلا في قصائد أخرى من الديوان، باحثة عن الثغرات والعثرات، كاشفة للأستار والحجب كما في قصيدة "برج الأسد". وهذه الأسئلة هي ما يمنح قصائد المجموعة الشعرية قوة، بل ويجعلها أكثر قربا من القارئ، ذلك بأن الشاعر لا يمنح القارئ الأجوبة الجاهزة عن هذه التساؤلات، فهو بحنكته الأدبية والفنية العاليتين يورط القارئ فيها، ويجعل منه شريكا له في الانشغال بما تثيره من قضايا، لأنه يعي بأن الحلول لا تحصل إلا بالإجماع. وهذه تقنية في الكتابة الإبداعية يتميز بها الأفذاذ من المبدعين، يقول ستيفن سبندر في هذا الصدد "الشعر العظيم كله يتأمل العالم والإنسان وقوانينه وأديانه، ويتساءل لماذا، لماذا تجري الأمور على هذا النحو بينما كان من الممكن أن تجري على نحو آخر" والرأي نفسه يؤكده نجيب العوفي في قوله" والقصيدة الشعرية الحقة كانت وما تزال دوما بنت قلق وأرق وخلاصة إشكالات وتساؤلات "
قبل أن ترى هذه الأضمومة الشعرية النور، كنت، وكنا ربما جميعا لا نعرف بعضا من جوانب شخصية الشاعر محمد ميلود غرافي الفنية فقد كنا نحسبه شاعرا يمتطي صهوة العروض العربي تارة، وتارة أخرى يكسره ويثور عليه ملبسا إياه قضايانا الراهنة كما هو ديدن جل المبدعين، غير أن هذه المجموعة جعلتنا نكتشف خبايا هذه الشخصية الإبداعية وانشغالاتها الفنية المتعددة، وسيكاد يجزم القارئ معي أن الشاعر "مجدوب الكصبة" وذلك من خلال احتفائه بفن تراثي أصيل وهو فن المشيخة في شخص الفنانة الجزائرية الشعبية الراحلة الشيخة الريمتي، وذلك في قصيدة "غزالها والنوار" ومنها سأقرأ لكم هذه "التبريحة"
( الغربة عشات والناس تقاسي
تمشي وتهيم ف شوارع ليلية
من لا شابيل حتى لكليشي
تبحث ع البندير والسعدية
والقصبة من تحزن وتنسي
وتبعث لهموم ف قلوب فتية
) ص54
لا شك أن الشاعر كان يجد في هذه المواويل متنفسا لتفريغ بعض هموم الغربة، وجسرا من الحنين يشده إلى الوطن الأم، لكنه- وهو كذلك- يأبى أن ينسي هز الأكتاف والأرداف في باربيس ليالي السبت الوافدين إلى أرض الغربة أو المقيمين بها نصيبهم من الألم الشديد، لأن غزال الشيخة الريميتي قد يكون غزالها هي وحدها، ورحل برحيلها أما الآن فقد أصبح ذئبا أغبر يجوس الأزقة والدروب باحثا له عن فريسة.
إن الشاعر- وهو يحتفي بفن المشيخة في هذه القصيدة- يسعى إلى تأصيله باعتباره فنا راقيا يمثل ذاكرة أمة ومخزونا ثقافيا تليدا ضاربا بجذوره في أعماق التاريخ، إن الشاعر بعبارة أدق يرفض فلكلرة التراث.
قبل أن أنهي هذه الورقة وددت أن أحيل نظر القارئ على المادة التي حيكت بها قصائد هذه المجموعة الشعرية، اقصد اللغة التي اعتمدها الشاعر في سبك قصيده، ذلك بأن الفكرة والموضوع وبحور الشعر أحيانا لا يمكنها أن تعطينا شعرا مهما ارتقى الشاعر في تجويدها، إذ العبرة بالأداة التي تحتوي هذا الطبق الشعري أو ذاك. و قد قال الجاحظ قديما" من أعطاك علما بلغة رديئة كمن أعطاك عسلا في كأس متسخ"والفاحص للغة المجموعة الشعرية سيجدها لغة أنيقة منتقاة لا هي بالوحشي المتوعر ولا هي باليومي المبتذل، فهي لغة شعرية تخزن داخلها ألف لغة ولغة، لأن الشاعر لم يعمد إلى قول كل شيء، عن طريق أسلوب مباشر تقريري، وإنما ترك مساحات بيضاء يتوجب على القارئ ملأها، وذلك بإعمال ذهنه وإجهاد فكره حتى لا تكون قراءته قراءة مسلية أو روتينية، وإنما قراءة إبداعية تتيح للقصيدة أن تنكتب من جديد كلما وقعت بين يدي قارئ جديد، وهكذا ستغدو القصيدة الواحدة قصائد متعددة.
إن الشاعر يترفع عن العاديات من القول بما يضمن له ولقصيده التميز والفرادة، وإلا كيف يمكن التمييز بين كلام من شعر وكلام عادي، فكلام الشاعر إيقاع وإيجاز وجمال وقوة وتماسك ونظام وتنوع شكلا ومضمونا، وإيماء إلى الشيء دون التصريح به، لأنه يعي أن في اللمحة ما يكفي من الجراح، وحتى لا يكون هذا الحكم إلقاء للكلام على عواهنه الفت نظر القارئ إلى بعض العبارات التي حبلت بها المجموعة في مثل قصيدة" أنظر كيف يطير" والضمير هاهنا عائد على الحذاء "ضعه قريبا من رأسك، تسمع كل صداع الأرض، أنين الآشوريات الإسفلت الحارق، نبض الموتى، رعب الليل الفسفوري" فهذه العبارة على قصرها فهي حبلى بالمعاني العميقة والدلالات الكثيفة، فالشاعر يجعل من هذا الحذاء شاهدا وشهادة على مغص الأرض العربية وأنينها الذي طال واستطال ولا من مجيب.حذاء يريده الشاعر أن يثير النقع في يوم الكريهة وفي ساحة الوغى لا في ساحات المهرجانات الإيقاعية الراقصة.
إن ما أشرت إليه هاهنا من معان ومبان وموضوعات ما هو إلا برض من عد وقليل من كثير اجتزأته من قطوف هذه الحديقة الغناء، وإلا كنت سأمضي في قطف زهراتها بعيدا وربما لا أؤوب. عند هذا الحد أقف لأترك الفرصة للقراء ليبحروا بدورهم وبأدواته الخاصة في محيط هذا الديوان اللجي، ويستخرجوا كنوزه ودرره النفيسة، ففيه من اللآلئ ما يغري بالغوص في أغواره.



محمد رحو¤ بركان


09 10 2009

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire