28/12/2009

حقك من السماد


عيون السنابل الخضراء ترعاه و ترقبه، و هو بين خرير الماء و صداح العصافير المنتشية بصفاء الطبيعة في ذلك الفصل الربيعي الرائق، و صوت ابنة عمه الرخيم يطرق أذنه و يلاحقه أينما اتجه، احساس لا يقاوم ينتابه و هو يضرب الأرض الصلبة بالمعول، أحلام تنسجها التربة عند ارتوائها بماء المطر و أشعة الشمس لا تفتأ تغازلها . تلك صورة من الماضي يستحضرها كلما اشتد عليه الحال أو ضجر من امتزاج الأصوات البشرية بالآلية و خنقت أنفاسه رائحة الغازات السامة التي تصدر عن ناقلات هادرات باستمرار في فضاء اتسع حتى ضاق .


مد يده الواهنة في جرأة طالبا صدقة، بعد أن أعياه البحث عن القوت في صناديق القمامة، اذ لم يعد يفكر مطلقا في الحصول على المال عن طريق الاحتيال و النشل أو اعتراض سبيل المارة في بعض النواحي المظلمة التي لا يمر منها الا القليل من الناس، فالخير ما زال يقرفص في قلبه . و بعد عذاب دام أشهرا قليلة استقر به الحال ليشتغل مساعدا لحارس سيارات .


مرة وقفت احدى السيارات في المربد الذي يشرف عليه فما أن رأى علامة حمراء تشبه المنجل خلفها حتى اهتاج و أخذ في الصراخ . اقترب منه صاحبه و قال : هل سرق أحدهم سيارة ؟
لا.. لا.. دعني أكسرها و أكسره
عمن تتكلم ؟
عن الذي أوصلني الى هذه الحال


بعد أن تمكن صاحبه من السيطرة على غضبه، قصد مقهى مجاورة فأحضر له كأسا من الشاي، و نفحه سيجارة و أخذ يحكي له عملية النصب الكبيرة التي تعرض لها .


طرق الباب في يوم صيفي حار، مشطت شعري بأناملي، و ذهبت لأفتحه في عجالة معتقدا أن عيوش أتت لتقدم لي قدحا من لبن عودتني عليه، و لترميني بنظرات كالسهام يهتز لها قلبي، تريثت بعض الشيء دسست يدي في جيبي فأخرجت منه مشطا و رحت أمرر بأسنانه الحادة على شاربي الكثيف . و لما اشتد الطرق سبقتني والدتي الى الباب، و عند فتحه انتابتها الدهشة و هي تقف وجها لوجه مع مقدم الدوار، لم يوقظها من سهوها الا سؤالي عن الطارق، فأجابتني في ارتباك واضح :
المقدم يشرفنا بزيارته اليوم
قلت لها : أدخليه


دخل المقدم مسبوقا ببطنه الضخم، راسما على وجهه شبه ابتسامة، فما أن اقترب مني حتى ارتمى علي معانقا و مصافحا بشكل ودي زائد .
تبادلت و أمي نظرات استغراب، لأن المقدم لم يكن يصل مزرعتنا الا لأخذ كبش سمين قبل عيد الأضحى عنوة، أو ليتسلم حقه مما تنتجه الأرض كأنه وريث شرعي، أو ليعين لنا الورقة التي يجب علينا وضعها أنا و والدتي و نيابة عن والدي المتوفى، يوم الانتخابات .
ساد الصمت لحظة بيننا، في حين تسللت العجوز الى العشة لتعد الشاي و بعض الفطائر احتفاء بزيارة المقدم المباركة . و لإذابة جليد الصمت قلت :
إن الذرة لم تنضج بعد كما ترى، فتدخل المقدم قائلا :
يجب الا يذهب تفكيرك بعيدا يا السٌي حمٌو، فأنا ما جئت هذه المرة إلا لأطلب منك الذهاب إلى المدينة لتتسلم حقك من السماد مجانا.
استغربت قوله، فما تعودنا أن نأخذ، بل تعودنا على أن نعطي مكرهين. و لم أحس المقدم باستغرابي، قال :
أعرف أنك غير واثق فيما سمعته مني، و لكي أختصر أقول إن من صوت لصالحه في الانتخابات السابقة، طالب بتوزيع السماد مجانا على المزارعين، و قد ضرب معي موعدا ليقضي حاجته غدا في المدينة.
ولما تعب حمو من الكلام قال لصاحبه سأكمل لك الحكاية غدا. لكنه مات من شدة الحسرة، و بقيت الحكاية مبتورة، و لم تكتمل إلا بعد بحث و تقص قام به حارس السيارات، فحكاها بدوره لمساعده الجديد، لكنه لما توقف أخبره صاحبه بأنه قد أوقف سرده عند الموعد الذي ضربه المقدم مع حمو، فواصل الراوي حكايته قائلا :
قام المقدم و صافح حمو من جديد منبها إياه إلى ضرورة الاستيقاظ باكرا في الغد، و اصطحاب بعض الوثائق التي تخص المزرعة معه
قبل صياح أول ديك، كان حمو يرتشف الشاي الساخن، و هو يرتدي جلبابا خصصه لمثل تلك المناسبات. و انطلق بعد ذلك نحو مبنى الجماعة حيث يسكن المقدم. نقر الباب برفق، ففتحه له بسرعة. وضع يده في يده، و ركبا سيارة الجماعة، جنبا إلى جنب، و انطلقا نحو المدينة


بعد وقت يسير وصلا، فأشار المقدم بيده إلى حيث يوجد النائب المحترم قائلا
انظر إن النائب هناك في انتظارنا، ألم أقل لك إنه يحترم المواعيد
و نزلا من السيارة، اقتربا منه، أحس حمو ساعتها بحياء شديد، ارتعشت يده و هي تلمس يد النائب المحترم، بينما ارتمى الآخر على حمو مصافحا إياه في تواضع نادر.
صعدوا جميعا سلم البناية، خرجوا من مكتب ليدخلوا آخر، توقيعات و بصمات على أوراق لم يكن يعرف المسكين عن فحواها أي شيء. و ما هي إلا دقائق معدودة حتى انتهى كل شيء ...


أخذ النائب المحترم جدا بعض الوثائق، رتبها في حقيبته السوداء، و ركب سيارة الجماعة إلى جانب المقدم. انتظر حمو أن ينادي عليه للركوب، و لكن انتظاره لم يطل، فقد انطلقت السيارة مخلفة وراءها بعض الدخان الممزوج بقهقهات النائب المحترم جدا، جدا
و لما انتهى الراوي من الحكي، أطرق صاحبه رأسه حتى لا تكشف عيناه عن حكايته التي ظلت سجينة ذاكرته من سنين عديدة

قصة قصيرة
حسن المزوني
1994

Yamal ©


02 10 2009

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire