28/12/2009

تراب و فناء في تشكيلات مديوني

لوحة : عبد الحفيظ مديوني
¤

يستمد الرسام عبد الحفيظ مديوني أشكال لوحاته من الأمكنة التي يرتادها بمدينته بركان و قسمات شخوصه من الوجوه التي اعتاد على رؤيتها بمنطقته الشرقية، و بصمات رسومه من أنامل الأيدي التي يصافحها أثناء تجواله بين أرجاء الصالونات الثقافية. و هو لا يحتاج إلى تقديم مطنب للتعريف بشخصيته الفنية فخرجاته الإبداعية رغم قلتها كافية لتدوين اسمه ضمن قائمة المبدعين المغاربة الذين طبعوا أروقة المعارض بامتياز، سواء داخل المغرب أو خارجه، بلوحات جميلة ذات صباغة وازنة تبقى عالقة على الأذهان و لا ينساها المشاهد بسهولة؛ سيما و أنها أنجزت بعناية فائقة و بطريقة معتبرة تنم عن أسلوب فريد يثير الفضول و يدعو إلى الترحال عبر مساحات لونية مستقاة من الطبيعة و الأوحال التي تجرفها السيول، و إلى التحليق بدون عناء حول فضاءات مفعمة بتصاميم لا تخرج عن المألوف في غالب الأحيان، أسقطت بدقة متناهية وسط سراديب غائرة لا تظهر للعيان بسهولة، و داخل غياهب ضيقة تخنق الإطار بألوان غامقة ترخي سدولها على المكان، و تغرقه في قتامة كثيفة تحجب عنه الضوء و فساحة السماء، و تثقله بعتمة داكنة سميكة تطمس الأنقاض لكنها توحي بالتقادم و تراكم الأزمنة. و رغم ذلك كله يبقى فضاءً يعج بالحركة و الدينامية، و تضفي عليه الايحاأت نوعا من الحيوية فتبدو هياكل الاشياء الجامدة كائنة غير منتهية ، دائمة التفاعل ، خاصة من خلال رتوشات عمودية بارزة تخترق الخلفية و تحتك بالهوامش لتصنع نسيجاً من الألوان مستوحاة من أجور الأسوار، و صخور الأرصفة، يأخذ العين و يغريها لتكشف أشكالاً هندسيةً غير متساوية تذكّر بفئات المجتمع المختلفة، تقبع مجتمعة بين أحضان الأعمدة و الأقواس، و تحمل بين أحشائها بنايات تلقائية تزخر بها مدن مغربية عريقة تحتضن في صمت و رهبة طباعاً و طقوساً موغلة في التاريخ، تتراءى على شكل موجات لونية أُعدّت بتلك الطريقة لتخلق تناغماً بين الماديّ و المثاليّ، الشيء الذي يجعل الحيطان و الأسوار تتدافع، فينفض عنها الطلاء، و تفصح عن كل ما في جعبتها من خبايا و مستورات تنفجر على سطح القماش، و تصبح الواجهة بفضل ذلك صلبة متينة، و بدون خلاء لا تأخذ بلونها الترابي هذا أية صورة انكسارية ضعيفة. و ممّا ذكرناه تبرز موهبة هذا الفنان الذي يتعمد النفاذ إلى أعماق الأماكن، فالفرشاة أداة عجيبة عنده، يستعملها للولوج إلى عمق الأشياء، تنفض عنها الغبار لتسليط الضوء على الأبعاد الخفية. و اللوحة أعلاه نموذج لما ذكر، ففي هذه التحفة بالذات تتلاشى المرئيات بفضل طريقة الاختراق هاته، و تبقى الأحاسيس وحدها التي تطفو على الأجواء و النواحي، و تطفو حول جميع المباني و المساكن ممتطية بساطاً كستنائياً يوحي بالعقليات المتعاقبة المشار إليها بواسطة شظايا هذا اللون المتطاير على شكل كويرات جوفاء عائمة، تأخذ لوناً داكناً و تحوم حول جميع الأمكنة، و تتحرك مع تيارات هوائية تكسر صمت البنايات المرسومة في قالب فني رفيع بعيد عن الزخرفة المصطنعة، ممّا يضفي عليها أبعاداً إنسانيةً ملتحمةً كأنها كتلة واحدة متجانسة. و ذلك إشارة من الرسام لتضامن الأسر المغربية و ترابطها، و هذه الأبعاد كلها لا تقصي في شيء الأزرق لون الخصوبة و التناسل الذي يحيط بالمقام و يهيب هالة على أقواس و مآذن تستمد أشكالها من التراث العربي الإسلامي، و تبقى شامخة لتؤرخ لأحداث غابرة . و من هنا يتضح أيضاً أن هذا المبدع لا يرسم مشاهد غير معهودة، و لا يتعمد إقبار و ردم الأماكن المهجورة و طمس الأنقاض، بل يمنحها الحياة و الدفء لتنسينا لون الفناء و الدمار الدامس الذي يحجب الشمس بسواده. و نظرة رسّامنا هذه تفصح عن أنه ينطلق في أعماله كلها من إيمانه الراسخ بأن جوهر الأشياء لا يفنى، و أصولها لا تندثر مهما تراكمت عليها الرسوبات المختلفة، و اختفت ألوانها المشعة

بقلم : عبد السلام صديقي


11 05 2009

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire