28/12/2009

و حلّقت طيور الشعر في بركان


لوحة : حنان شهبون
===
===

الدرجة الأولى في مؤخرة القطار
حينما استلمت دعوة صديقتي الجمعية الوفية للتنشيط الثقافي والسياحي بالسعيدية، بصفتي عضوة شرفية للملتقى الثقافي الثاني، كدت أطير فرحا، لما خلفت هذه الجمعية في نفسي من انطباعات رائعة ترجمتها في تغطيتي عن نشاط السنة الماضية حيث دعيت لقراءتها. الدرجة الأولى في مؤخرة القطار كانت مرشدة القطار تردد جملتها تلك، وكنت ألهث وحقيبتي تلهث خلفي، كأنها تحمل إثما، إنه إثم الكتابة، التي تجمعت في كتب فأثقلت حقيبتي، زبناء الدرجة الأولى تضايقوا من الجملة أعلاه، قال فاهمهم لا يمكن أن يلقى بنا في آخر الصف. أما زبناء الدرجة الأولى فقد ارتموا في مقاعدهم بسهولة لم تكلفهم إلا خطوات قليلة، فراحوا يتشفون في الزبناء الأجلاء ولهاثهم نحو الدرجة الأولى، وكأنهم يتسابقون نحو مقاعد السياسة كدت أجزم أن لاوجود للدرجة الأولى إلا على الورق، مما جعل فاهمنا يحتج، غير أنهم كانوا بارعين في إطفاء جمرة غضبه أقنعوه أن الدرجة الأولى تصبح أولى حينما يتراجع القطار نحو الخلف، وربما كان هذا تهييئا لنا لقبول وتيرة سير السلحفاة الحديدية. في محطة فاس توقف القطار، قلنا لابأس سوف تشرب السلحفاة مالذ لها من المحروقات وتنطلق وقال فاهمنا سوف تبدل رأسها برأس جديد، غير أن الانتظار طال، فاحتج فاهمنا وكانوا بارعين في امتصاص غضبه، قالوا له احمد الله فقد ربحت ساعة، وعوض أن يتأخر القطار بساعتين عن موعد الوصول، اقتصر على ساعة واحدة احتراما للزبناء، فاقتنعنا بأننا ربحنا خسارة ساعة. ولكنني وصلت متأخرة بأكثر من ساعتين عن الموعد المحدد مما جعلني أعجز عن حل المعادلة وأتركها لفاهمنا وأتدحرج محرجة من هذا التأخر، الذي حمل ثقله الأستاذ بن بيكة رشيد عضو الجمعية حيث وجدته ينتظرني ليرحب بي، بطريقته المعهودة في استقبال الضيوف، وهو يتحدث بحيوية عن أنشطة الجمعية وعن الهم التربوي وأبناء هذا العصر، فجأة وجدتني في فضاء النادي الثقافي لملوية، فضاء واسع زين بلوحات تنم عن ذوق رفيع تلاحقك فيه رائحة القهوة المركزة، وأمام بابه معرض للكتاب سجل فيه الكتاب المغربي حضورا ملحوظا، ابتسم لي الفضاء لأنني تعرفت عليه في السنة الماضية فأدركت أن أرواح الأمكنة لا تعرف الرياء، شعرت فيه بدفء اللحظة المتسللة من رحم القصيدة وصدق الموسيقى، الذي لم يمهلني حتى أصافح أصدقاء الجمعية.
وحلقت طيور الشعر إلى قلوب ساكنة مدينة بركان
كان موعد جمهور مدينة بركان بعد ذلك مع الكلمة الرفرافة، نحو بياض السلم حيث تشد القصيدة يد أختها ليسير الكل منشدا حلم البشرية بدوام اللحظة الشعرية، ودفء ملامحها، وقد قدم الشعراء الأستاذ بنعبد الله عبد الحميد هذا الشاعر الذي كانت طريقة تقديمه للكلمة تفضح انتماءه الشعري من حيث لا يدري، حيث قرأ الشعراء عبد الرحمان بوعلي وبعده الشاعرة مليكة صراري، والشاعر يحيى عمارة، والشاعر حسين خضراوي والشاعرة ثريا أحناش. وكانت الموسيقى تعانق الشعر في حميمية، عميقة رقراقة تتماوج مثل شلال ماء يصعد نحو الأعلى وخلفه تولد منابت الأزهار، وتتكاثر أجنة الكلمات،تخيلت أن الفضاء بعد مغادرتنا سوف يجد نفسه غارقا في رداء شعري أخضر.
الروائي سعيد ملوكي وآخر السراب
كانت الكلمة في رحاب النادي ماتزال تتنقل بأجنحة من شعر في عالم الكتابة، فقد كان موعد جمهور بركان معالروائي المغربي الذي قدمه المبدع محمد العتروس باعتباره روائيا مكتويا باللغة الفرنسية،حيث هجر القصيدة متسللا إلى عالم الرواية المتسع، ربما لأن القصيدة أرهقته بقلقها اللامحدود فجاءت روايته كقصيدة شعرية مسبوكة. ثم أعطى الكلمة للدكتور عبد الله جغنين الذي أشار في البداية إلى أن المناسبة هي مناسبة حفل توقيع، وليست ندوة أو قراءة نقدية وهذا يقتضي الاقتضاب، ثم أشار في كلمته إلى أن رواية "آخر سراب" تعتبر إضافة نوعية للمشهد الروائي المغربي من حيث الجدة والجديد الذي تقدمه على المستوى الشكلي، مشيرا إلى أن الرواية أحدثت قطيعة مع الرواية الكلاسيكية، وهي رواية البطل الوحيد. بعد ذلك تدخل الأستاذ عبد الرحمان بوطيب الذي أشارفي البداية إلى أهمية الكتابة الروائية بمدينة بركان، ثم تناول رواية "آخر سراب" من حيث شكلها وتقنياتها الكتابية، المتمثلة في شعرية لغتها، وفي حضو رقوى فاعلة حيوانية ذات بعد سريالي، أما الدكتور عبد لله حموتي فقد تمحورت مداخلته القيمة حول مقارنة بين روايتي "الحضرة" و"آخر سراب" للروائي سعيد ملوكي محددا اوجه الاختلاف والتشابه بين الروايتين كما أشار إلى حضور الفضاء والزمن في مقابل غياب أو خفوت الشخصية وتعويضها بحضور العنصر الحيواني و حضور الألوان. واختتمت الجلسة بشهادة للروائي المحتفى به الأستاذ سعيد ملوكي، الذي حدد السياق العام للرواية والمتمثل في كونه ينتمي لجيل الخسارات السياسية الكبرى، وفي القطبية الأحادية التي تدير العالم وفي تراجع قيم الحرية وحقوق الإنسان. الباحث السيميائي سعيد بن كراد،العوالم التي لاتغطيها اللغة عوالم عارية. كانت مداخلة الأستاذ سعيد بنكراد بعد توطئة قدمها الأستاذ عبد الرحمان بوعلي، عرف فيها بالباحث السيميائي الشهير سعيد بنكراد، مذكرا بأهمية المحاضرة المتمثلة في ارتباطها بعلم جديد، رغم مالها من بذور في التراث العربي، مذكرا بعلميه. الشهيرين سوسير وبيرس، وبأن السيميائيات وصلتنا عن طريق ترجمة بعض اعمال هؤلاء الرواد، ملفتا الانتباه إلى أهمية مجلة علامات التي يديرها الأستاذ سعيد بنكراد لما تقدمه من خدمة جليلة، لعلم العلامة خاصة في مجال النقد. بعد هذه التوطئة حزمنا أحزمتنا في انتظار أن نغرق في بحر النظرية، غير أن الأستاذ سعيد بنكرا د طلب منا أن نطمئن، وأنه سوف يجنبنا متاعب النظريات، معرفا بنفسه من زاوية نظر أهله وجيرته بمدينة بركان، الذين لم يعرفوا عنه أكثر من أنه مدرس ومدرس للكبار، كما عبر عن فرحته اللامتناهية لتواجده في منطقة انزرعت فيها بذور طفولته مدينة بركان، ثم انطلق من تعريف المحيط الخارجي وهو موضوع خارج الذات، يحتاج إلى سلسلة من القواعد كي يدرك، وأن المعنى ليس محايثا للشيء ولا سابقا عليه بل هو حصيلة لما تضفيه الممارسة الإنسانية إلى الوجود المادي الذي يميز الأشياء، على اعتبار أننا نودع شيئا من ذواتنا في هذه الأشياء عبر ترميزها، مشيرا إلى أن عالم الرمز أرحب بكثير من العالم الحسي المحيط بنا، لأن عالم الرمز يفتح نوافذ التخييل، ويحول الوجود الموضوعي بواسطة اللغة من صورته النفعية البسيطة إلى صورة أعمق لاتكف عن التوالد، وقد ضرب مثلا بنسقية الشم في مجال اللقطة الإشهارية وهي تقدم منتوج العطور، فتحوله من منتوج مقاوم للرائحة الكريهة، إلى منتوج مغر يدرك كيف يمسك بلاشعور المستهلك.
المسرح يحتفل بمدينة بركان، عرضا وتنظيرا
في ملتقاها الثاني، أقسمت المدينة أن تخلد ذاتها من خلال عرضين مسرحيين وآخر تنظيري المسرحية الأولى سند وباد من تأليف الكاتب المسرحي ابن مدينة بركان عبد الحفيظ المديوني وإخراج المبدع عمر درويش، ومن تقديم جمعية البيئة والإ نسان /عبد الله عزاوي/ وتشخيص المبدعين عبد الرحيم يوسفي ويحيى مسعودي، تجسد المسرحية صراع الإنسانية حول الأرض والماء وترسيم الحدود، وانعدام الثقة وعقدة الزعامة، والوصاية الأحادية على العالم، وقد قدمت المسرحية بلغة محلية ولكنها وظفت الرمز مما جعلها تخرج من عالمها المحلي إلى عالم أرحب، وقد تلت المسرحية مناقشة هامة جدا.
وكان للطيور الصغيرة عرض مسرحي أيضا
على الخشبة سرب من الطير، اكتشف التحليق عبر الكلمة والحركة، أطفال ابتعدوا قليلا عن طفولتهم كي يتخلصوا من ملاحقة الكبار، وتقمصوا طفولة الأرنب والقنفذ والببغاء والشمس والشجرة، لمدة أربعين دقيقة وقد تقمص دور القنفذ الطفل مختاري محمد، وأدى دور الببغاء الطفل حمزاوي أنس، كما تقمص أيمن مسعودي دور الشجرة، ومثل دور الشجرة الثانية علاء مختاري، فيم مثلت دور الشمس الطفلة منال عسو وكان ياسين القشيري أرنبا على الخشبة، وللتذكير فقد كانت المسرحية من تأليف الأستاذ يحيى المسعودي، وإخراج مدير مدرسة الممثلين الصغار أقواس ببركان الحسن المختاري، كما أن المسرحية حازت على جائزة المهرجان الربيعي لمدينة الناظور، لم يفتني ان ألتقط من هاته البراعم فرحة الخشبة ،فأجريت استجوابا طفوليا مع عالم الطفولة... قالت دعاء مختاري/ القنفذة ان بدايتها بالمسرح كانت السنة الماضية بأداء دور في مسرحية بعنوان فضاء الحب، وقد فازت بدور أحسن ممثلة. أما يوسف العامري فقد كان أصغر أعضاء الفرقة عمره يقارب ست سنوات، وكانت فرحتهم أكبربكثير من قلوبهم الصغيرة، وقد نوه الأستاذ عبد الحميد بلغة المسرحية الفصحى ملفتا الانتباه إلى ضرورة استغلال المسرح بالمؤسسات التعليمية كوسيلة تعليمية. وقد كان موعد جمهور بركان يوم الجمعة مع عرض مسرحي قيم، ألقاه المخرج المسرحي الكفء عمر درويش، وهو ابن مدينة بركان. استفاد من العرض مؤطرو الجمعيات والمنشطون في مجال المسرح، وقد عرف فيه بكيفية استغلال فضاء الخشبة وكيفية توزيع الأضواء ودلالة الألوان في المسرحية، وضرورة تشبع الممثل بالنص المسرحي، ودور المخيلة في التمثلات الذهنية، كما تخلل العرض نقاش هام.
التراث الشعبي والهوية الثقافية
في لقاء مركب بين النظرية والإيقاع، وفي حلة ممتعة كان موعد الحضور مع باحثين في التراث الشعبي ومع الشيخ أحمد ليو احد رموز الأغنية الشعبية بالمنطقة،وبتنشيط الزجال أحمد يعقوبي. لقد ركز الأستاذ سامي وعلي في مداخلته على دواعي اهتمامه بالبحث في التراث الشعبي، وعلاقة هذا التراث بالهوية والتنمية،والتعريف بمصطلح التراث الشعبي، ومجالات ونماذج من التراث الشعبي المحلي،ونصوص منه في سياقات مختلفة بالمنطقة. اما الأستاذ راكب ميمون وهو باحث مختص في تراث المنطقة الشرقية، فقد ركزت مداخلته على محورين، ارتبط المحور الأول ببعض قضايا النص الشفهي الغنائي، ودور الإيقاع وتجلياته في الثقافة الشفهية، أما المحور الثاني فقد كان حول المصطلحات المرتبطة بالقصيدة البدوية والاتجاهات الفنية من قبيل القبلي وهو اتجاه تقليدي للنضم والغناء. شكرا لمدينة بركان وسكانها ولأعضاء الجمعية دون استثناء، شكرا للوردتين الصغيرتين اللتين أعادتاني إلى طفولتي ابنتي الاستاذ الزكي، شكرا لقلب الطبيعة الأخضر، ومزيدا من التطهير الشعري والفكري لهذا الفضاء الجميل.

مليكة صراري
الدار البيضاء

9/7/2009


11 07 2009

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire