28/12/2009

عن المجال الحدودي بين المغرب و الجزائر



لم تكن مشاكل المجالات الحدودية 1 وليدة أحداث القرن العشرين، بل هي ظاهرة قديمة في تاريخ المغرب 2 ، و برزت بشكل لافت للنظر خلال القرن السابع عشر إثر أول محاولة لإثبات معالم الحدود بين أتراك الجزائر و السلاطين العلويين، بسبب غموض مفهوم الحدود لدى الحاكمين و المحكومين في بلدين إسلاميين متجاورين 3 . و اتخذت مشاكل الأطراف الشرقية بعداً خطيراً منذ منتصف القرن التاسع عشر عقب احتلال الجزائر و انهزام الجيش المغربي في معركة إسلي سنة 1844 . و زادت اتفاقية الحدود الموقعة سنة 1845 الأمر تعقيداً، فأذعن المخزن 4 لمهادنة السلطات الفرنسية بالجزائر، و دعاها إلى احترام حقوق الجوار، و في الوقت ذاته حاول تقليص المعاملات التجارية معها، أملاً منه في تجنّب أيّ توتّر قد تتخذه تلك السلطات ذريعة للتطاول على الحواشي الشرقية للبلاد، إلاّ أنّ المخزن فشل في إقناع قبائل الحدود بالعدول عن التعامل مع غرب الجزائر، حيث توثّقت الروابط بين قبائل البلدين بفعل التأثير التجاري الفرنسي بمنطقة الحدود، الأمر الذي ترتبت عليه نزاعات، و ألزم المخزن على إثرها بدفع تعويضات مالية للسلطات الفرنسية بالجزائر، فاستغلت فرنسا هذه الظروف و أقنعت المغرب في مستهل القرن العشرين بضرورة وضع إطار قانوني ينظّم المبادلات التجارية، و يضمن السلم و الهدوء في منطقة الحدود، و تُحلّ بموجبه كلّ النزاعات التي تقع بين سكان البلدين . و سبق ذلك وقوع هجمة فرنسية واسعة على جنوب شرق البلاد، حيث استولت الجيوش الفرنسية على واحات توات . و بعد أن آل أمر شمال شرق المغرب إلى السقوط في قبضة المحتلين الفرنسيين، زادت مشاكل المجالات الحدودية تعقيداً و اتخذت طابعاً جديداً، فحاول المغرب في بداية الأمر إخراج المحتلين من مدينة وجدة و أحوازها، و بعد أن يئس من تحقيق ذلك، اتجه اهتمامه إلى الحفاظ على حضوره بالمنطقة الحدودية المحتلة . و هذا ما دفعنا إلى محاولة الإحاطة بأشكال المواجهة المغربية ـ الفرنسية بالمجالات الحدودية الشرقية منذ مطلع القرن العشرين، إلى حين تاريخ توقيع عقد الحماية، حيث تعدّدت و تنوعت المشاكل المطروحة من مرحلة إلى أخرى . و يسعى البحث إلى تحديد طبيعة هذه المشاكل و الكشف عن الخطط التي واجه بها المغرب سياسة الأمر الواقع التي نهجتها فرنسا بمناطق الحدود .
و نهدف من خلال هذه الدراسة إلى استكمال البحث في منطقة شرق المغرب من سنة 1900 إلى سنة 1912 ، حيث وقع التركيز في دراسة سابقة على العلاقة بين السلطة المركزية و قبائل الحواشي الشمالية الشرقية . أمّا هذه الدراسة فهي محاولة لكشف بعض الجوانب من سياسة المخزن المركزي إزاء الأطراف المهدٌدة بالاحتلال . و قد اخترنا عمالة وجدة 5 نموذجاً لها، نظراً لما لها من خصوصيات طبيعية و بشرية تميّزها عن باقي مناطق الحدود 6 . الأمر الذي يطرح إشكالية البحث في الآليات التي تحكمت في العلاقة المغربية ـ الفرنسية بهذه المنطقة، إثر توقيع اتفاقيات جديدة حول الحدود في مستهل القرن العشرين، فتحدّد بذلك الإطارالقانوني الذي يحكم العلاقة بين البلدين بمناطق التخوم عامة . إلاّ أنّ القسم الشمالي منها هو الذي كان محطّ تطبيق و اختبار تلك الاتفاقيات . و بناءً على ذلك أصبح باب المغرب مفتوحاً على مصراعيه من جهة الشرق لفائدة النفوذ الفرنسي دون غيره، بعد صمود دام زهاء نصف قرن من الزمن . و هذا ما يطرح إشكالية البحث في الوجوه المتعددة للعلاقة المغربية ـ الفرنسية بمنطقة الحدود و محاولة رصد أهمّ مراحلها . و بعد أن أفضى أمر شرق المغرب إلى الاحتلال، طرحت إشكالية جديدة، تمثّلت في محاولة الكشف عن نظام الإدارة المفروضة بالمنطقة من طرف المحتل . و في خضمّ الأحداث المتتالية عرفت مناطق شرق المغرب تحوّلات هامّة، حاول المحتلّ أن يجعل منها إصلاحاً نموذجياً في ميدان الإدارة على وجه التحديد . و هذا ما يطرح من جهة أخرى إشكالية البحث في موقف المخزن المركزي إزاء هذه التحولات، و كيف تعامل مع الموقف الفرنسي، و بدون شك فإنّ تلك التحوّلات مرتبطة بضغوط بعض الدول الأوربية على المغرب، و بالاتفاقيات التي وُقِّعت بينها حول مصيره، و التي تبلورت في ميثاق الجزيرة الخضراء .
و ينحصر البحث في المجال الحدودي، الذي تنتهي معالمه من جهة الشرق عند خط الحدود مع الجزائر المثبت من سنة 1845 . من مصب واد كيس في البحر المتوسط شمالاً إلى فكَيكَ جنوباً . و يُعتبر وادي ملوية الحد الطبيعي من جهة الغرب . إلاّ أنّ حدود المنطقة من جهة الجنوب ظلّت غير واضحة، فكانت تضيق أو تتسع حسب قوة أو ضعف المخزن المركزي .
و تبيّن فيما بعد أنّ سلطات الاحتلال قد وسّعت حدود مجال ناحية وجدة من جهة الجنوب في إطار سياسة التوسع التي نهجتها بالمنطقة الشرقية، الأمر الذي حفّز مستعمري غرب الجزائر إلى تملّك أجود الأراضي بها، كما صارت المنطقة سوقاً ذات أهمية بالنسبة لفرنسا أنطلاقاً من غرب الجزائر وسقاً و جلباً، فكان التغلغل التجاري و السيطرة الاقتصادية من أسباب التمهيد لاحتلال شرق المغرب، الأمر الذي أذكى التنافس التجاري بين فرنسا و اسبانيا، رغم اتفاق البلدين على اعتبار وادي ملوية حدّاً فاصلاً بين منطقتي نفوذهما . و هذا ما يطرح التساؤل عن الأهداف الخفية من وراء السياسة الفرنسية الرامية إلى توسيع حدود عمالة وجدة بعد سنة 1907 ، إذ صارت المنطقة قاعدة لانطلاق الاحتلال الفرنسي نحو الغرب و محاولة ربطها بقاعدة أخرى، ألا و هي منطقة الشاوية المحتلّة .
أمّا التحديد الزمني 1900 ـ 1912 فيجد تبريره في كون البداية تمثّل محاولة من المخزن لإيجاد حلول لمشاكل المجال الحدودي بين المغرب و الجزائر، بعد أن اجتاحت الجيوش الفرنسية جنوب شرق البلاد، و تبيّن جلياً أنّ المخطط الفرنسي كان يسعى إلى تطويق المغرب من الجنوب الشرقي إلى الشمال الشرقي . أمّا سنة 1912 فهي تمثّل نهاية العمل باتفاقيات الحدود و إخضاع المنطقة شيئاً فشيئاً لنظام الحماية .
و قسّمنا الفترة المدروسة إلى مرحلتين متميزتين : تمتد المرحلة الأولى من سنة 1900 إلى سنة 1907 ، و هي فترة مخاض عسير، تولدت منهما اتفاقيات الحدود، و تميّزت الفترة المذكورة بطغيان حركة الجيلالي الزرهوني الروكَي على هموم العلاقة المغربية بالسلطات الفرنسية بالجزائر، و قد حاول هذا الأخير السيطرة على شرق المغرب، إلاّ أنّ المخزن العزيزي استعاد سلطته عليه، و لكن لوقت وجيز، إذ سرعان ما سقط المجال الحدودي المذكور في يد الجيش الفرنسي في شهر مارس 1907 . و يعد هذا التاريخ منطلق الفترة الثانية التي انتهت بتوقيع عقد الحماية سنة 1912 ، و هي فترة تحوّل من حال إلى حال، و تُعد صلب الإشكالية الرئيسية المطروحة في موضوع البحث . و حاولنا رصد مظاهر هذا التحوّل على مستوى الإدارة المركزية و المحلية، بالإضافة إلى المشاكل المتعلقة بتملّك الأراضي من طرف الفرنسيين و آثارها على أصحاب الأرض الأصليين .
و لم يكن من الممكن الخوض في كل هذه القضايا لولا الوثائق التي اجتهدنا في البحث عنها داخل المغرب و خارجه . فراجعنا بمديرية الوثائق الملكية بالرباط محافظ الترتيب العام بالإضافة إلى عدة ملفات خاصة بقضايا الحدود و العلاقة المغربية ـ الفرنسية، و جل هذه الوثائق مستنسخة عن أصولها المودعة في الخزانة الحسنية أو بخزانة تطوان . كما راجعنا بعض كنانيش الخزانة الحسنية، التي تطرقت للعلاقة المغربية ـ الفرنسية بمنطقة الحدود، أو رصدت بعض الجوانب المالية و الإدارية الخاصة بوجدة و نواحيها . و رغم أهمية هذه الوثائق، فإنّها لم تكن كافية للإحاطة بكل القضايا المطروحة في البحث . و لذلك كان الاطلاع على الوثائق الفرنسية مفيداً، حيث اهتدينا بفضلها إلى الجواب على كثير من التساؤلات
فاطلعنا بقصر فانسين Vincennes على بعض الملفّات الخاصة بالقضايا العسكرية بمنطقة الحدود، و بعلاقة شرق المغرب بالسلطات الفرنسية بالجزائر، إلاّ أنّ أهمّ رصيد وثائقي عن المنطقة صادفناه
بمركز الأرشيف الدبلوماسي بمدينة نانط Nantes 7 ، و يختزن هذا المركز عدداً هامّاً من الوثائق الصادرة عن المفوضية الفرنسية بطنجة و مفوضية الحكومة الفرنسية بوجدة و فرع بعثة الحدود بها، و يحتوي على كثير من المراسلات التي تمّت بين هذه الجهات و وزارة الخارجية الفرنسية و الحكومة العامة للجزائر، فضلاً عن المراسلات التي تُبودلت بين المخزن و الحكومة الفرنسية عن منطقة الحدود عامّة . و الأهمّ من هذا و ذاك هو أنّنا صادفنا به أصول كثير من الرسائل المخزنية التي بعثها المخزن للحكومة الفرنسية أو لمفوضيتها بطنجة حول مشاكل الحدود، و هي من الوثائق التي يصعب العثور على نظائرها في المغرب . و عالجت هذه الوثائق جوانب مختلفة من القضايا التي طرحت بمنطقة الحدود قبل الاحتلال و بعده
و اعتماداً على هذا الكم المتنوع من الوثائق ـ التي نعتبرها رغم ذلك عيّنات لا أقلّ و لا أكثر ـ أمكننا الإحاطة بكثير من المشاكل التي واجهها المخزن المركزي بالحواشي الشرقية، و توصّلنا بفضلها إلى وضع تصوّر قريب من الحالة التي كانت عليها تلك الحواشي في مطلع القرن العشرين، و هو ما حاولنا إبرازه في هذه الدراسة التي وضعناها بين أيدي الباحثين و القراء عامّة، مساهمة منّا في الكشف عن بعض الجوانب التي ظلّت غامضة أو مجهولة في تاريخ المغرب على المستوى المحلّي رغم وضوح المعالم الكبرى لتاريخ البلد . إذ بدونها لا يتأتّى إدراك كنه المشاكل التي ما زالت تقع بين المغرب و الجزائر في مستهلّ القرن الحادي و العشرين بمنطقة الحدود، نظراً للعلاقات التي نُسجت بين سكان تلك المناطق خلال فترة الاحتلال، و منها تستمدّ هذه الدراسة أهميتها في محاولة الكشف عن جذور تلك المشاكل و ربط الحاضر بالماضي

هوامش
يعبّر عن مصطلح المجالات الحدودي في الوثائق بالأطراف، و من المعاني التي يحملها لفظ طرف : منتهى الشيء و الناحية، و له معان أخرى كثيرة، انظر لسان العرب لابن منظور . و قد ورد مصطلح الطرف في الوثائق المخزنية للتعبير عن حواشي البلاد البعيدة عن مركز السلطة و منها شمال شرق المغرب، فوصف المخزن قبيلة بني يزناسن بأنّها زرب الطرف . انظر عبد الرحمن بن زيدان : إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس . المطبعة الوطنية . الطبعة الأولى . الرباط 1933 . الجزء 5 . ص 88

انظر أعمال ندوة المجالات الحدودية في تاريخ المغرب . منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالمحمدية 1999

عكاشة برحاب : مفهوم الحدود في الوثائق المغربية منذ احتلال الجزائر إلى سنة 1912 ، أعمال ندوة المجالات الحدودية في تاريخ المغرب . م . س . ص 37 ـ62

استُعمل مصطلح المخزن في هذا البحث للتعبير عن الحكومة بالاصطلاح العصري، و يعني أيضاً مفهوم الإدارة المركزية أو الإدارة المحلية، و هو كثيراً ما يرد بهذا المعنى أو ذاك في الوثائق

أصبح شمال شرق المغرب ينعت ب : عمالة وجدة منذ منتصف القرن التاسع عشر . ـ ملاحظة : استعملنا هذه التسمية أو تلك للتعبير عن نفس المجال الترابي المدروس في هذا البحث . انظر بحثنا : شمال المغرب الشرقي قبل الاحتلال الفرنسي 1873 ـ 1907 . منشورات جامعة الحسن الثاني . مطبعة النجاح الجديدة . الدار البيضاء . 1989 . ص 207 ـ 208

لقد آثرنا عدم إدراج الإطار التاريخي و الجغرافي في هذا البحث، حيث سبق أن تطرقنا إليهما في الدراسة المشار إليها أعلاه
يعدّ مركز الأرشيف الدبلوماسي بمدينة نانط ملحقاً لمركز كي دورصي بباريس التابع لوزارة الخارجية الفرنسية


مقدمة كتاب
المجال الحدودي بين المغرب و الجزائر
في مطلع القرن العشرين 1900 ـ 1912

عكاشة برحاب
جامعة الحسن الثاني المحمدية
منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالمحمدية
سلسلة الرسائل و الأطروحات رقم : 2
مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء الطبعة الأولى 2002
ص : 9 ـ 15



15 09 2009

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire